الاستراتيجيا الإسرائيلية لحقبة ما بعد سايكس - بيكو
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

– Strategic Assessment, Vol. 8, No. 1, April 2015, pp. 57-70
المؤلف

صعود نظام سايكس - بيكو وانهياره

خلال المئة عام الماضية، جرى ترتيب قسم كبير من منطقة الشرق الأوسط، التي كانت تشكل الطرف العربي للإمبراطورية العثمانية المنهارة، ترتيباً مبنياً على أساس منطق الدولة القطرية مثلما حدده [البريطاني] السير مارك سايكس و[الدبلوماسي الفرنسي] فرانسوا جورج بيكو. وفي أعقاب اتفاق عام 1916،[1] رسمت حدود اعتباطية لكيانات ضمت مجموعات إثنية ودينية متباينة، فتشكلت دول بهويات فضفاضة. وكان تنظيم المنطقة على قاعدة منظومة دول، جديداً عليها، لأنها كانت قائمة على أطر عشائرية وقبلية وإثنية ودينية خاضعة من بعد لسيطرة امبراطوريات أجنبية.

إن ما حافظ على نظام سايكس- بيكو أنظمة حكم قاسية عملت لخدمة نفسها فقط. فالدولة لم تكن وسيلة لحق تقرير مصير أمة، وإنما في المقام الأول إطاراً لتوفير فرص ومشروعية استخدام القوة، خدمة لمصالح الحاكم. وفي المرحلة الأولى، كان النظام مبنياً على ملوك، بقيادة الأسرة الهاشمية التي تعود أصولها إلى [ما هو اليوم المملكة] العربية السعودية [المقصود الحجاز]. وقد أعطيت هذه الأسرة السيطرة المتعاقبة على كل من سورية والعراق والأردن. أما الموجة الثانية التي مرت على منطقة الشرق الأوسط، فتمثلت بأنظمة عسكرية، علمانية واشتراكية في الظاهر. وقد دعم كل من الملوك والجنرالات فكرة هويات قومية عربية متميزة في سبيل تعزيز شرعية الدولة والشخص الذي يمسك بمقاليد السلطة.[2] وكان هذا جلياً بنوع خاص في الدول التي كان ينتمي فيها الجنرالات إلى أقلية دينية أو إثنية (مثل سورية والعراق).

أما الموجة الثالثة التي مرت على المنطقة فكانت موجة إسلامية. والأساس المنطقي لإعادة تنظيمٍ المنطقة قائم على أساس ديني لا يتوافق بالضرورة مع اتجاه توجه الدولة القومية، ومن المرجح أن يتجاهل الحدود أو يعيد هندستها. وفي الوقت نفسه، فإن مصطلح "موجة إسلامية" هو بحد ذاته مضلِّل ويشمل مدلولات متباعدة قطبياً. ونقاط التباين هي أكثر من القواسم المشتركة بين الحركات الإسلامية السنية والحركات الإسلامية الشيعية؛ وبين الحرس القديم لجماعة "الإخوان المسلمين" والحركات الجهادية الجديدة (مثل تنظيم "داعش")؛ وبين تنظيمات ذات توجه قومي وإقليمي (مثل حركة "حماس") وتنظيمات [جهادية] دولية (مثل تنظيم "القاعدة")؛ وبين مؤسسات محافظة تسعى لإدامة الوضع الراهن (مثل الحركة الوهابية في السعودية) وأولئك الذين يحاولون تدمير النظام القائم.

وقد أفضى ضعف فكرة قوميات عربية متميزة إلى أن يشهد العراق، وسورية، ولبنان، واليمن، والسودان، وليبيا، مراحل مختلفة من التفكك؛ وقد تلحق دول أخرى بهذه الدول. وقد أوجد هذا التفكك الظروف الملائمة لصعود قوى أخرى مثل الحركات الجهادية السنية، والحركات الشيعية، والمجموعات الإثنية مثل الأكراد والدروز، ومجموعات ذات هويات محلية أو قبلية.[3] وعلى نقيض الأنظمة العسكرية للموجة الثانية التي حافظت على أطر الدولة التي وضعت تحت إمرة الملوك في الموجة الأولى، تتميز الموجة الثالثة بموقف ملتبس، لا بل بعدائية مطلقة تجاه مفهوم دول قومية [قطرية] عربية منفصلة.

هناك تفسير أكثر احتمالاً من قول إن الحركات الجهادية تسببت بسقوط الدول، ألا وهو أن الحركات الجهادية هي نتاج الفراغ الناشئ عن انهيار إطار الدولة. فقد ولدت منظومة الدولة بطريقة اصطناعية ولم تكتسب أبداً أي محتوى جماعي حقيقي، ومقاومتها للتحديات كانت ضعيفة بأية حال، وكان جلياً أنه عاجلاً أم آجلاً سوف تبرز عناصر تتسبب بتأكلها. وتبعاً لذلك، إن لم يكن من المؤكد أن لاعبين حاليين في الميدان، مثل: تنظيم "داعش"، و"جبهة النصرة"، سوف يسودان اللعبة في الأعوام القادمة، فإنه بالتأكيد يوجد أساس للافتراض أن لاعبين غير دولتيين (سواء حاليون أو جدد) سيواصلون تحدي الأساس المنطقي لسايكس - بيكو.

أربع دول قومية، الممالك الجنوبية، والعاصفة المحيطة بها

في منطقة الشرق الأوسط هناك أربع دول قومية متميزة بهوية راسخة، ومستوى من الأداء والحوكمة يتيح تماسك الدولة بالقدر الكافي. وعلى الأرجح، ستواصل هذه الدول الأربع، وهي: إسرائيل ومصر وتركيا وإيران، لعب دور رئيسي في المستقبل كذلك. إن كلاً منها يواجه تحديات شديدة، لكنها جميعها تمتلك تضامناً قومياً وأدوات دولة بقدر كاف يمكنها من مواجهة هذه التحديات بشكل ملائم. وبرغم الصدمات العنيفة التي تلقتها الأنظمة (إيران في 1979، مصر في 2011 و2013، ثورة أردوغان البطيئة في تركيا)، بقيت هيكلية الدولة متماسكة.

وكل واحدة من هذه الدول متاخمة لدولة قومية واحدة أخرى. وبتعبير آخر، يمكن عموما تحديد الديناميكية على أنها بين دول غير متجاورة في معظم الأحوال. إن إسرائيل ومصر هما حالياً لاعبان راغبان بالمحافظة على الوضع القائم، ويسعيان الى تفادي موجات الصدمة، بينما إيران، وبدرجة أقل تركيا، تسعيان إلى إعادة هندسة النظام الإقليمي لصالحهما. وتتميز إيران بتشغيلها أدوات تعمل بالوكالة وقوى تعمل في السر أصبحت الآن لاعباً مسيطراً في كل من العراق وسورية ولبنان واليمن. وتبسط طهران أذرعها الطويلة في مناطق أخرى أيضاً، حتى إنها وصلت الآن إلى شرق أفريقيا، وآسيا الوسطى، وهي تؤثر في الدول القومية الثلاث الأخرى.

وعلى الرغم من المنافسة القائمة بين بعض الدول القومية الأربع، فإن الحسابات الاستراتيجية لا تملي علاقة حتمية محددة فيما بينها. واليوم، يمكن بالفعل وصف ديناميكية ثلاثية الأقطاب، حيث تتناغم إسرائيل ومصر (والعربية السعودية)،[4] في تنافسها مع كل من إيران وتركيا. بيد أن طيفاً واسعاً لديناميكيات مستقبلية ممكن، وقد يتضمن سباقاً متعدد الجوانب على النفوذ ومواطئ القدم، أي نوع من "لعبة كبيرة" (Great Game) تدور رحاها في الشرق الأوسط:[5] عودة "حلف الطوق الخارجي" (periphery pact) الذي تشكل في خمسينيات القرن العشرين عندما شكل لاعبون غير عرب جبهة ضد العرب؛ استمرار التعاون بين إسرائيل والدول السنية الحالية؛ حلف إسرائيلي - تركي استراتيجي (على غرار التحالف خلال السنوات العشر 1992 - 2002)؛ وربما أيضا حلف إيراني - إسرائيلي (مشابه للتحالف الإسرائيلي مع السلالة البهلوية). وفي الواقع، إن نظرة إلى المستقبل تكشف أن أي اصطفاف للقوى ممكن بناء على التفسير المتغير لحسابات كل دولة من الدول القومية الأربع.

وإلى الجنوب من المنظومة الإقليمية، ثمة تشكيلة من اللاعبين الإضافيين: مملكتا الأردن والعربية السعودية، وإمارات الخليج. وحتى الآن، تجاوزت الممالك عاصفة "الربيع العربي" مع أن قدرة بعضها على تحمل تحديات جوهرية متواضعة. ففي الأردن، تحكم أسرة من أصول سعودية [المقصود أن أصلها من الحجاز] أغلبية فلسطينية، في حين غمر البلاد لاجئون من سورية والعراق. وفي الوقت نفسه، تكتسب الحركة الإسلامية قوة، الأمر الذي يثير مخاوف حول قدرة الأسرة الهاشمية على البقاء. وتضم السعودية عدداً كبيراً من الوافدين الأجانب، وهي موطن لأقلية شيعية ميالة إلى التحدي. وقد أصبحت منظومة الدولة أكثر اهتزازاً، وهناك قلق حول قدرة آل سعود على البقاء. إن الممالك (باستثناء [إمارة] قطر) هي أيضاً من فئة لاعبي الحفاظ على الوضع القائم.

إن المجال الواقع بين الدول القومية الأربع والممالك الجنوبية يشهد عاصفة متنامية. وبالفعل، يتعذر رسم لوحة تحليل ديناميكي لهذا المجال، بشكل رئيسي بالنسبة للجزء (segment) السني من المنطقة الذي يعاني التفكك وهيكليات سياسية واجتماعية ضعيفة، واضطرابات. علاوة على ذلك، إن ما يدعى "تنظيمات" سنية، لا تمتلك بالضرورة بنية جلية أو آلية صنع قرار منظمة، فالولاءات والهويات تتغير مراراً وتكراراً، وتتراوح من النزعة المحلية إلى الجهاد العالمي. والعديد من نشطاء التنظيمات الجهادية ليسوا من نفس خلفية السكان المحليين الإثنية. ومن غير المؤكد إن كان اللاعبون الحاليون سيواصلون إملاء الديناميكية المستقبلية، لكن من المرجح أن اهتزاز منظومة الدولة، وتحكّم مجموعات مسلحة بالجماهير والرأي العام الصامتين، وعدم الاستقرار، سوف يبقى السمة الغالبة للجزء السني من المنطقة.

وعلى النقيض من ذلك، فإن القطاعات من الشعب (segments) التي تشكل هيكليات تنظيمية وسياسية أكثر تماسكاً، تتكون من مجموعات إثنية ودينية متميزة مثل: الأكراد (وبدرجة أقل الدروز وسواهم)، وبالتأكيد الشيعة وحلفاؤهم (مثل العلويين). وتحدد القطاعات الشيعية في المنطقة أهدافها السياسية بوضوح، وتعتمد استراتيجيا عقلانية، وتجسد بنية هرمية تقودها يدٌ إيرانية مرشدة. ويواجه الشيعة تحديات شديدة، أساساً في الأماكن التي يشكلون فيها أقلية، لكن إيران تزودهم بدعم استراتيجي، وقدرات صناعية، وخبرة. وحيثما يكون الأمر ممكناً تسعى المنظومة الشيعية إلى إنشاء تواصل إقليمي. وهكذا أصبحت منطقة القصير، لكونها تربط المنطقة الشيعية في لبنان بمنطقة العلويين في سورية، مركز ثقل في الحرب الدائرة.

قد يؤثر في تشكيل الديناميكية المستقبلية للنظام الشيعي في منطقة سايكس - بيكو التوتر القائم بين مزاياه النوعية، من جهة، واحتمال أن تفرط إيران في التمدد اعتماداً على تكديس مواطئ القدم والحلفاء، من جهة ثانية. ومعنى الإفراط في التمدد في هذا السياق هو مراكمة التزامات زائدة تتطلب تكاليف باهظة: اقتصادية، وعسكرية، ودبلوماسية، وسياسية - داخلية، وذات صلة بالمشروعية. وهذا قد يؤدي إلى إضعاف إيران، أو إلى تخليها عن بعض جهودها، أو إلى أن تجد نفسها مثبّتة بالتزامات محددة تقيد حرية حركتها أو تحد من الاهتمام الذي تستطيع أن توليه لمسائل أخرى. إن اقتصاد إيران لجهة الموارد شبيه باقتصاد الأرجنتين أو ولاية ميريلاند الأميركية، لكنه يعمل في آن واحد داخل عدد متزايد من الساحات المشحونة بالاحتكاك. ومع ذلك، فإن النمط الذي تعمل بموجبه إيران، المبني على استخدام سكان محليين ووكلاء، يخفض التكلفة الاقتصادية لانخراطها في ساحات متعددة. وفي جوانب معينة، ومن وجهة نظر إيرانية، الاحتكاك ليس بالضرورة مزعجاً أو مرهقاً، وإنما هو مسار عمل مفضل، أو على الأقل يمكن احتماله. ومع ذلك، لا يستطيع أحد أن يؤكد أن إيران لا تتحمل أي تكلفة كبيرة (من أي نوع)، نظراً إلى كونها متورطة بمستويات متباينة من الحدة في عدد متزايد من الساحات؛ فهي تدعم وكلاءها وسكاناً محليين؛ وتستفز العربية السعودية ومصر وإسرائيل وتركيا ولاعبين آخرين. ويتعين عليها أن تدير شبكة معقدة ومتشعبة من المصالح والاستراتيجيات.

وبطبيعة الحال، فإن القوى الكبرى العالمية تؤثر أيضاً في الديناميكيات المستقبلية للمنطقة. وعلى مدى 15 عاماً أعقبت حرب الخليج الأولى في العام 1991، كانت الولايات المتحدة الأميركية هي المهيمن الأوحد على منطقة الشرق الأوسط في مرحلة كانت تبدو محكومة بالسلام الأميركي (Pax Americana)، غير أن حربي أفغانستان والعراق أوصلتا إدارة جورج دبليو بوش (في آخر عهده)، وأكثر منه إدارة أوباما، إلى نقطة أضحى فيها تراجع الاستعداد الأميركي لتحمل التكاليف والمخاطر هو العنصر الثابت في المعادلة. أما العنصر المتغير فيتكون من أهداف السياسة الأميركية. ويشكل التحدي النووي الإيراني نموذجاً على تماسك وثبات الولايات المتحدة في عدم استعدادها لتحمل المخاطر والتكاليف، وما نتج عن ذلك من عدم التماسك في أهداف سياستها العامة. وفي الواقع، فإن أهدافها تشهد مسار تآكل ثابت. وعلى نحو مماثل، تواجه الولايات المتحدة صعوبة كبيرة في قراءة الخريطة (على سبيل المثال، "الربيع العربي")، وفي تحديد سياسة عامة (تجاه الأسد على سبيل المثال)، وفي ترجمة هذه السياسة إلى واقع. وليس من الواضح ما إذا كانت الولايات المتحدة في عهد أوباما لا تزال ترى العالم من منظور يكشف جبهة حلفاء ينبغي تعزيزها، في مواجهة محور أعداء ينبغي إضعافه. فمن ناحية، كان أوباما نقدياً تجاه حلفاء، بل أسوأ من ذلك (تجاه مبارك، مثلاً)، في حين أنه يسعى حالياً إلى استرضاء أعدائه وأعداء حلفائه (إيران مثلاً). ويقلل ذلك كله من قيمة الرعاية الأميركية. ولعل أوباما يقدّر أن تحقيق توازن مع أعدائه أكثر فاعلية وأقل تكلفة من دعم حلفائه في صراعاتهم.

هناك وجهات نظر متضاربة بين واشنطن وإسرائيل بشأن كثير من القضايا الهامة مثل الملف النووي الإيراني، وعملية "الجرف الصامد"،[6] وأزمة الأسلحة الكيميائية في سورية، أو دعم الرئيس السيسي. لا أحد يستطيع أن يقدّر كيف ستكون سياسة الولايات المتحدة في عهد الرئيس المقبل، بيد أن الواقع الأميركي آخذ في التبدل على نحو يجعل من الخطورة افتراض أن الأمور ستعود إلى ما كانت عليه قبل أوباما. وبالفعل، تشهد الولايات المتحدة تحولاً جيوستراتيجياً لكونها آخذة بالتحول إلى دولة مستقلة على صعيد الطاقة، ومصدرة كبيرة للطاقة. أضف إلى أن الديمغرافيا الأميركية آخذة بالتغير، وتتغير معها رؤيتها العالم. ويتوجب على إسرائيل أن تتهيأ لحقيقة تراجع الاهتمام الأميركي بها وبمنطقة الشرق الأوسط.[7]

استراتيجيا إسرائيلية في مواجهة بيئة مضطربة

إن إسرائيل هي لاعب يحبذ استمرار الوضع القائم ويعمل على الحؤول دون حدوث تغييرات غير متوافق عليها، ودون نشوء تهديدات. وبهذه الصفة، تواجه إسرائيل نوعين من التحديات. الأول، يشمل لاعبين ساعين لفرض تغيير في واقع لا توافقي من خلال استخدام القوة المباشرة، أو غير المباشرة، أو القوة الناعمة. ويتكون هؤلاء اللاعبون اليوم من: دول قومية مثل إيران، وبدرجة أقل تركيا؛ لاعبين غير دولتيين، لكنهم يشكلون جزءاً من نظام فوق الدولة مع قدرات جمة (مثل حزب الله)؛ بعض التنظيمات الفلسطينية؛ لاعبين يجسدون عوارض تفكك الدولة القومية العربية. وفي الحقيقة، ينبغي التمييز بين لاعبين هم أنفسهم السبب الجذري للتحدي (مثل إيران)، ولاعبين هم أعراض لمشكلة أخرى (مثل تنظيم "داعش"). أما التهديد الثاني لإسرائيل، فهو الواقع الحالي للنظام الإقليمي في ظل هيكلياته السياسية والاستراتيجية المهتزة، وقابليته الشديدة للتقلّب . وفي هذه البيئة، أي افتراض يُعتدّ به قابل للطعن فيه. وفي الواقع، ليس هناك شيء يمكن أن يعتبر أمراً مسلماً به.

إن أهداف إسرائيل والتهديدات التي تواجهها تجعل مصالحها متماشية مع مصالح لاعبي الوضع القائم الآخرين، مثل الحكومة المصرية المدعومة من المؤسسة العسكرية، وآل سعود، وبني هاشم. لكن، هناك خطر اندلاع ثورة ثالثة في القاهرة، وخطر سقوط الملكية في الرياض وعمان. وبالتالي، ثمة خطورة في تحويل النظرة الحالية إلى افتراض يمكن التصرف بموجبه. ومع ذلك، يمكن طرح مقولة أن الصدع الرئيسي في المنطقة لم يعد اليوم خط المواجهة بين العرب والإسرائيليين، وأن ما بقي من النزاع الإسرائيلي – العربي، بشكل أساسي، هو النزاع مع الفلسطينيين. لقد كانت دول مثل سورية عدوة لإسرائيل، لكنها كانت أيضا شريكة في تشكيل أنظمة استراتيجية داعمة عموماً للاستقرار. وكانت مفاصل ضعف الحكم العلوي على سبيل المثال، معروفة بالنسبة لإسرائيل، وفي متناولها عسكرياً. وقد أسست إسرائيل ردعاً إزاء النظام [السوري] شكّل أساساً لتوازن استراتيجي. وكان سلوك الحكم العلوي عقلانياً وقابلاً للتوقع، وحتى العام 2011، كان يتمتع بقوة فرض سلطته على كل سورية. وهكذا، قام بدوره المسند إليه في النظام الاستراتيجي. بالإضافة إلى ذلك، يعود الفضل إلى دول سايكس - بيكو المصطنعة والضعيفة، في أن إسرائيل كانت معزولة إلى حد ما عن الدول الأقوى في الجانب الآخر، وبشكل رئيسي عن إيران وتركيا.

ونظراً لما آلت إليه الحال، ولّد تفكك الدول القومية العربية تحديين بالنسبة لإسرائيل: زعزعة الاستقرار المحلي على حدودها، وتغلغل في العمق، مباشر وغير مباشر، لإيران ولاعبين بعيدين آخرين، داخل منطقة قريبة من حدود إسرائيل. بالطبع لا يسع إسرائيل أن تقرر (في مقابل أن تؤثر في) من يقف على حدودها. لكن يبدو أن البدائل هي إما أن يكون لها خصوم أقوياء عقلانيين ومتماسكين، أو خصوم ضعفاء يصعب تحديدهم وتوقع أفعالهم.

تعاني إسرائيل من نقطة ضعف تنافسية في الهندسة السياسية [لمناطق واقعة] ما وراء حدودها. وعندما جربت هذا الطريق، فشلت في أغلب الأحيان.[8] وبناء عليه، حتى لو تسبّب أفول كل من الدول القومية العربية والهيمنة الأميركية بنشوء فراغ يملأه لاعبون متعددون – من الإيرانيين والأتراك إلى الجهاديين والروس- ينبغي ألا تحاول إسرائيل أن تسعى لهندسة ما وراء حدودها سياسياً. وانطلاقاً من هذا الاعتبار، ومن اعتبارات التكلفة كذلك، ينبغي ألا تشارك إسرائيل في "اللعبة الكبيرة" الدائرة في منطقة الشرق الأوسط، أي التسابق للاستيلاء على مناطق نفوذ ومواطئ قدم. ولكن، قد تصل "اللعبة الكبيرة" إلى مناطق قريبة من إسرائيل حيث لديها مصالح حيوية. وبالتالي، لا يمكن كذلك أن تغمض إسرائيل عينيها عما ينشأ ما وراء حدودها.

يتوجب على إسرائيل أن تعمل على لجم لاعبين يسعون لفرض تغيير بالقوة في النظام الإقليمي، وعلى احتواء التهديدات الناشئة، جزئياً، عبر التعاون – حتى لو كان تعاوناً موقتاً وهشاً ومتكتماً - مع أكبر عدد ممكن من اللاعبين الممكنين. وعلى إسرائيل أن تواصل بالتأكيد التعاون مع مصر (في ما يخص قطاع غزة، وشبه جزيرة سيناء، ومصالح مشتركة أخرى)، وأن تسهم في حماية أمن الأردن من تهديدات داخلية وخارجية، وأن تعير أهمية قصوى لميزة المصالح المشتركة مع العربية السعودية. وينبغي على إسرائيل أن تسلح وأن تشارك في تمويل مجموعات إثنية مثل: الأكراد،[9] والدروز، وآخرين. إن لإسرائيل وروسيا عدداً محدوداً من المصالح المتعارضة، ومن هنا، فإن الحوار بينهما ممكن على سبيل المثال بشأن طريقة دعم الاستقرار في سورية، بحيث لا يؤثر عكسياً على مصالح روسية أو إسرائيلية. بل أكثر من ذلك، هناك إمكانية لتحقيق توازن، حتى لو كان موقتاً وهشاً، مع مجموعات محلية مثل "جبهة النصرة" في جنوب مرتفعات الجولان السورية. فبالنسبة لإسرائيل والمجموعة المحلية لجبهة النصرة، الأهم هو منع إيران وحزب الله من تأسيس موطئ قدم في تلك المنطقة. وهكذا يمكن على الأقل التوصل إلى حالة من التجاهل المتبادل (بوصفهما "خصمين غير متقاتلين"). ولئن كانت هذه الإمكانية ضئيلة وقابلة لأن تنحل في أي لحظة، تبقى إيضاحية فيما يتصل بالسعي الحثيث من أجل تطبيق الحد الأقصى من إجراءات الكبح والاستقرار، حتى لو كانت موقتة. علاوة على ذلك، من الضروري إجراء تقييمات متواصلة للوضع، حتى إذا هدد، مثلاً، تنظيم "داعش" بالتمركز في مرتفعات الجولان السورية، فقد يكون في الواقع تواجد حزب الله هناك مفضلاً.

إن حزب الله هو قوة أكثر تهديداً، ولكنه قد يكون شريكاً ملائماً أكثر في تشكيل قواعد لعبة متفق عليها. وفي بيئة غير مستقرة، لا يستطيع أحد افتراض أن خطوة من هذا النوع سوف تنتج واقعاً ثابتاً ومستقراً. ولكن، من شأن سلسلة من الإجراءات الموقتة أن تساعد على ركوب أمواج الاضطرابات. وينبغي أيضاً أن تتوافق القوة العسكرية مع واقع ما بعد سايكس – بيكو. لقد سبق أن نفذ الجيش الإسرائيلي عمليات بعيدة المدى، لكنها كانت صغيرة جداً بطبيعتها، ومحدودة بمواردها وأهدافها. وقد يكون الجيش الإسرائيلي، إلى جانب قدراته التقليدية، مطالَباً بإظهار القوة، ولأول مرة، حتى توجيه ضربة عسكرية واسعة النطاق ضد إيران، التي هي دولة قومية قوية غير محاذية لإسرائيل. بالإضافة إلى ذلك، إن طيف الأعداء غير الدولتيين آخذ في الاتساع. فمن جهة، هناك حزب الله الذي يتوسع إلى ما هو أبعد من نطاق تنظيم حرب عصابات، ويكتسب قدرات دولة قوية، كما أن لديه قدرات تسمح له بالعمل من عمق أرضه التي تمتد اليوم إلى أبعد من مجرد لبنان. وبالتالي، فإن حملة عسكرية ضد حزب الله لها انعكاسات لجهة حجم مسرح العمليات وحدوده والتهديد الذي يمثله هذا التنظيم لإسرائيل.

بالإضافة إلى ذلك، علينا أن نعترف بمحدوديات القوة ضد تهديدات جهادية الطابع وغير دولتية. إن القوة العسكرية قادرة على إزالة تهديدات ملموسة، لكن هناك صعوبة شديدة في إيجاد دول نهائية تمثل واقعاً مختلفاً. فعندما يكون السبب الجذري هو تفكك منظومة الدولة، ويكون التهديد الناشئ عن ذلك مجرد عارض، تستطيع القوة العسكرية معالجة العارض، لكنها لا تستطيع إعادة بناء منظومة دولة تقع ما وراء الحدود. علاوة على ذلك، وبفعل تراخي البنى السياسية وتعدد اللاعبين، من الصعب تقدير محصلة الفعل العسكري سلفاً، وما ينتج عنه من واقع سياسي. وتبعاً لذلك، في هذا السياق، تبقى جدوى العمليات العسكرية الرامية إلى تغيير الواقع محل تساؤل.

إيران تخترق الفراغ العربي

بينما لا تحتم الحسابات الاستراتيجية ضرورة وجود عداوة بين إيران وإسرائيل، قررت إيران أن تضع نفسها في موقع أحد خصوم إسرائيل الرئيسيين. ويوفر ضعف نظام سايكس - بيكو سياقاً جاهزاً لتحويل إيران إلى تحد استراتيجي رئيسي لإسرائيل. من جهة، تضاءل تهديد كان أولياً في ما مضى، أي، تهديد متناظر مصدره دولة مجاورة تستمد دعماً من قوة عظمى مناهضة، ولكن من جهة ثانية، يُنتج الضعف العربي ظروفاً ملائمة لتغلغل إيران في عمق مناطق فيها لإسرائيل مصالح حيوية (هضبة الجولان السورية، لبنان، قطاع غزة، البحر الأحمر، مضائق باب المندب، وغيرها).

بيد أن التحدي الرئيسي هو المسألة النووية. إن تناول هذه المسألة بإسهاب هو خارج نطاق هذه المقالة، لكن يكفي القول إن تحول إيران إلى دولة نووية أو دولة عتبة نووية (مع قدرات اختراق تتيح امتلاك أسلحة نووية متى شاءت)، ينطوي على انعكاسين؛ الأول، هو التهديد المباشر. إن الجزء الأكبر من صياغة مفاهيم علاقات نووية ينبع من الحرب الباردة. لكن هذه المفاهيم أقل صلة عندما يتعلق الأمر بنظام نووي جنيني بين لاعبين إقليميين حيث تكون "الضربة الأولى" عملية وتشكل خطوة لها مسوغها العقلاني.[10] أما الانعكاس الثاني فهو التأثير السلبي على الديناميكية الإقليمية. فقد يخرج من "صندوق ﭘﺎﻧﺪﻭرﺍ" ما يلي: هيمنة إيرانية متزايدة، ازدياد قوة إيران ووكلائها في نزاعات أدنى من نووية، سباق تسلح نووي متعدد الأطراف، تسليح نووي لأنظمة حكم ضعيفة، وفقدان السيطرة على أسلحة غير تقليدية.

لقد أخطأت إسرائيل عندما حاولت أن تكون القوة المحركة لتدويل التحدي النووي الإيراني، وأدى ذلك إلى تضاءل نفوذها فيما يتعلق بالنتيجة النهائية للأزمة. وعملياً، استدعى هذا ترتيباً لا يرقى إلى المعيار الأدنى بالنسبة لإسرائيل، نظراً إلى أن صياغته ستجري من قبل دبلوماسيين يخشون المجازفة ولديهم مصالح أقل على المحك. فجميع الإجراءات المتخذة حتى الآن من قبل اللاعبين المتعددين لم تؤد إلى تخلي إيران عن مقاصدها النووية. وتواصل إيران المناورة تكتيكياً لأجل تحقيق هذه المقاصد. وفي الخلفية، تلمح إدارة أوباما إلى أنها تسعى إلى عقد صفقة مع إيران تسهم في ترتيب منطقة الشرق الأوسط في حقبة تضاؤل مسوغ سايكس - بيكو، وتضاؤل "السلام الأميركي".[11] وقد لا تقتصر الصفقة الكبرى على المسألة النووية، وربما تشمل العراق، وسورية، وتنظيم "داعش" (الذي تصاعد خطره من مرتبة عارض إلى مرتبة مشكلة جذرية)، وبعض الجوانب في أفغانستان، وسواها. وقد يكون أوباما يسعى جاهداً لتوازنٍ مع إيران، ولخريطة سياسية إقليمية مختلفة جذرياً. فإن غيّرت إيران مواقفها فعلاً، فمن المحتمل أيضاً أن يغير واقع كهذا خريطة إسرائيل الاستراتيجية. لكن في غياب سبب جوهري للتغيير، فإن التقييم المعقول أكثر هو أن إيران سوف تستغل جزرة المكافأة التي تعرضها عليها الولايات المتحدة، فضلاً عن فرصة تفادي العصا الأميركية، من أجل دفع أهدافها الحالية قدماً.

إن الاستراتيجيا الإسرائيلية الهادفة إلى احتواء إيران بشكل عام ينبغي أن ترتكز إلى ثلاث ركائز أساسية. أولاً، من الضروري استغلال الفرصة الجديدة للتعاون مع فاعلين من المنطقة بهدف الحد من توسع الهيمنة الإيرانية. ومن الممكن حتى درس إمكانية تعاون مع العناصر التي تنشط في حلبات احتكاك تعمل فيها إيران أيضاً – من أجل زيادة الثمن المنتزع من إيران بحكم التزاماتها في هذه الحلبات المتعددة. ثانياً، من الضروري إظهار القوة مباشرة ضد إيران (وليس ضد وكلائها فقط)، وتطوير القدرة على شن ضربة عسكرية واسعة النطاق ضدها. ثالثا، على إسرائيل أن تحبط "بشكل نشط" (kinetically)، تهديدات ملموسة مختارة في مناطق لديها فيها مصالح حيوية. أما بالنسبة للمسألة النووية، فينبغي أن تسعى إسرائيل للدفاع عن مصالحها الحيوية بالوسائل الدبلوماسية. لكن إذا تبين بوضوح أن الولايات المتحدة تصر على تجاهل مواقف إسرائيل، وأنه ليس أمام إسرائيل خيار آخر، فينبغي عليها أن تلتمس الظروف والوسيلة التي تتيح لها الحصول على تأثير أحادي الجانب على برنامج إيران النووي.

دولة فلسطينية والموجة المعادية لمنظومة الدولة

إن تقلص نظام سايكس - بيكو، وما أعقبه من زيادة قوة القوى العربية المناهضة لمنظومة الدولة وتزايد الهيمنة الإيرانية، ينطوي على عدد من الانعكاسات على المسألة الفلسطينية. أولاً، على الرغم من غياب حل للمشكلة الفلسطينية، حصل تقارب بين إسرائيل والأنظمة العربية التي نجحت في البقاء. ويبدو أن حلاً للمشكلة الفلسطينية لم يعد شرطاً مسبقاً للتعاون (مع أن هذا في الأساس تغيّر مفهوم ضمناً)؛ وبالفعل، إن غالبية الأنظمة العربية الباقية وقفت إلى جانب إسرائيل في المواجهة الأخيرة في قطاع غزة.

ثانياً، إن التغيرات الإقليمية وصعود قوى معادية لمنظومة الدولة تضعف الافتراض المنطقي القائل بضرورة إقامة دولة فلسطينية على الفور. لقد اعتلت حركة فتح خشبة المسرح إبان الموجة الإقليمية الثانية أسوة بالحركة الناصرية وحزب البعث، لكنها أضحت اليوم بيروقراطية هرمة تفتقر إلى الشرعية الداخلية وتعاني من تصورات وتهم الفساد. والمفاجئ هو أن حركة فتح لا تزال باقية. ومن المفارقات الغريبة، أن القوة التي تطيل بقاء سلطتها هي إلى حد كبير، الجيش الإسرائيلي. وعلى الرغم من الخطاب المنمّق والدبلوماسية وحتى العنف، هناك توازنان متينان وخفيان يدعمان الوضع القائم. الأول، هو السؤال فيما إذا كانت حركة فتح ستبقى بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من الضفة الغربية. والثاني، هو حقيقة أن الوضع القائم يلائم حركة "حماس" أكثر من الاتفاق مع إسرائيل، إذ إن حركة "حماس" هي جزء من جماعة "الإخوان المسلمين" (وتستفيد من دعم تركيا)، وحركة "الجهاد الإسلامي الفلسطيني" تابعة لإيران. وتبدو فكرة أنه يمكن تعليب التنظيمات الثلاثة التي تتبادل العداء والتي تمثل أجندات متناقضة، مع عناصر فلسطينية محلية قوية ضمن دولة ساعية للسلام ومستقرة ومتماسكة، بعيدة للغاية من منظور الظروف العملية. وثالثاً، إن ضعف وسرعة انقلاب البنى السياسية يعززان المدرسة الفكرية القائلة بأن الدفاع عن إسرائيل لا يمكن أن يرتكز على اتفاقات دولية. وبالفعل، إن الترتيبات الأمنية المقترحة في الماضي بالنسبة لسورية، كانت ستنهار اليوم لو أنها طبقت.[12] كما ينطوي الانسحاب من قطاع غزة عام 2005 على دروس مهمة نظراً لأنه أدى إلى سقوط نظام حركة "فتح" في قطاع غزة وخسارة حرية عمل إسرائيل في إحباط نشوء تهديدات هناك. والتهديد الناشئ من عدم وجود الجزمة العسكرية على أرض [قطاع غزة] أقحم إسرائيل حتى الآن في ثلاث عمليات عسكرية في القطاع بلغت كلفتها الرسمية التراكمية أكثر من 20 مليار شيكل (الكلفة الفعلية أكبر بكثير)، بيد أن التهديد لم تتم إزالته وإسرائيل مكرهة على العيش في ظله. وهناك تهديدات يمكن إحباط بروزها، غير أن التحدي يكمن في إزالة هذه التهديدات بكلفة معقولة فور نشوئها. وهذا يستتبع أن ترتكز الاستراتيجيا الإسرائيلية على منع أحادي الجانب لبروز تهديدات بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن - وليس على المجازفة والتعامل مع التهديدات بعد أن تنشأ.

ومع ذلك، لا يستطيع أحد تجاهل حقيقة أن المسألة الفلسطينية تواصل إقلاق علاقات إسرائيل مع الغرب، وتكلّفها ثمناً متزايداً. إن المستوطنات التي تعتبر سبباً في إحباط إمكانية التوصل إلى ترتيب سياسي مستقبلي، من شأنها أن تؤدي إلى توسع إسرائيلي مفرط ودفع ثمن سياسي واقتصادي غير متكافىء [مع جدوى استمرار السياسات الحالية]. وبالتالي، يتوجب على إسرائيل أن تعرض هدف إقامة دولة فلسطينية في المدى البعيد، وتضفي عليه صدقية من خلال وقف النشاط الاستيطاني دون قيد أو شرط، ومن جانب واحد. وفي الوقت نفسه، على إسرائيل أن تعترف بأن هذا الهدف غير قابل للتحقيق في الواقع الحاضر، وتصر على أنه حتى في زمن السلم ستحتفظ إسرائيل بحرية أن تمنع من جانب واحد، نشوء تهديدات في المنطقة الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن.

استراتيجيا الجدار، تحالفات،

ودفع إيران إلى الإفراط في التمدد

بعد مائة عام، بدأ النزاع الإسرائيلي - العربي يفقد حدته لعدة أسباب. أنظمة الحكم العربية التي بقيت قائمة – مصر، الأردن، العربية السعودية، وممالك الخليج- أصبحت بالمعنى العملي، حليفة لإسرائيل؛ وبُلدان مثل سورية، والعراق، وليبيا لم تعد فعلياً موجودة؛ وعلاقات الخصومة مع حزب الله وأمثاله تنبع من سياقات إيرانية أكثر منها عربية؛ وفي ما يتعلق بالجهاديين السنة، فإن إسرائيل مجرد هدف من جملة أهداف عدة. بعد وضع هذه الحقائق في الاعتبار، يبقى النزاع مع الفلسطينيين قائماً.

إن خط الصدع الرئيسي الجديد يفصل بين لاعبي الوضع القائم وأولئك الذين يسعون إلى إحداث تغيير قسري وغير توافقي مع الواقع. هذا الصدع الجديد يتيح أيضا تحالفات وتعاوناً مع دول عربية ومع مجموعات محلية وإثنية مثل: الأكراد، والدروز. وهناك تحد إضافي يمثله الواقع الإقليمي المهلهل والعاصف، حيث ترتفع علامة استفهام فوق كل شيء، وحيث لا شيء يعتبر مسلماً به. وعليه، ينبغي أن تستعد إسرائيل لمواجهة طيف من الاحتمالات أخطر من الطيف المرئي في الوقت الحاضر.

إن إسرائيل، بوصفها لاعبا محدود الموارد وقدراته في الهندسة السياسية لأطراف ثالثة ضعيفة، مضطرة الى أن تركز على "استراتيجيا جدار" دفاعية. ويجب ألا تورط نفسها أو تبدد مواردها في مغامرات داخل مناطق عربية ما وراء الحدود. لكن على إسرائيل أن تتعاون مع أي كان من أجل كبح الصدمات وتعميق انزلاق إيران إلى مستنقع التمدد المفرط. وعلى إسرائيل أن تستخدم دورياً، القوة العسكرية بتواضع، من أجل إحباط تهديدات ملموسة مختارة في مناطق يوجد لإسرائيل فيها مصالح حيوية (باستثناء حالات فريدة مثل: حملة عسكرية واسعة النطاق ضد حزب الله، أو الدفاع عن الأردن، وغيرها).

إن التغلغل الإيراني في عمق مناطق عربية حيث لإسرائيل مصالح حيوية، بالإضافة إلى التهديد النووي، يفرضان على إسرائيل بناء قدرة [عسكرية] بهدف إظهار القوة، بل وحتى شن حملة واسعة ضد إيران، التي هي دولة قومية قوية غير مجاورة لإسرائيل. وعلى الأرجح، ستحتاج إسرائيل إلى التأكد من الظروف والوسيلة لإحراز تأثير بمفردها على مسار إيران نحو امتلاك أسلحة نووية.

أما بالنسبة للمسألة الفلسطينية، فإن انهيار نظام سايكس - بيكو فضلاً عن مقيدات جارية، يحشر حرية تحرك إسرائيل في ممر ضيق. فمن جهة، على إسرائيل أن تحافظ على علاقاتها مع الغرب قدر الإمكان، وتعرض هدف إقامة دولة فلسطينية في المدى البعيد، وتجمد الاستيطان فوراً. ومن جهة ثانية، عليها أن تعترف بصعوبات إقامة دولة فلسطينية عملياً وتبيّن هذه الصعوبات، بالضبط في وقت تتفكك فيه أطر الدول العربية، وتتبنّى الفصائل الفلسطينية المتعددة أجندات متضاربة متبادلة العداء. وينبغي على إسرائيل أن تتعلم من فقدان قدراتها في قطاع غزة عام 2005 [الانسحاب] ، ومن الحملات العسكرية الثلاث التي أعقبت ذلك والتي خاضتها في قطاع غزة من دون أن تتمكن من إزالة التهديد، أن هناك تهديدات ما إن تظهر إلى الوجود حتى يصبح من المستحيل على ما يبدو اجتثاثها من جذورها بثمن معقول. وبناء عليه، ينبغي أن ترتكز الاستراتيجيا الإسرائيلية على وجود عسكري [إسرائيلي] في غور الأردن وعلى حرية إحباط أية تهديدات تنشأ في الضفة الغربية.

 

* المصدر:

Ron Tira, “Israeli Strategy for What Follows the Skyes-Picot Era”, Strategic Assessment, Vol. 18, No. 1, April 2015, pp. 57-69.

 أنظر الموقع الإلكتروني لمعهد دراسات الأمن القومي – جامعة تل أبيب.

- ترجمته عن الإنكليزية: يولا البطل.

 

[1] لم تطبق اتفاقية سايكس - بيكو حرفياً أبداً. لكن الاتفاقية والانتدابين البريطاني والفرنسي اللذين أعقباها وضعا الأسس لمنظومة الدول في المنطقة.

[2] ما زاد في ارتباك الهويات في ذلك الوقت، كان تطور فكرة الوحدة العربية، التي قادت إلى محاولات توحيد دول عربية مختلفة.

[3] Yoel Guzansky and Erez Striem, “New-Old Borders in the Middle East”, INSS Insight no. 486, November 19, 2013. 

[4] Yoel Guzansky and oded Eran, “Resuscitating US-Saudi Relations”, INSS Insight, April 2, 2014.

[5] كانت "اللعبة الكبيرة" سباقاً بين القوى العظمى للاستحواذ على أراض ونفوذ في آسيا الوسطى في مطلع القرن التاسع عشر.

[6] رون تيرا، "عملية الجرف الصامد: غايات، سبل، ووسائل، والسياق المحدد"، أنظر:

Ron Tira, “Operation Protective Edge: Ends, Ways and Means and the Distinct Context”, Infinity Journal,

IJ Exclusive, September 2014.

[7] مارك لاندر، "رايس تعرض استراتيجيا أكثر تواضعا لمنطقة الشرق الأوسط"، أنظر:

Mark Lander, “Rice Offers a More Modest Strategy for Mideast”, New York Times, October 26, 2013.

[8] من محاولة استبدال [جمال] عبد الناصر برئيس صديق، إلى محاولة تتويج رئيس مسيحي في لبنان، مروراً بمساعدة "المجالس المحلية" للقرى الفلسطينية الرامية إلى إيجاد خصم منافس لمنظمة التحرير الفلسطينية.

[9] Gallia Lindenstrauss and Oded Eran, “The Kurdish Awakening and the Implications for Israel”, Strategic Assessment, vol. 17, no. 1 (2014).

[10] رون تيرا، "هل يمكن ردع إيران؟"، مؤسسة هوفر، أنظر:

Ron Tira, “Can Iran Be Deterred?”, Hoover Institution, Policy Review no. 169, October 1, 2011.

[11] مايكل دوران، "استراتيجيا أوباما السرية إزاء إيران"، أنظر:

Michael Doran, “Obama’s Secret Iran Strategy”, Mosaic, February 2, 2015.

[12] تبدو اليوم الترتيبات الأمنية المقترحة خلال المفاوضات مع سورية في تسعينيات القرن الماضي في واي بلانتيشن، والترتيبات الأمنية التي صاغها الجنرال ألن بشأن اتفاق مع الفلسطينيين، غير ملائمة، ولا سيما في ضوء انهيار النظام السوري والخطر الذي يتهدد مستقبل النظام الأردني. أنظر: رون تيرا، "كيفية صنع سياسة إسرائيلية تجاه سورية"، (تل أبيب: دار نشر يديعوت أحرونوت، 2000)، ص. 146-151.