معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛ وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.
مدخل
- بعد أكثر من أربعة أعوام على بدء مسار إعادة تشكّل منطقة الشرق الأوسط، وفي أعقاب الثورات والصراعات التي تشهدها المنطقة، يتعين على إسرائيل تكييف نفسها بشكل دائم مع التغيرات والظواهر الجديدة الطارئة والمتبدّلة باستمرار. ولقد نجحت إسرائيل حتى الآن، على امتداد معظم حدودها، في التصدي للتهديدات المستجدة وفقاً لمفاهيم معروفة: بقاء واستقرار معاهدات السلام مع كل من مصر والأردن بحكم وجود مصلحة مشتركة، دخول مصر والأردن في صراع مع جماعات إسلامية متشددة، وإبقاء المسألة الفلسطينية معزولة نسبياً عما يحدث في المنطقة، مما يتيح غالباً إحتواء اللاعبين الحاليين (حركة "حماس" والسلطة الفلسطينية). لكن الجبهة التي تختلف عن البقية هي الجبهة الشمالية التي تشمل سورية ولبنان، والتي حدثت فيها التطورات الأكثر جذرية. فقد خلق إنهيار الدولة السورية، والذي واكبه توثيق الارتهان بين نظام الأسد وحزب الله وإيران، وصعود تنظيم "الدولة الإسلامية" ("داعش")، وتعزيز قوة جماعات الجهاد العالمي، وتدخل الولايات المتحدة والتحالف العربي-الغربي، وتغيير مستمر لموازين القوى ولمشهد اللاعبين المؤثرين، (خلق) حالةً من الفوضى بلا قواعد لعبة معروفة.
- ومن أجل إحداث تغيير في الواقع وتجهيز ردّ على التحديات المبيَّنة، بالتركيز على الجبهة الشمالية، يتعيّن على إسرائيل أن تجري بادئ ذي بدء توضيحاً مفهومياً لمسائل أساسية في عقيدتها الأمنية، وأن تشرح لنفسها على ماذا ترتكز الاستراتيجيا المطلوبة لها على خلفية المستجدات - سواءً كانت نتيجة مسارٍ طويل ومتواصل، أو نتيجة تحوّلات مفاجئة في الحقبة الحالية. وبعد توضيح الاستراتيجيا الشاملة، من المهم التركيز على الجبهة الشمالية بوصفها مركزاً لتبلور واقع جديد وغير معروف في نظر إسرائيل، فضلاً عن كونها جبهة ينشط فيها لاعبون إقليميون ودوليون يجسدون أهمية كبيرة بالنسبة لمكانتها. ويمكن القول إلى حد كبير إن جزءاً ملحوظاً من التوصيات والمبادئ المقترحة لا تنطوي على تجديد، بيد أن أهميتها تتجلى بالضبط في التشديد على تطبيق أنماط تبدو ظاهرياً سارية المفعول دائماً، لكن لا يجري إنفاذها بالفعل. وتقضي النقطة الزمنية الحالية إجراءَ فحصٍ دقيق للجديد والقديم من الناحيتين النظرية والعملية، من أجل وضع المخطط التفصيلي للتطبيق في الحاضر والمستقبل.
تغيرات مفاهيمية
- إن جذر المشكلة الاستراتيجية بالنسبة لإسرائيل يكمن في الاضطرابات التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط، والتي لا يمكن التنبؤ بخواتيمها، والتي لا تبدو نهايتها قريبة في المستقبل المنظور. وتتحدّى سلسلة من التغيرات والمسارات المعقدة فرضيات الأساس التي اعتادت عليها إسرائيل في الماضي، والتي تتسم بها المنطقة بمجملها، وبعضها تتسم به الساحة الشمالية فحسب. ويمكن تقسيم مجمل التغيرات إلى مجموعتين رئيسيتين: تغيرات مفاهيمية تتأثر بمسارات إقليمية، بل وحتى عالمية تتعلق بالأمن القومي؛ وتغيرات جيو استراتيجية تعكس التطورات في الجبهة الشمالية (سوف تُناقش في القسم الثاني من هذا المقال).
- وتمثل التغيرات المفاهيمية مشكلةً تقليديةً تتعلق في أساسها بتكيّف دولة ما مع تطورات عقائدية، وتكنولوجية، ومجتمعية، وثقافية، وغيرها، في محيطها القريب والبعيد. وينطوي أي تخطيط مستقبلي للمواجهة المقبلة في الجبهة الشمالية على بضع تغيرات مماثلة، ينبغي أخذها في الحسبان. ويتصل التغير الأول بطابع التهديد العسكري المتوقع لإسرائيل. في السياق الشمالي، على سبيل المثال، قبل الحرب الأهلية في سورية، كان التهديد المحدق [الذي يتطلب بناء القوة العسكرية للتصدي له] يتعلق بمواجهة منظّمة مع الجيش السوري، المدعوم بقدرات حزب الله العسكرية – صواريخ وقذائف صاروخية بشكل أساسي- مع دعم إيراني.[1]
- أما اليوم، ومن جراء تأكل مستمر وقتال متواصل، تراجع تهديد الجيش السوري كثيراً، ووقعت بعض من أسلحة الجيش السوري في قبضة عناصر سلفية جهادية، وسُلّم بعض آخر إلى حزب الله. والمطلوب من الجيش الإسرائيلي اليوم هو وضع خطة لبناء القوة، للرد على تشكيلة واسعة من التهديدات الموصوفة العريضة، من دون قواعد لعبة محددة ومعهودة، ومن دون قدرة على تحديد نهايات ممكنة. وكل ذلك بمستوى مرتفع من عدم اليقين، في الوقت الذي يمكن القول إن منطق الإرهاب وإلحاق الأذى بالجبهة الداخلية الإسرائيلية يمثل التهديد الرئيسي في جعبة محور طهران – دمشق - بيروت، والمتشددين السنّة السلفيين كذلك. ويعبّر هذا المسار عن تغير واسع في مجمل منطقة الشرق الأوسط فحواه مصادرة احتكار استخدام القوة من أيدي الدول، ونقله إلى تشكيلة لاعبين مزوّدين بقدرات عسكرية – بعضها متطورة- وبعقيدة حرب عصابات وإرهاب.
- أما التغيير المفهومي الثاني فيتصل بمبدأ "الردع"، الذي يشكل، تقليدياً، أحد مرتكزات العقيدة الأمنية الإسرائيلية. فالردع بطبيعته غير قابل للقياس، ولكن، بصورة عامة، يمكن تقديره لاحقاً.[2] وتواجه إسرائيل منظومةً لم تعد فيها الخطوط الحمراء وقواعد اللعبة واضحةً مثلما كانت في الماضي، بالإضافة إلى صعوبة في الإجابة على السؤال التالي: كيف يمكن التأثير في نوايا تنظيمات تعمل انطلاقاً من رؤية جهادية؟ بحكم طابع هذه المواجهات، لا يمكن خلق وقائع واضحة في الميدان، وخلق معادلات "خسارة في مقابل ربح" تردع أخصام إسرائيل وأعداءها. لقد سعت إسرائيل جاهدة لبلورة عقيدة استراتيجية ملائمة للوضع الجديد، وفي هذا الإطار جرى بلورة عقيدة المعركة بين الحروب،[3] الرامية إلى تعزيز الردع تجاه الأعداء، عن طريق إفهامهم بالملموس ما ينتظرهم في حالة سيناريو تصعيد، بالترافق مع عرقلة عمليات تعاظم قوتهم، وخلق ظروف أكثر ملاءمة لإسرائيل، في حال اندلاع مواجهة عسكرية مكثفة. وعلى الرغم من العزم على تطبيق هذه السياسة، فإن الموقفَ المتحفظ والامتناعَ عن التدخل في المسارات والتطورات الإقليمية، استوجبا تطبيقاً محدوداً للغاية لعقيدة "المعركة بين الحروب".
- وهناك تغيير آخر متصل بتقوية وترسيخ مرتكز "الدفاع" في العقيدة الأمنية [أمن إسرائيل القومي]. وعلى النقيض من العقيدة الهجومية للجيش الإسرائيلي، التي تمسّكت بمبدأ بناء قوة هجومية-حاسمة منذ إنشاء الجيش الإسرائيلي، تختلف المواجهات في العقدين الأخيرين عن حروب الماضي التي تأسست على القوة النارية والمناورة. أما اليوم، فيشدد الأعداء على مهاجمة إسرائيل بقذائف منحنية المسار (صواريخ)، وعمليات إرهابية ضد سكان مدنيين، وقتال على طريقة حرب العصابات، ومحاولات تشويش الأنظمة الحيوية لسير عمل الدولة، واستخدام باطن الأرض [شبكة أنفاق]. وذلك بهدف تحييد تفوّق الجيش الإسرائيلي على الصعيدين التكنولوجي والهجومي- الأمر الذي أدى إلى تغيير تركيبة بناء القوة نحو زيادة الاستثمار في بناء قدرات "الدفاع الفاعل" و"الدفاع السلبي".[4] وإثباتاً لذلك، تمثل الردّ الفوري على التغيرات في الجبهة الشمالية بإقامة عائق أمني أكثر تطوراً في هضبة الجولان، وبزيادة عدد بطاريات ومنظومات "القبة الحديدية" لاعتراض الصواريخ التي تطلق باتجاه أراضي إسرائيل.
ضرورة بلورة استراتيجيا محدّثة
- إن الفارق الرئيسي المميز عن الماضي، والذي ينبغي أخذه في الاعتبار في الاستراتيجيا المطلوبة، هو الصعود المتنامي للاعبين غير دولتيين يتسمون بانعدام المسؤولية تجاه [سلامة] الأراضي والسكان، ولا يلتزمون بقواعد اللعبة والمعايير الدنيا المقبولة من الأسرة الدولية. إن البيئة الإقليمية، وبخاصة ما درج على تسميته "الهلال الخصيب"، آخذة بالتفتت إلى طوائف، وهي تتمزق من جراء نزاعات دينية، وإثنية، وقَبَليّة وثقافية. وقد نجح لبنان والأردن حتى الآن في الحفاظ على سلامة أراضيهما، على الرغم من العبء الثقيل المتمثل في ملايين اللاجئين، لكن قد لا يبقى الوضع على حاله لفترة طويلة، ويبدو أن سورية والعراق لن يعودا إلى ما كانا عليه.[5] إن هذا المعطى المستجد يقتضي تطوير مفاهيم مواجهة وأدوات للتعامل مع اللاعبين البدلاء الذين يعملون لتحويل هذه الدول إلى أنقاض، من خلال اعتراف بمركزية اللاعبين الجدد، ولا تقل أهمية ونوعية هذه المفاهيم والأدوات عما كان عليه الأمر في التعامل مع الدول، وكل محاولة لتطبيق القواعد الدولتيّة القديمة على الكيانات الجديدة محكومة بالفشل. وعلى سبيل المثال، فإن استخدام إسرائيل تهديداً رادعاً بواسطة دمج رسائل شفهية وعملية – التي درج استخدامها بوصفها أداة فعالة (مثل رسالة دبلوماسية يصحبها تحليق منخفض [لسلاح الجو الإسرائيلي] فوق قصر الرئيس السوري- لم يعد صالحاً وهو لا يؤثر في اللاعبين الجدد. بل أكثر من ذلك، يصعب تعيين نقاط ضعف لدى اللاعبين الجدد يمكن أن تُستخدم ضدّها وسائل ضغط وتأثير كمرتكز لقوة الردع. أما بالنسبة لإيجاد صورة وضع استخباراتية موثوقة، فهناك حاجة في هذه الحالة أيضاً إلى تفكير محدّث. إن أجهزة الاستخبارات حالياً تُعنى بقدر أقل باستشراف تهديدات واتجاهات، وبقدر أكبر بتوفير أدوات تساعد القيادة السياسية على اتخاذ قرارات. علاوة على ذلك، إن قدرة إسرائيل على أن ترسم لاستخدامها الخاص خريطةً لا تخضع لمفاهيم دولتيّة –حدود، حوكمة، سيادة، موازين قوى بين عناصر القوة- هي محدودة للغاية، وهي مستمدة من مفاهيم لا تعبر بشكل صحيح عن المصالح، والنوايا، ورؤى العالم، والعوامل التي تحرك لاعبين ليسوا دولاً. ولذلك، يمكن إضافة جهد استخباراتي من نوع جديد - استخبارات مجتمعية. فقد أضحى هذا المفهوم حيوياً نتيجة الاجتماع والتماسك الأهلي، والصعود الصاروخي لتأثير وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، التي تسمح، من جهة، بتعبئة وتوجيه جماهير إلى أفكار متطرفة، وتمنح، من جهة أخرى، المجتمعَ المدني منبراً لإسماع صوته، والتي يمكن من خلالها جسّ نبض الرأي العام والاتجاهات في عصر يحدد فيه البعد المعرفي الكثير مما يحدث على صعيدي المشاركة في الحياة السياسية وشؤون الدولة.[6]
البعد المنظومي
على المستوى المنظومي [للمؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية]، ينبغي أن ترتكز السياسة العامة الإسرائيلية على استبطان المبدأ الذي يقول إنه لم يعد بالإمكان عزل ساحة العمليات، أو بناء جدار فاصل بين جبهة الصراع والساحة الأشمل، وبذلك التركيز على مواجهة ثنائية. حالياً، ومن جراء الانعكاسات والروابط بين الجبهات واللاعبين، هناك دينامية متعددة الجوانب ومتعددة المستويات. ونتيجة لهذه الحقيقة، ينبغي أن تأخذ خططُ إسرائيل بالاعتبار سيناريوهات تتضمن تطورات معقدة متعلقة بأكثر من لاعب أو مجموعة لاعبين. إن المقاربة الثنائية هي ذات بعد واحد، وهي لا تصمد في امتحان الواقع، ولم تعد تخدم المصالح الإسرائيلية، ولا تحسّن موازين القوى في مواجهة أعدائها. علاوة على ذلك، وبسبب عدم اليقين من كافة النواحي، ينبغي على إسرائيل أن تبني عقيدةً تسعى لتوفير ردٍّ قوي ومتين على أكبر عدد ممكن من السيناريوهات، وتحرّي تسلسل الإنعكاسات غير المقصودة. والغاية من كل ذلك هو تفادي انعكاسات غير متوقعة من شأنها مفاقمة التهديدات والأخطار المحدقة بإسرائيل. والمطلوب أيضاً توفير حيز لصانعي القرار للتفكير مليّاً وتقدير الأمور، وتشخيص الوضع المستجد إبّان المواجهة، من أجل اختيار الردّ الملائم، من دون الخضوع للردّ الفوري الجاهز في "مخزن الخرطوش"، وذلك بهدف الحدّ من المضاعفات المحتملة وتدهور الحالة إلى أوضاع أصعب وأعقد.
البعد التصوري – المفهومي
- في المستوى المفاهيمي أكثر من أي مستوى آخر يتوجب التجديد النظري، وتبعاً لذلك، ينبغي تركيز الجهد الفكري عليه. اشتقاقاً من حروب الماضي في مواجهة منظومات دولتية، تشكّلت اللغة العسكرية والسياسية، التي عبّرت عن التصورات التقليدية. وتكمن الطريق الصحيحة لبدء مسار مماثل قبل كل شيء في استحداث لغة مفاهيمية جديدة، تعكس الثورة الفكرية وتسهم في تعميق الحوار حول التطورات الجديدة: مقاربة نشاط متعدد الجوانب في مواجهة تشكيلة لاعبين في آن معاً؛ تحديد أهداف استراتيجية ليست من قبيل حسم أو ردع، لا يمكن تحقيقهما؛ تغيير مدلول حدود سياسية إلى مناطق يجري تحديدها وفق السياق؛ بذل أقصى جهد لإقامة شراكات، وبناء تحالفات لمعالجة وضع معيّن (ad hoc)، مبنية على مصالح متماثلة في مواجهة ظاهرة وتحدّ فريدَيْن؛ إجراء مسح لآراء، وأفكار، وهويات، وانتماءات مجموعات، واستراتيجيا متماسكة فيما يتعلق بالأقليات؛ صندوق عدّة متعدد المجالات غايته تطبيق مجموعة جهود – سياسية، ودبلوماسية، واقتصادية، وعسكرية، وقانونية، وإعلامية، وحماية البنى التحتية الحيوية، وحرب استخبارية، وحرب معلومات، وتقديم مساعدة إنسانية، ورعاية سكان محليين – على أن يُنفذ كل ذلك بصورة ذكية ومتكاملة. إن مفهوم "تعدّد المجالات" يجسّد الاعتراف بأنه في المنظومة الحديثة، من الضروري استخدام كل الأدوات الموجودة في متناول دولة أو تحالف دول من أجل إيجاد التأثير المطلوب تجاه لاعبين آخرين.[7]ولهذا الغرض، ينبغي تحديد جهة مؤسّساتية تكون مسؤولة عن تفعيل منسّق ومتزامن لجميع الجهود، بغية استخلاص الفائدة القصوى منها.
- وفي نظرة مركّزة على الداخل، أبعد من إيجاد لغة جديدة، ينبغي بناء قاعدة معرفية واسعة حول اللاعبين المعنيين بهم، وطريقة تشكّلهم وتأثيرهم. وأحد المكونات الجوهرية في هذا السياق هو التعامل الإفرادي مع قوس قزح الكيانات غير الدولتيّة. إن منطقة الشرق الأوسط تتحرك بالفعل إلى الأمام، لكنها تعيش إلى حد كبير ارتداداً إلى أحاسيس ورغبات قديمة تجد تعبيرها في تنامي الانقسامات الاجتماعية. وتبعاً لذلك، فإن فهم الأنماط الطائفية، والقَبَليّة، والدينية، والأهلية، هو جزء من عملية التكيّف. وعطفاً على تحديد خريطة السكان في المنطقة، يرتدي تعقب حركتها أهميةً حاسمةً. فقد غيّرت ظاهرةَ اللجوء والهجرة بشكل جذري كلاً من سورية، والأردن، ولبنان، والعراق، ولم يعد ملائماً التطرق إلى التركيبة الديمغرافية المعهودة في الأعوام المنصرمة.[8] ومن خلال استخدام أدوات استخبارية جديدة مثل الاستخبارات الاجتماعية والنفسية [دراسة سيكولوجية الجماهير]، يصبح التعقب المدني قابلاً للتطبيق وفعالاً، لا سيما أنه من المستحيل الكشف عن اتجاهات جديدة وسط سكان المنطقة عبر استخدام أدوات تقليدية، مثلما كنا شهوداً على ذلك أكثر من مرة إبان الحرب في سورية والعراق، التي أصبحت تخاض على قنوات اجتماعية وعلى وسائط التواصل (الميديا) الحديثة أكثر مما كانت عليه الحال بالمقارنة مع حروب سابقة. إن فهم هذه الخصائص سوف يساعد على تحديد نقاط التأثير على الجهات الفاعلة العديدة، وعلى تعزيز قدرة استخدام الضغط على مراكز الثقل لديها. والمطلوب اليوم استخبارات نوعية بثلاثة أبعاد: أولاً) تحديد تحركات وأهداف الأعداء والخصوم، مع التركيز على "المحور الراديكالي الشيعي" بقيادة إيران، وتنظيم "الدولة الإسلامية"، وجهات أخرى تابعة للجهاد السلفي تهدد بالعمل ضد إسرائيل، وذلك من خلال حرية الوصول أو التمركز على طول الحدود؛ثانياً) استخبارات مطلوبة لحماية أحد حلفاء إسرائيل – كما يحدث في مكافحة تسلل عناصر الجهاد إلى شبه جزيرة سيناء والأردن، ومن خلال ذلك المحافظة على ميزان القوى الداخلي في دول تربطها بإسرائيل معاهدات سلام؛[9] ثالثاً) استخبارات تؤشر على ظهور فرص، وإيجاد قاسم مشترك ومصالح متطابقة مع لاعبين في المنطقة. إن عدم الاستقرار المتواصل يضرّ بالفعل بمصداقية جهات فاعلة عديدة لجهة قدرتها على تشكيل ركيزة لتحالف استراتيجي، لكن الجانب الإيجابي للظاهرة هو بروز فرص لتعاون في مواجهة وضع معيّن (ad hoc) استناداً إلى أهداف متطابقة.
تحدّي التكيف الإسرائيلي
- لم تنجح إسرائيل حتى الآن في تطوير مفهوم متبلور إزاء موقعها في منطقة الشرق الأوسط الآخذة في التشكّل من جديد. وكما ذكر أعلاه، فإن الاستراتيجيا المسيطرة التي تميز السياسة الإسرائيلية منذ بداية الاضطرابات الإقليمية هي عدم التدخل والنأي بالنفس.[10]وينبع التفكير الذي ارتكزت عليه هذه السياسة من عزم إسرائيل على البقاء بعيدة عن النزاعات الإقليمية التي بمقدورها نقل عدم الاستقرار إلى داخل حدودها، على غرار ما خبِرته جاراتها. بالإضافة إلى ذلك، لم تذرف إسرائيل دموعاً كثيرة على كون المجموعات المتشددة تتقاتل فيما بينها وتركز على الصراعات الداخلية – وقد أدى هذا التوجه منذ فترة ليست بعيدة إلى إضعاف المحور الشيعي وقاعدته في سورية، أي نظام الأسد. كما أن إسرائيل ليست معنية بأن يتحول الاهتمام الإقليمي والعالمي إليها، وبأن تُعتبر جزءاً من المشكلة الإقليمية. علاوة على ذلك، إن لإسرائيل تجربة مريرة وطويلة من تدخلها في نزاعات إقليمية ومحلية عندما حاولت أن تكون صانع ملوك وحكام –الحرب الأهلية في لبنان – الأمر الذي يدعوها إلى توخي الحذر الشديد إزاء كل خطوة بهذا الاتجاه.[11]
- حتى العام الأخير تراءت استراتيجيا الامتناع عن التدخل ملائمةً بالنسبة لإسرائيل، لا سيما وأنها لم تختبر اضطرابات نتيجة ما يحدث حولها. لكن بنظرة واعية،يمكن أن نتصور أن لا شيء يدوم للأبد. العنف المستمر على امتداد الحدود في هضبة الجولان (وبشكل مختلف أيضاً في قطاع غزة، وفي لبنان وشبه جزيرة سيناء)، لا يتراجع ولا يبتعد. واليوم أيضاً، مع أن تنظيم "الدولة الإسلامية" غير متواجد في مرمى مواجهة مع إسرائيل، ومع أن تنظيم "جبهة النصرة" اختار عدم الدخول في مواجهة معها على ضوء مصالح موقتة، فإن نشاطهما يتسبب بشكل غير مباشر بزعزعة الهدوء مقابل إسرائيل. وليس بمقدور نشاط إسرائيلي [عمليات عسكرية واستخباراتية] بتوقيع منخفض لإرساء تعاون مع مجتمعات محلية في مرتفعات الجولان السورية، تحييد جهود حزب الله وإيران الرامية للتمركز في الجولان وجنوب سورية، والتي أفضت إلى اشتباك مع إسرائيل في كانون الثاني/ يناير 2015.[12] وبناءً عليه، ومن أجل الاستعداد لسيناريوهات مستقبلية، هناك حاجة لبلورة استراتيجيا محدثة.
التحديات التي تواجهها إسرائيل في الجبهة الشمالية
- ينبغي تحليل المسارات والتوجهات في الجبهة الشمالية على قاعدة المبادئ في المستوين المنظومي والمفاهيمي. تراقب إسرائيل بقلق مسار خروج حزب الله من الضائقة التي علق بها في بداية الاضطرابات في سورية، حيث أنه استعاد مكانته كـ"مدافع عن لبنان" في مواجهة خطر انتشار الإسلام السني السلفي. وفي الوقت نفسه، فإنه يتسلح ويعزز قوته بأبعاد تشكل خطراً على إسرائيل، وتتطلب قوته بلورة ردّ عسكري فعّال لمواجهتها. كما أن إيران ونظام الأسد تحوّلا في نظر العالم من مشكلة إلى جزء من الحل في محاربة "الدولة الإسلامية". وتبعاً لذلك، إسرائيل مطالبة بفحص سياستها تجاه أمرين جوهريين: الأول، انزلاق الأحداث إلى داخل أراضيها، أساساً من خلال عمليات إرهابية عبر حدودها الشمالية وتشجيع الإرهاب الداخلي؛ والثاني، تشكّل بنية تحتية تشكل مصدراً لتهديدات في مرتفعات الجولان في أعقاب تمركز حزب الله وعناصر الحرس الثوري الإيراني في المنطقة، بالتوازي مع بنى تحتية لعناصر "الجهاد السلفي " مثل تنظيم "جبهة النصرة"، الموجود أساساً في جنوب الهضبة. إن سياسة النأي بالنفس التي اعتُمدت حتى الآن لا تمنع تشكّل تهديدات جديدة ولا تقدّم رداً على تحديات المستقبل. والمشكلة الاستراتيجية معقدة لأنه يصعب تصور "وضعٍ نهائي" ممكن تحقيقه بالنسبة لإسرائيل، بسبب عدم اليقين المتزايد جرّاء التحولات في الجبهة الشمالية، فضلاً عن مجموعة لاعبين مع وجهات نظر عديدة ومتناقضة وغياب توجهات باعثة على الاستقرار مع مرور الوقت. في الماضي، وبناءً على الاستقرار النسبي الذي ساد في سورية ولبنان، عملت إسرائيل في مواجهة لاعب دولتي- أي نظام الأسد في سورية- كعنوان مسؤول، وحزب الله أيضاً كان يأخذ في الاعتبار مصالح تمس سكان لبنان. ومن هنا، كان من الأسهل رسم خريطة التهديدات المحدقة والنهايات المطلوبة، ووفقاً لذلك بلورة منطق استراتيجي منظّم. أما الآن فهناك صعوبة في رسم خريطة موازين القوى والتوجهات الناشئة، وعليه، تجد المؤسسة الأمنية صعوبة في بلورة صياغة هدف استرايجي واضح.
- بنظرة أشمل، طرأت تغييرات جيو - استراتيجية في هذه المنطقة، وهي تؤثر مباشرة على الجبهة الشمالية. حتى عام 2011، كان بمستطاع إسرائيل القول بدرجة عالية من اليقين إن التهديد الرئيسي المحدق بها ينبع من تعاظم قوة محور إيران- سورية - حزب الله، ومن ضمنه قدرات الجيش السوري ومنظومة صواريخ حزب الله. أما اليوم، فقد أصبح المشهد أكثر تعقيداً من جراء تفتت منظومة الدولة وصعود وتغلغل لاعبين جدد، سلفيين جهاديين في غالبيتهم العظمى، مزودين بوسائل قتالية متطورة. وتطوّر التحدّي من مواجهة كيان معرَّف وموحَّد ذي هيكلية واضحة، مع تسلسل هرمي للقيادة والتحكم، إلى مواجهة خليط من لاعبين بلا منطق منهجي، يتّحدون وينشقون لهذا الغرض أو ذاك، ويتمتعون بقدرة تكيّف سريعة تبعاً للتغيّرات في محيط نشاطهم. ومن هنا، يصعب التنبؤ في هذا النسيج المُشربك الناشىء بقائمة التهديدات بالترتيب، وبتحديد العلاقات فيما بينها. على سبيل المثال، هل يمكن القول حالياً على وجه اليقين ما هو التهديد الرئيسي لأمن دولة إسرائيل: إيران أم تنظيم "الدولة الإسلامية"؟
- وفي معرض تحليل التوجهات الجيو استراتيجية المطلوب هو تقييم خطورة التهديدات، وفوريتها، وتحديد سلّم أولويات إسرائيل لمواجهتها. وفي هذا السياق، برزت فجوة بين إسرائيل وحليفتها الاستراتيجية، الولايات المتحدة الأميركية، بالنسبة لتعريف التهديد الإقليمي الرئيسي ونهج العمل المطلوب. فبينما تعتبر إسرائيل أن التهديد الرئيسي يكمن في المحور الشيعي الراديكالي بقيادة إيران، الذي يشمل العراق، وسورية، وحزب الله، تعتقد الولايات المتحدة أن تنظيم "الدولة الإسلامية" هو التهديد الرئيسي الذي يستدعي عملاً عسكرياً، وأن الأسبقية هي لمواجهته على سائر الأصعدة والجهود، حتى لو تطلّب الأمر تنسيقاً مع إيران.[13] فالهدف الرئيسي للولايات المتحدة هو استئصال "الدولة الإسلامية" أولاً.[14]إن هذه القضية جوهرية بالنظر إلى التطورات على حدود إسرائيل الشمالية – في مرتفعات الجولان - وإلى مسألة الاستراتيجيا الإسرائيلية بشأن التحركات الإيرانية لتوسيع دائرة نفوذ إيران في منطقة الشرق الأوسط. إن إسرائيل ترصد صعود الجماعات السلفية ومنها على وجه التحديد تنظيم "الدولة الإسلامية" و"جبهة النصرة"، وتقييمها الحالي هو أن هذه الجهات قد تنشط في المستقبل مباشرةً ضد إسرائيل، بعد استكمال استيلائها على كل من سورية، والعراق، ولبنان. لكن القلق الفوري والتهديد الملموس أكثر في نظر إسرائيل هو تمركز المحور الشيعي في مرتفعات الجولان وفي جنوب سورية. وتصرح إسرائيل علانيةً أنها لن تسمح بسقوط الجولان في قبضة حزب الله والإيرانيين، بل هي مستعدة للتعاون بشكل محلي مع مجموعات الثوار ومع سكان محليين لهذا الغرض.[15]
تعريف التهديد الرئيسي على الجبهة الشمالية
- إن المسألة المركزية التي تواجهها القيادة الإسرائيلية هي جوهر ما ينطوي عليه السياق الإقليمي، والذي بموجبه ينبغي تعريف التهديد الرئيسي المحدق بإسرائيل على الجبهة الشمالية: هل هو حقيقة أن إيران هي دولة عتبة نووية و/أو تعزّز النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، أم ربما هو توسع انتشار "الدولة الإسلامية" والإسلام المتطرق؟ أم لعله استمرار تفشي ظاهرة تفكك الدول التقليدية، أم أنها العملية السياسية والسلطة الفلسطينية؟ أم لعل الأمر يتعلق بمجمل هذه التحديات؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة هي المبدأ الموجه بالنسبة لسياسة إسرائيل تجاه الجبهة الشمالية، حيث تقف في مواجهتها جملة من التحديات والتهديدات التي ينبغي ترتيبها بحسب درجة خطورتها في المدى القصير وفي المدى البعيد، والبتّ في مسألة أسبقية الردّ عليها.[16] وحسب اعتقادنا، إن تعريف المحور الذي تقوده إيران بأنه التهديد المركزي المحدق بإسرائيل هو ضرورة آنية. ويشكل كل من إيران بقدراتها الاستراتيجية، وحزب الله بمنظومة صواريخه والقذائف الصاروخية والأدوات غير المأهولة التي في حوزته، معاً، التهديد العسكري الجوهري المحدق بإسرائيل. وفي هذا السياق، إن توسيع رقعة الاحتكاك بين إسرائيل وهذا المحور نتيجة سعيه لإرساء موطئ قدم له في مرتفعات الجولان وفي جنوب سورية، سوف يمنحه منصةً إضافيةً لتحدّي إسرائيل. إن التهديدَيْن المعروفَيْن اللذين استعدت لهما إسرائيل حتى عام 2011، أي، حرباً ضد جيش سورية، وحرباً ضد حزب الله على جبهة لبنان فقط، اختلف أمرهما حالياً. فقد ضعُف الجيش السوري ولم يعد يشكل تهديداً فورياً لإسرائيل، في حين أن حزب الله وسّع رقعة نشاطه من لبنان باتجاه الشرق إلى العمق السوري، وباتجاه الجنوب إلى هضبة الجولان. والصراع الدائر في جنوب سورية بين حزب الله وإيران من جهة وقوات المتمردين على نظام الأسد هو، إلى حد كبير، صراع على طابع الحرب المقبلة ضد إسرائيل.[17] ويجب على إسرائيل تركيز قدراتها الاستخباراتية والعملياتية لإلحاق الأذى بمعاقل الإيرانيين وحزب الله في سورية، وعليها منعهما من إقامة بنية تحتية عسكرية لمهاجمة إسرائيل من عدة جبهات في آن معاً (هضبة الجولان، لبنان، العمق السوري). ومن منظور متعدد الأطراف، على إسرائيل أن تفحص باستمرار انعكاسات المواجهة ضد المحور على لاعبين آخرين، وأيضاً على أعداء محتملين، وعلى الأردن بوصفه شريكها، وعلى لاعبين أُخَر ذوي مصالح مماثلة، بالإمكان تعبئتهم لمحاربة تمركز المحور في جنوب سورية. إن قراراً كهذا من شأنه أن يوجّه جهود إسرائيل نحو تفعيل عملياتي لعقيدة "حملة عسكرية بين الحروب"، ونحو خيار فرض منطقة حظر طيران ضد سلاح الجو السوري وأعوانه في قطاع مرتفعات الجولان، يواكبه تفعيل جهود متعددة المجالات (إنسانية، اقتصادية، بنى تحتية، وما إليه) بهدف تأسيس شراكات مع لاعبين محليين. وكل ذلك، من أجل إنشاء مجال تأثير في جنوب سورية وفي مرتفعات الجولان، وبذلك، إلحاق الأذى بتمركز المحور في المنطقة، وضمان استقرار قطاع مرتفعات الجولان. وفي الوقت ذاته، مطلوب بناء جهوزية لمواجهة المحور على الجبهة الشمالية. وفي هذا الإطار، على إسرائيل أن تُعلن انعكاسَيْن متوقّعَيْن في حال بادر حزب الله وإيران إلى تصعيد العمل الإرهابي ضد إسرائيل: الأول، ضربة إسرائيلية مركّزة تستهدف مرتكزات نظام الأسد –وهذا من الممكن أن يتسبب بسقوطه؛ الثاني، إلحاق أذى مدمّر بقدرات وممتلكات حزب الله، وكذلك بالبنى التحتية التي سيحاول بواسطتها أن ينشط وأن يطلق صواريخ ضد إسرائيل.
- ويتعين على إسرائيل أن تعزز مكانتها الاستراتيجية بالنسبة للاعبين مؤثرين في المنطقة حاضراً ومستقبلاً، مثل: الولايات المتحدة وروسيا بوصفهما قوتين كبيرتين فاعلتين في المنطقة ومؤثرتين؛ تحالفات دولية ناشطة في المنطقة؛ دول عربية براغماتية نجحت في الحفاظ على أنظمتها وحريصة على الاستقرار؛ [كما يتعين عليها أن تدرس] إمكانية تنسيق استراتيجي مع تركيا في مواجهة تهديد المحور ومسألة بقاء نظام الأسد (إسقاط نظام الأسد هو هدف مركزي للرئيس التركي أردوغان)؛ وأن ترصد التوجهات لدى أقليات داخل منطقة الشرق الأوسط التي أفضت إلى زعزعة الهيكلية الدولتيّة فيها إلى تعزيز هويتها الانفصالية؛ وأن تلحظ اللاعبين القادرين على لعب دور إيجابي ورئيسي في إعادة تشكيل سورية ما بعد عهد الأسد، وتعمل بطريقة مباشرة وغير مباشرة لتقويتهم.
- وبموازاة تحديد الأهداف الاستراتيجية على الجبهة الشمالية، نوصي بوضع استراتيجيا مغايرة تفحص وتزِن بطريقة مختلفة المعطيات، وتشير بالإصبع إلى تنظيم "الدولة الإسلامية" على أنه تهديد رئيسي (على غرار الاستراتيجيا الأميركية). وفي هذا السيناريو، الذي لا يكون فيه المحور [الشيعي] هو التهديد الرئيسي، يجوز توسيع أفق التفكير وإيجاد مصلحة مشتركة وطرق للتعامل مع المحور، بهدف فحص إمكانية إيجاد تفاهمات، بل وحتى تنسيق في محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية". وحدَه توفيرُ بدائل وخيارات حقيقية من شأنه أن يفضي إلى صقل استراتيجيا صالحة وقابلة للتطبيق بالنسبة لإسرائيل.
خاتمة
- بعد أربعة أعوام متتالية على بدء تقويض النظام القديم في منطقة الشرق الأوسط، لا تلوح نهاية قريبة للتقلبات المفاجئة التي تحدث تباعاً منذ ذلك الحين. لم يعد هذا الوضع يسمح لإسرائيل بالوقوف موقف المتفرج، والاكتفاء بعدم التدخل وتعزيز مستويات الدفاع، من أجل الحفاظ على الذات وعدم التعرض لانعكاسات الاضطرابات الإقليمية. إن التحولات التي شهدها العراق وسورية أوجدت سلسلة من ردود الأفعال على الصعيد الإقليمي، وشكلت جبهةً شماليةً مختلفةً عن تلك التي اعتادت عليها إسرائيل قبل عام 2011، مع بروز صعوبات مفاهيمية وغياب استراتيجيا متبلورة. لم تجد إسرائيل حتى الآن المبادئ التي من شأنها أن تشكل ما هو مطلوب للتعامل مع الواقع المتشكل، وهذا الأمر يُحْدث فجوةً آخذة بالاتساع بين الغاية المعرَّفة فيما يتصل بالجبهة الشمالية، وبين جملة الأدوات الموجودة بتصرفها من أجل خلق تأثير وردّ على التهديدات في الجبهة الشمالية، وعلى توجهات ومسارات جارية في هذه الجبهة عملياً.
- ومن أجل تجسير هذه الفجوة، على حكومة إسرائيل أن تعمل بشكل استباقي وأن تقوم بعملية تفكير معمّق هدفها وضع استراتيجيا محدثة بشأن الجبهة الشمالية. ويجب أن تواكَب هذه العملية بأنشطة انتقالية عندما تستدعي الضرورة، وفق التطورات على هذه الجبهة، مما يتيح فهماً أفضل لهذا الحيّز. وفي الوقت ذاته، مطلوب رسم خريطة موازين قوى متعددة اللاعبين والمنطق، ومن ضمن ذلك البحث عن شركاء لهذا الغرض بالذات، وإعداد جملة أدوات متعددة المجالات ملائمة لمواجهة التحديات الجديدة. وينبغي أن تفضي هذه الاستراتيجيا إلى الدمج بين أهدافٍ بعيدة المدى، مشتقةٍ من عملية استجلاء مصالح وأولويات إسرائيل: هل إن المحور بقيادة إيران هو الذي يشكل التهديد الرئيسي الحالي، أم إنها الجماعات التي يقودها تنظيم "الدولة الإسلامية"- وبين أهدافٍ قصيرة المدى، متمحورةٍ حول منع تشكّل تهديدات وأوضاع يصعب التصدي لها مستقبلاً. وفي هذا الإطار، على إسرائيل أن تفحص موقعها ضمن النسيج المُشربك للاعبين الإقليميين والدوليين، المنخرطين في ما يجري على الجبهة الشمالية، وأن تبلور استراتيجيا محدثة من خلال عملية تخطيط متكاملة، واستخدامٍ صائبٍ لمكونات، ولمفاهيم، ولأنماط تفكير جديدة، وفقاً لما طُرح في هذه الدراسة. إن تفكيراً استراتيجياً محدثاً هو أمر حيوي من أجل توجيه سياسة إسرائيل ونشاطها بالنسبة للجبهة الشمالية، ومن أجل الاستعداد بفاعلية لسيناريو تصعيد في مواجهة المحور والمجموعات المتشددة في الجبهة الشمالية وفي منطقة الشرق الأوسط برمتها.
** المصدر: "عدكان استراتيجي"، مجلد 18، عدد 1، نيسان/أبريل 2015، تحرير: عاموس يادلين ومارك هيلر؛ منشورات معهد دراسات الأمن القومي- جامعة تل أبيب؛ http://www.inss.org.il
- ترجمته عن العبرية: يولا البطل.
[1] أمير إيشِل، "على طريق الجمود في التمرين"، منشورات الجيش الإسرائيلي، "معراخوت"، عدد 434 (كانون الأول/دسمبر 2010)، ص. 17-25.
[2] ديما أدمسكي ويوسي بيدتس، "تطور المفهوم الإسرائيلي للردع- نقاش انتقادي للجوانب النظرية والعملية، منشورات الجيش الإسرائيلي، "عشتونوت"، عدد 8 (تشرين الأول/أكتوبر 2014)، ص. 9-15؛ يسرائيل طال، "أمن قومي: قلة في مواجهة كثرة" (تل أبيب: دار نشر دفير، 1996)، ص. 19-22.
[3] شاي شبتاي، "عقيدة القتال بين الحروب"، "معراخوت، عدد 445 (تشرين الأول/أكتوبر 2012)، ص. 24-27؛ رون بن يشاي، "لعقيدة القتال بين الحروب قواعد خاصة بها"، موقع يديعوت أحرونوت الإلكتروني Ynet، 19 آذار/مارس 2014، http://www.ynet.co.il/articles/0,7340,L-4500826,00.html
[4] غور ليش، "نحو عقيدة أمنية جديدة: انتصار من دون حسم"، معراخوت، عدد 430 (نيسان/أبريل 2010)، ص. 7-8؛ عاموس هارئيل، "في قطاع غزة يحتفلون بانتظار المواجهة المقبلة"، هآرتس، 19 كانون الأول/ديسمبر 2014.
[5] أنظر المقالة بعنوان "هل أزفت نهاية سايكس- بيكو؟" في جريدة "واشنطن بوست": F.Gregory Gause III, “Is this the End of Sykes-Picot?”he Washington Post, May 20, 2014,http://www.washingtonpost.com/blogs/monkey-cage/wp/2014/05/20/is-this-the-end-of-sykes-picot
[6] أنظر مقالة بعنوان "إعادة نظر في متانة الاستبداد في منطقة الشرق الأوسط: دروس من الربيع العربي". Eva Bellin, “Reconsidering the Robustness of Authoritarianism in the Middle East: Lessons from the Arab Spring”, Comparative politics, 44:2 (January 2012), pp. 136-139; ؛ ومقالة بعنوان "دور الميديا الرقمية":Philip N. Howard and Muzaamil M. Hussain, “The Role of Digital Media”, Journal of Democracy, 22:3 (July 2011), pp. 40-46
[7] أنظر مقالة بعنوان "كن ذكياً: دمج القوتين الخشنة والناعمة"؛ Josef N. Nye Jr., “Get Smart: Combining Hard and Soft Power”, Foreign Affairs, 88:4 (July/August 2009), http://www.foreignaffairs.com/articles/65163/joseph-s-nye-jr/get-smart
[8] المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، "خطة الاستجابة الإقليمية السورية لدعم اللاجئين": UNHCR, Syria Regional Refugee Response, March 2, 2015, http://data.unhcr.org/syrianrefugees/regional.php
[9 ]David Stout, “Jordan’s King Abdullah Says the War Against ISIS is Our War”, Time, March 2,2015, http://time.com/3727926/isis-jordan-king-abdullah
[10] أنظر مقالة بينيديتا بيرتي حول كيف تحاول إسرائيل تجاوز انعكاسات الربيع العربي: Benedetta Berti, “Weathering the “Spring” Israel’s Evolving Assessments and Policies in the Changing
Middle East”, ISPI, 277, pp. 2-5, http://www.ispionline.it/sites/default/files/pubblicazioni/analysis_277_2014.pd
[11] أنظر: دروس من حرب لبنان الأولى، مثلما استعرضها رؤوفين إرليخ في محاضرته في مناسبة مرور ذكرى ثلاثين عاماً على تلك الحرب: http://www.terrorism-info.org.il/he/article/20365
[12] يوآف زيتون وروعي قيس، "جهاد مغنية خطط لإعتداءات في مرتفعات الجولان"، موقع يديعوت أحرونوت الإلكتروني Ynet، 19 كانون الثاني/يناير 2015،http://www.ynet.co.il/articles/0,7340,L-4616461,00.html,2015
[13] أنظر مقالة طوني بدران بعنوان "ضعف مقاربة إنتظر وراقب"، Tony Badran, “The Weakness of the Wait and See Approach”, Now. Lebanon, February 20,2015, https://now.mmedia.me/lb/en/commentary/564865-the-weakness-of-the-wait-and-see-approach
[14] أنظر تقرير وزراة الخارجية الأميركية التالي: United States Department of State, “Special Presidential Envoy for the Global Coalition to Counter ISIL”, http://www.state.gov/s/seci
[15] أمير بوحبوط، "جهات أمنية: حزب الله يسيطر على الجولان – خط أحمر من وجهة نظرنا"، نشرة "والا" الإلكترونية، 19 شباط/فبراير 2015؛ http://news.walla.co.il/item/2829781 وأنظر أيضاً المقابلة التي أجرتها مجلة "فورين أفيرز" مع الرئيس السوري بشار الأسد: “Syria’s President Speaks: A Conversation with Bashar al-Assad”, Foreign Affairs, 94:2 (March/April 2015), http://www.foreignaffairs.com/discussions/interviews/syrias-president-speaks
[16] Lee Smith, “Friends and Foe in Syria: The Enemy of my Enemy is my Enemy’s Enemy”, The Weekly Standard – The Magazine, 20:24 (March 2015), http://www.weeklystandard.com/articles/friend-and-foe-syria_859648.html
[17] ياعيل يهوشواع ويغآل كرمون، "إيران تبني جبهة فاعلة من البحر الأبيض المتوسط إلى الجولان بتواجد عسكري مباشر على حدود إسرائيل كي تردع إسرائيل وتروج لايديولوجيا تدمير الدولة الصهيونية"، ميمري [Middle East Media Research Institute]، 16 شباط/فبراير 2015.