حان الوقت للقول: وداعاً سورية، وداعاً سايكس- بيكو
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

– مباط عال

·       سببان أساسيان وراء عودة الحرب الأهلية في سورية إلى رأس جدول الأعمال الدولي. الأول يتصل بتعاظم الوجود العسكري الروسي في تلك الدولة. فقبل بضعة أسابيع كان الوجود الروسي في سورية هامشياً وبعيداً عن الأنظار، لكنه أصبح فائق الأهمية مع نشر عشرات الطائرات الحربية والطوافات ومئات الجنود ومنظومات دفاعية في شتى أنحاء الدولة. وقد أشار الرئيس الروسي بوتين علناً إلى ثلاثة أهداف للعملية الروسية: مساعدة نظام الأسد على الصمود؛ ضرب تنظيم داعش؛ والقضاء على المتطرفين الإسلاميين الروس الذين يقاتلون في صفوفه. أما السبب الثاني فيتعلق بإغراق أوروبا بتدفق متزايد للاجئين، ظاهرة أصبحت تمنع زعماء أوروبا من مواصلة تجاهل الحرب الأهلية المستمرة.

·       وعلى الرغم من أن إعادة الاستقرار إلى سورية مصلحة واضحة وملحة بالنسبة إلى جميع الأطراف المتورطين في الحرب الأهلية، فقد اقتصرت خلال السنوات الأربع الأولى للحرب ردود فعل دول أساسية في المجتمع الدولي على حمام الدماء في سورية، على الإدانة ومحاولة عدم التدخل مباشرة في ما يحدث. وهذا برغم أنه منذ المراحل الأولى للحرب اتضح أن تداعياتها لن تقتصر على سورية، وأنه بدأ يظهر عدم استقرار في الدول المجاورة لها من جراء مشكلة اللاجئين الذين غادروا سورية إلى لبنان وتركيا والأردن، كما تواجه أوروبا مشكلة اللاجئين السوريين الذين يطرقون أبوابها.

·       وسوف يزداد هذا الضغط في ضوء العدد الكبير من سكان سورية الذين يفرون من مناطق القتال، فهناك نحو ثلاثة ملايين لاجئ سوري من أصل عشرة ملايين خرجوا من حدود الدولة. وتراوح وتيرة مغادرة اللاجئين لسورية ما بين 70 ألفاً إلى 100 ألف لاجئ شهرياً.

·       والآن في ضوء الهجمات الروسية في سورية، تجري محاولات من أجل بلورة حل يكون مقبولاً من جانب الدول العظمى. وقد نقلت وكالة رويترز للأنباء عن وزير الخارجية الأميركي جون كيري (29 أيلول/سبتمبر 2015) أن "الولايات المتحدة وروسيا بلورتا مبادئ أساسية لمستقبل سورية" وأن "موسكو وواشنطن اتفقتا على أن تبقى سورية موحدة، وعلمانية، ومقاتلة [ضد محاربة داعش]". كما نقل عن مصادر في البيت الأبيض قولها إن "احتمالات استمرار بقاء الأسد في الحكم ليست عملية". ويبدو أن الغرب يواصل الانشغال بأفكار لا جدوى عملية لها.

·       يتعين على كل  من يبحث عن حل للأزمة في سورية الاعتراف بأن سورية كدولة ذات سيادة في حدودها المعروفة كما كانت سنة 2010 لم تعد موجودة. وفي المساحة المعروفة لن تقوم في المستقبل المنظور دولة سيادية ذات سلطة مركزية حقيقية. إن الرغبة التي توجه أطرافاً في المجتمع الدولي لإعادة العجلة إلى الوراء واعادة الاستقرار من جديد إلى سورية "القديمة" حول سلطة أخرى، لا تقوم على خطة استراتيجية- سياسية. وكل خطة استراتيجية تجري بلورتها بهدف وقف الحرب الأهلية في سوريا وتحديد مستقبل سورية يجب أن تنطلق من افتراض أساسي واضح هو أن سورية المجزأة والمقسمة لا يمكن توحيدها من جديد. لذا ينبغي التركيز على بديل عملي للدولة السورية ووضع خطة قابلة للتطبيق تستند إلى خطوط توجيهية متوافق عليها ومقبولة من جانب الأطراف الفاعلة في المنظومتين الإقليمية والدولية.

·       خلال الحرب الأهلية السورية قُسمت سورية بحكم الأمر الواقع إلى مناطق سماتها الأساسية ديمغرافية. وجرت الحركة الداخلية للاجئين والسكان في اتجاه تجمعات إثنية – دينية شعر هؤلاء فيها بأنهم أكثر أمناً. وبرغم عدم وجود تطابق كامل في المصالح بين المجموعات الإثنية، فقد برزت على الأرض تقسيمات إلى مناطق تمتاز نسبياً بالانسجام من الناحية الديمغرافية. وفي مثل هذه الظروف يبدو أن تقسيم سورية قانونياً إلى كيانات سياسية منفردة على أساس إثني- ديني، هو الخطوة الطبيعية المطلوبة التي تنطوي على فرصة لا يستهان بها للمساهمة في استقرار الساحة ووقف الحرب.

·       تسيطر الأغلبية السنية وستبقى مسيطرة، على معظم أراض سورية. إلى جانب ذلك، تُعطى ضمانات دولية وإقليمية لحماية الأقليات. يوجد في سورية ثلاث أقليات كبيرة في مناطق معروفة: العلويون في الغرب وفي الشريط الساحلي؛ الدروز في جبل الدروز خاصة وإلى الشمال من الأردن؛ والأكراد في الشمال وعلى الحدود مع تركيا. وأي خطة للتسوية في سورية يجب أن تقوم على ضمان وجود هذه المجموعات ضمن كيانات سياسية خاصة. وسيشكل تبني هذه الخطة حافزاً لمواجهة داعش والتنظيمات الإسلامية الراديكالية الأخرى.

·       يشكل موضوع دور الأسد في أي تسوية مستقبلية في سورية مداراً للخلاف بين روسيا ودول الغرب، ففي حين تتمسك دول الغرب بمطالبتها بتنحي الأسد عن منصبه، تنظر روسيا إلى الأسد بوصفه طرفاً يدعم مصالحها في المنطقة. ومن المحتمل أن يخفف استمرار الأسد في السيطرة على المنطقة العلوية فقط من معارضة الغرب من جهة، وأن يسمح من جهة أخرى للروس بالمحافظة على مصالحهم في منطقة الساحل (طرطوس واللاذقية) في موازاة مقابل مواصلة الحرب ضد داعش. وربما تتوصل روسيا وإيران إلى ادراك أن استمرار الحرب وتعقدها سيعرّض نفوذيهما في سورية إلى الخطر وأن في الإمكان المحافظة على مصالحهما من خلال علاقتهما بالكيان العلوي.

·       وعلى الرغم من خشية المجتمع الدولي من تفكك الدولة، فإن تقسيم سورية يصب في مصلحة أغلبية اللاعبين الدوليين والإقليميين الراغبين في اعادة الهدوء إليها، وفي كبح داعش، مثل الولايات المتحدة ودول أوروبا من جهة، والنظام في كل من الأردن ولبنان من جهة أُخرى. ولكن برغم أن تقسيم سورية يخدم أيضاً المصالح الإسرئيلية، فليس من الصائب أن تتصدر إسرائيل الدعوة إلى ذلك في المجتمع الدولي، وعليها التركيز على المحافظة على مصالحها الحيوية.  

·       إن تسوية سياسية جديدة تستند إلى تقسيم سورية إلى عدد من الكيانات السياسية يمكن أن تكون (ولكن ليس بالضرورة) ذات بنية فدرالية أو كونفدارلية. وستساعد التسوية المقترحة في التخفيف من الاحتكاكات بين المجموعات المختلفة، وفي تقليص خطر الحرب الأهلية المستدامة، وفي تأمين الحماية للأقليات في وجه القوى الإسلامية الراديكالية، ومن بينها "داعش". ومن النتائج المترتبة عن استقرار الساحة على هذا الأساس كبح التداعيات السلبية للقتال في سورية الذي يشكل أرضية للتطرف الإسلامي الراديكالي في مختلف أنحاء المنطقة، ولا سيما في الأردن ولبنان.

·       ثمة جذور للفكرة المقترحة في التاريخ السوري، فخلال حكم الانتداب في المشرق أقامت فرنسا خمسة كيانات شبيهة بالدولة على أمل إعدادها كي تصبح سلطة مستقلة مستقبلاً. وكان للحكم الذاتي الدرزي والعلوي سمة إثنية- ديموغرافية، وأُقيمت أربعة من هذه الكيانات الخمسة في أيلول/سبتمبر 1920. أما "دولة جبل الدروز" فقد أقيمت بعد سنتين على هذا التاريخ. وفي وقت لاحق تحولت المنطقة المسيحية إلى دولة لبنان، وجرى ضم الأقلية الكردية في الإسكندرون إلى تركيا سنة 1939. وقد ربطت الفكرة الفرنسية الأساسية بين بنية الدولة والتطلع نحو حماية الأقليات.

·       وفي نهاية 2013 أعلن الأكراد في سورية إقامة منطقة كردية تتمتع بحكم ذاتي، ونشروا دستورها ودعوا إلى انتخاب برلمان. واليوم تتمحور مخاوف الأكراد والدروز حول الخطر الذي يتربص بهم من جانب تنظيم داعش وسائر التنظيمات السنية المتطرفة.

·       ثمة ارتباط بين المشروع الوطني الكردي في سورية والأقلية الكردية في العراق وتركيا ورؤية بناء أمة ودولة مستقلة على جميع أنحاء أرض "كردستان الكبرى". ولهذا الغرض فإن الحصول على موافقة تركيا على تسوية تتضمن كياناً سياسياً كردياً على أرض سورية سيشكل تحدياً غير بسيط. وقد يساعد توضيح الدول العظمى لتركيا بأن الكيان الكردي لن يتخطى حدود سورية في التخفيف من المعارضة التركية المتوقعة.

·       إن الطموحات القومية الدرزية أقل من الطموحات الكردية، وينصب اهتمام الدروز بصورة أساسية على جوهر بقائهم. لكن في الظروف الراهنة، فإن حكماً ذاتياً درزياً في جنوب سورية (من النوع الذي كان موجوداً في فترة الانتداب الفرنسي، والذي ألغي قبيل استقلال سورية السياسي) يمكن أن يستقبل بالترحاب من جانب الدروز في إطار التسوية المقترحة. ويمكن تصوّر أن تؤيد أطراف إقليمية ودولية قيام هذا الكيان لأنه سيشكل حاجزاً بين الأردن في الجنوب والكيان السني الراديكالي الموجود في وسط سورية.

·       لكن ما دام اللاعبون الأساسيون في النظام الدولي متمسكين بفكرة دولة علمانية في سورية تحت حكم مركزي موحد، التي هي فكرة عقيمة، فلا يمكن التقدم نحو حل.  لكن في الوقت الحالي، وبعد أربعة أعوام من حرب أهلية وحشية، وربع مليون قتيل، وعشرة ملايين لاجئ، وزعزعة استقرار لبنان والأردن، ومخاطر اشتباكات عسكرية بين الدول العظمى في أجواء سورية، فإن لدى جميع الأطراف حافزاً لتغيير التوجه. وفي ضوء التعادل العسكري المستمر تستطيع جميع الأطراف تقدير أن تقسيم سورية يمكن أن يسمح لهم المحافظة على مصالحهم الأساسية، والحؤول دون دفع الأثمان غير المحتملة المفروضة عليهم اليوم.

·       إن معنى استمرار الحرب في سورية هو مذابح ولجوء وإرهاب، وخطر السيطرة الكاملة للمعسكر السني الراديكالي على جميع أنحاء سورية. في مقابل ذلك، فإن تحركاً منسقاً ومنظماً هدفه "فصل قوات" بين الأغلبية السنية في الدولة والأقليات التي تعيش على أرضها ويمكن أن يطبق بغطاء وإدارة دولية، هو الحل الصحيح، لأنه الحل الذي ينطوي على الاحتمال الأكبر لتحقيق الاستقرار.

·       قبل 100 عام قسّم اتفاق سايكس- بيكو المشرق إلى دول قومية في خطوة لم تأخذ في الاعتبار الارتباط الوثيق بين الهوية والتركيبات الديمغرافية. لقد حان الوقت لوداعه، على الأقل في سورية. لقد فرض الواقع ذلك. وقد حان الآن دور السياسيين.