· لأول مرة في تاريخ دولة إسرائيل، يحاول مجلس التعليم العالي إغلاق قسم في إحدى الجامعات [قسم السياسة والحكم في جامعة "بن- غوريون" في بئر السبع]. وفي الظاهر تبدو الأسباب التي يجري التذرع بها مهنية بحتة، ومنها أن الباحثين في القسم لم ينشروا أبحاثهم في المجلات الصحيحة، وأنهم يركزون على الجوانب النظرية أكثر من اللزوم، وأن أبحاثهم النوعية أكثر من الكمية، وما إلى ذلك. حتى لو كان كل ذلك صحيحاً، فإن من الواضح للجميع أن هذه الأمور لا تستلزم ولم تستلزم حتى الآن الإقدام على إغلاق قسم جامعي في إسرائيل.
· إن الدافع الحقيقي للحملة ضد القسم المذكور هو أن كثيرين من أعضاء الطاقم الأكاديمي في القسم هم يساريون عبروا علناً عن انتقادهم الشديد لسياسة الحكومة. ولقد بدأت هذه الحملة من طرف منظمات اليمين، التي هددت رؤساء الجامعة بوقف التبرعات الخارجية للجامعة إذا لم يقيلوا من العمل المحاضرين المتماثلين مع اليسار. وعندما أخفقت هذه المساعي، لجأ أعداء القسم إلى طرق التفافية، لكنها لا تقل فظاظة. ولا يتسع المجال هنا لوصف كل مظاهر الخلل والقصور في عمل لجنة الرقابة، الاعتيادية في الظاهر، والتي عينها مجلس التعليم العالي لدراسة أوضاع القسم الجامعي ذاته، غير أن كل من يعرف كيف تعين مثل هذه اللجان في إسرائيل، يمكنه أن يتكهن ما حدث لدى تعيين هذه اللجنة: تعيينات تستند إلى المحسوبية؛ استبعاد كل من يبدو كصاحب رأي مستقل؛ تجاهل رأي الأقلية... إلخ. ولعل الشيء المفاجئ هو أنه بعد أن تبنت الجامعة على عجل جميع توصيات لجنة الرقابة، وعملت بناء على توجيهاتها، وحظيت بالثناء الحار من جانب الخبراء الخارجيين الذين عينتهم اللجنة ذاتها، جاء مجلس التعليم وقال: حسناً. ومع ذلك سيتم إغلاق القسم.
· إن حملة مجلس التعليم العالي الإسرائيلي على قسم السياسة والحكم في جامعة "بن غوريون" ليست استثناء أو حدثاً منفرداً، وإنما هي جزء من انهيار شامل للقيم والنظم، وأتت بإيعاز من جهات عليا. فلقد شرعت الحكومة، في نطاق حملة شرسة منقطعة النظير، بتصفية أو بالسيطرة على جميع الأطر والمؤسسات التي يفترض أن تدافع عن الجمهور، وأن تتيح الجدل الحر في الدولة وتصونه. وعلى سبيل المثال فقد تحول مجلس إدارة القناة الأولى للتلفزة الإسرائيلية منذ فترة طويلة إلى فرع للحزب الحاكم، والنتائج تبدو جلية لكل من يلقي نظرة على جدول البث في هذه القناة وفي الإذاعة الرسمية [الشبكة الثانية]. والوضع في محطة إذاعة الجيش الإسرائيلي ["غالي تساهل"] أكثر خطورة، بينما باتت أيام محطة القناة العاشرة للتلفزة معدودة كما يبدو.
· فضلاً عن ذلك، تواجه منظمات حقوق الإنسان حملة سن قوانين لا مثيل لها، انطلقت منذ تشكيل الحكومة الحالية. وهناك أيضاً حملة لا تقل خطورة على النيابة العامة للدولة، وعلى جهاز القضاء، وبالأخص على المحكمة الإسرائيلية العليا. كذلك فإن الوضع في جهاز التربية والتعليم برئاسة الوزير جدعون ساعر [ليكود] خطر بشكل خاص، وقد صمم ساعر بنفسه مجلس تعليم عالياً يصادق على كل قرار يصدر عنه، وهكذا فإن هذا المجلس الذي يتمثل هدفه الرئيسي في الدفاع عن الحرية الأكاديمية في إسرائيل، تحول إلى كلب شرس مسلط من جانب الحكومة على الأكاديميا، وإلى أداة أو وسيلة لكم الأفواه.
· إن مَن يعتقد أن حياته ستستمر كالمعتاد، حتى وإن أقيل عدد من المحاضرين من ذوي التفكير النقدي في جامعة "بن- غوريون"، محق في اعتقاده، لكنه يرتكب في الوقت ذاته خطأ فادحاً. صحيح أن الحياة سوف تستمر، لكن حملة الحكومة لن تتوقف عند قسم السياسة والحكم في جامعة "بن- غوريون". فما دام مجلس التعليم العالي معيناً من قبل ساعر، وما دامت وزيرة الثقافة ليمور ليفنات [ليكود] تشكل على هواها مجلس إدارة الآثار، فلن يكون بعيداً ذلك اليوم الذي سيتم فيه تحديد مضامين التعليم في الجامعة من طرف مركز حزب الليكود. وبشكل عام فإن كم الأفواه يمكن أن يشمل أيضاً عناصر في جهاز الشرطة، والمستشفيات، والسلطات المحلية، والنقابات المهنية، والقائمة طويلة.
· في إمكاننا دائما أن نتغاضى، وأن نقول إن ذلك يتم "بموجب الأصول والقواعد"، وأن ندعي بأنه يمكن تسيير دفة الدول أيضاً من دون أي صوت نقدي، وبأن الحديث يدور على حفنة "يساريين" و"خونة" وما إلى ذلك. لكن حين نصحو ذات صباح على إسرائيل كدولة شمولية استبدادية، من دون محكمة عليا، ومن دون منظمة "بتسيلم" لحقوق الإنسان [في المناطق المحتلة]، وكدولة يحظر فيها على المرء أن يحكي نكتة عن رئيس الحكومة من دون أن يجازف بإقالته من عمله أو باعتقاله، ربما سنتذكر عندئذ اللحظة التي أغلق فيها مجلس التعليم العالي الخاضع لسيطرة ساعر ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو أول قسم في جامعة إسرائيلية.