معابر غزة وقوة "حماس" الاقتصادية
المصدر
مركز موشيه دايان للأبحاث شرق الأوسطية والأفريقية

تأسس في سنة 1959 بالتعاون مع جامعة تل أبيب. وهو مركز متعدد المجالات، ينشر دراسات تتعلق بالنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، كما يُعنى بالموضوعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الدول العربية والدول الأفريقية. ولدى المركز أهم مكتبة للمصادر العربية من كتب ومجلات وصحف. وتصدر عن المركز سلسلة كتب مهمة في مختلف المجالات، ولديه برامج تدريب ومنح أكاديمية.

المؤلف

تعالج هذه الدراسة انعكاسات فتح معبر رفح بين مصر وقطاع غزة على "تجارة الأنفاق" التي استطاعت من خلالها حركة "حماس" مواجهة الحصار المفروض عليها وتعزيز سلطتها السياسية والاقتصادية على قطاع غزة. كذلك ترصد الدراسة كيف تسبب فرض الحصار الإسرائيلي على غزة وازدهار "تجارة الأنفاق" بتدمير قطاع الأعمال الغزّي الشرعي وإفقار العاملين فيه. ويتوقف كاتب الدراسة أمام التغييرات الماكرو ـاقتصادية التي طرأت على القطاع وأدت إلى تراكم الثروات الطائلة في يد طبقة جديدة من رجال الأعمال الذين يسيطرون على تجارة الأنفاق ويحظون برعاية "حماس" ودعمها. ويخلص إلى أن فتح معبر رفح سيؤدي إلى إضعاف سلطة "حماس" الاقتصادية، الأمر الذي سينعكس سلباً على قدراتها العسكرية والأمنية. 

"... فأخذ شمشون مصراعي باب المدينة بعضادتَيْه وقلع الباب ومغلاقَه وحمله على منكبَيْه..." (سفر القضاة، 16، 3).

جدّد قرار السلطات المصرية إعادة فتح معبر رفح بين مصر وقطاع غزة الاهتمام بالسياسات المتعلقة بمنافذ قطاع غزة وبالحركة منه وإليه. كذلك سلّط احتمال انطلاق أسطول مساعدات ثانٍ من تركيا إلى غزة الضوء على القطاع.

وبحسب الآلية المصرية الجديدة، يفتح معبر رفح ستة أيام في الأسبوع من التاسعة صباحاً وحتى الخامسة عصراً، ويقفل أيام الجمعة والعطل الرسمية. ويعفى من التأشيرة المسبقة كل السيدات الفلسطينيات بمختلف أعمارهن، والذكور أقل من 18 عاماً وأكبر من 40 عاماً، أمّا الذكور الفلسطينيون الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و40 عاماً فعليهم الحصول على تأشيرة مسبقة من الجهات المعنية، ويقتصر العبور على مَن هو مدرج في سجلات السكان المسجلين لدى إسرائيل. وعملياً، يحتاج معظم الرجال الفلسطينيين إلى إذن مسبق لعبور رفح، ولا يؤذن للعديد منهم بالعبور.

لا تشمل الآلية الجديدة حركة البضائع، لذا فهي لا تؤثر في الاقتصاد ولا في سيطرة "حماس"، وإنما هي تبعث فقط على الارتياح لمجرد رفع الحصار. لكن، في حال توسعت هذه الإجراءات لتشمل الحركة التجارية، فسيتغير كل شيء، فما نحاول أن نبيّنه في هذه الدراسة هو أن استخدام معبر رفح كطريق بديل للتجارة، وفتحه أمام حركة شاحنات البضائع، سيؤثران سلباً في "تجارة الأنفاق"، وسيؤديان بالتالي إلى إضعاف سيطرة "حماس" الاقتصادية على قطاع غزة بصورة كبيرة.

تقدّر حركة شحن البضائع من وإلى غزة، المطلوبة لدعم "نشاط اقتصادي طبيعي" في سنة 2010، بأكثر من 1000 حمولة شاحنة في اليوم. وفي مرحلة ما قبل سنة 2000، السابقة للانتفاضة الثانية، بلغ متوسط عدد حمولات شحن البضائع من واردات وصادرات ما معدله 600 إلى 700 حمولة في اليوم، ووصلت ذروة حركة الشاحنات إلى نحو 1000 شاحنة في بعض الفترات. واعتباراً من أواخر سنة 2000 ووصولاً إلى حزيران/يونيو 2007، أدت القيود الإسرائيلية المتشددة والمواجهات المتزايدة إلى انخفاض متوسط عدد حمولات الشاحنات إلى نحو 450 حمولة شاحنة في اليوم. وفي فترات اندلاع العنف، هبطت حركة الشاحنات إلى مستويات غير مسبوقة، كما يظهر في الرسم البياني رقم 1 أدناه (نحو 400 شاحنة واردة إلى غزة، ونحو 30 إلى 40 شاحنة صادرة من غزة).

الرسم البياني رقم 1

حركة التجارة بين غزة وإسرائيل:
المعدل اليومي لحمولات الشاحنات من دون حمولات المحروقات

على معابر غزة كافة
 

منذ سيطرة "حماس" على قطاع غزة في حزيران/يونيو 2007، شددت إسرائيل قيودها على الحركة من وإلى غزة بصورة كبيرة، فحُظّر عملياً التصدير من غزة، باستثناء بعض حمولات شاحنات المحاصيل الزراعية [فراولة، بندورة، وأزهار]، كذلك سُمح باستيراد بعض الأصناف لدواعي إنسانية فقط. وانخفض معدل حمولات شاحنات السلع الواردة إلى غزة بنسبة 95٪؛ فمن أكثر من 450 حمولة في اليوم في الأشهر الخمسة الأولى من سنة 2007 إلى أقل من 20 حمولة في اليوم خلال النصف الثاني من سنة 2007، ثم ارتفع هذا المعدل إلى نحو 90 ـ100 حمولة في اليوم خلال سنتي 2008 و2009 والنصف الأول من سنة 2010 (ما عدا في فترات المواجهات العنيفة حين كان يهبط هذا المعدل إلى 50 أو حتى إلى 20 حمولة في اليوم).

وعليه، وبمعدل يتراوح بين 90 و100 حمولة شاحنة في اليوم، كانت المعابر الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية تزوّد قطاع غزة بأقل من 10٪ من وارداته الكافية لنشاط اقتصادي طبيعي [1000 حمولة في اليوم]، وبأقل من ربع مجمل طلب قطاع غزة من البضائع والسلع في فترة ما قبل حزيران/يونيو 2007.

كذلك انخفض إمداد المحروقات من إسرائيل، وشهد تقلبات من شهر إلى آخر، فلم يعد يُعتمد عليه، إذ توقف نهائياً نقل بعض أصناف الوقود. وفي أيار/مايو 2008، أظهر تقرير استطلاعي للبنك الدولي أن إمداد البنزين بلغ نحو 10٪ فقط من الكمية المطلوبة، وإمداد الديزل بلغ نحو 25٪ من الكمية المطلوبة، وإمداد غاز الطهي بلغ 40٪ من الكمية المطلوبة.

واقتصرت الأصناف القليلة التي سُمح باستيرادها من إسرائيل على السلع "الإنسانية" المطلوبة لسدّ الحاجات الأساسية للسكان، وبالتالي أصبحت مُدْخلات الإنتاج الصناعي والزراعي والبناء غير متوافرة، الأمر الذي أدى، بالإضافة إلى حظر التصدير، إلى تدمير القطاعات الإنتاجية الصناعية في قطاع غزة. وفي كانون الأول/ديسمبر 2008، تم إغلاق 95٪ من المنشآت الصناعية [أي 3705 من أصل 3900 منشأة مفتوحة في سنة 2005]، ثم انخفض عدد المنشآت العاملة إلى 117 منشأة فقط، وهبط عدد العمال الصناعيون بالنسبة ذاتها، أي من 35,000 عامل في سنة 2005 إلى 2000 عامل فقط في نهاية سنة 2008.

 

الرسم البياني رقم 2

عدد المنشآت الصناعية العاملة وعدد المستخدمين في غزة:
2007-2009
 

انعكست هذه التطورات هبوطاً حاداً بنسبة الثلث في الناتج المحلي الإجمالي لقطاع غزة بالأرقام الحقيقية بين سنتي 2005 و2009، مقارنة بنمو حقيقي بنسبة 42٪ في الضفة الغربية في الفترة نفسها، وانخفض بالتالي نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في قطاع غزة، بينما تحسّن في الضفة الغربية. ففي حين كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الضفة الغربية أكثر بنسبة 13٪ فقط من نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في غزة في سنة 2005، أصبح يساوي الضعفين والنصف بحلول سنة 2009، وهذا ما يُظهره الرسم البياني رقم 3 أدناه:

 

الرسم البياني رقم 3

نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في كل من غزة والضفة الغربية: 1994-2009
 (دولار أميركي)

 

وقد كان تأثير هذه التطورات في العمالة كارثياً، إذ خسر أكثر من 100 ألف عامل في القطاع الخاص وظائفهم ـنحو 70 ألف في الصناعة والتجارة، وعشرات الآلاف في الزراعة (مزارعون صغار مستقلون) وفي قطاع البناء ـوعلى الرغم من استحداث عشرات آلاف فرص العمل الجديدة في القوى المسلحة لحركة "حماس"، بقيت نسبة 40٪ من القوة العاملة عاطلة عن العمل، وزاد معدل بطالة الشبيبة على 50٪.

وأظهرت دراسة عن الواقع المعيشي ومعدلات الفقر في قطاع غزة في الآونة الأخيرة أن معدل الفقر بلغ ذروته حين وصل إلى 50٪ في سنة 2007، وتراجع إلى 38٪ في سنة 2009، في حين تراجع معدل الفقر في الضفة الغربية من 20٪ في سنة 2007 إلى 19٪ في سنة 2009. وقد تم قياس معدلات الفقر العالية في قطاع غزة بعد أن سُمح لهيئات الإغاثة الدولية بتقديم المعونة الإنسانية للسكان، إذ أخذ المانحون الدوليون على عاتقهم دور تأمين شبكة أمان اجتماعية أساسية لسكان القطاع من خلال مجموعة كبيرة من آليات الرعاية الاجتماعية. وفي نهاية سنة 2007، كان نحو 80٪ من عوائل غزة يعتمدون على معونات المانحين الدوليين الإنسانية.

وقد تكيّف نظام "حماس" بفعالية مع القيود الإسرائيلية على العبور من وإلى غزة، لا بل نجح في تحويل هذه القيود إلى مصدر رئيسي لسلطته الاقتصادية، وردّ على الحصار الإسرائيلي ـالمصري بتطوير شبكة واسعة من الأنفاق تحت الأرض على خط الحدود الفلسطيني - المصري في رفح، وهي الشبكة التي شكلت طريقاً بديلاً للواردات. وعملت حركة "حماس" على "تطوير" شبكة الأنفاق التي أقيمت اعتباراً من سنة 2000 لتهريب الأسلحة والمتفجرات، فحوّلتها إلى طريق تجاري متشعّب، ومأسست "تجارة الأنفاق" وأخضعتها لسلطتها المطلقة، وذلك من خلال ترخيص هذه الأنفاق وتسجيلها وتنظيم بنيتها التحتية وعمالتها، وترخيص السلع المستوردة عبرها وتسجيلها.

ومكّنت حركة "حماس" "مستوردي الأنفاق" المرخَّصين من إدخال عدد ضخم من البضائع والمنتوجات، بما فيها مواد البناء، والوقود على أنواعه، والسيارات، وجميع المستوردات الاستهلاكية، ومن تفادي المتاهة البيروقراطية الإسرائيلية ومراقبة الحدود من جانب السلطة الوطنية الفلسطينية و"حماس" نفسها. كذلك حسّنت "حماس" شبكة توزيع الطاقة الكهربائية لتشغيل مئات الرافعات، وأنشأت هيئة لشؤون الأنفاق لتنظيم تنامي الاستيراد.

ووفق تقديرات وزارة الاقتصاد الوطني التابعة للسلطة الوطنية الفلسطينية، بلغ عدد الأنفاق العاملة أكثر من 1300 نفق في النصف الأول من سنة 2010، وتم استيراد أكثر من 4300 صنف من خلال هذه الشبكة الضخمة (مقارنة بـ 108 أصناف مسموح استيرادها عبر المعابر الخاضعة للسلطة الإسرائيلية). وعندما كانت إسرائيل تضيّق على إمداد القطاع بالمحروقات، ساهمت هذه الأنفاق في مدّ سكان القطاع بجزء مقبول من حاجاتهم من هذه المنتوجات؛ في البداية، بأربعة أضعاف ثمن هذه المحروقات في الجانب الإسرائيلي، لكن لاحقاً، وعبر خطوط الأنابيب، بأسعار أرخص بكثير من أسعار المورّد الإسرائيلي (جراء تهريب المشتقات النفطية المصرية المدعومة). وبحلول أواسط سنة 2009، كان معظم إمدادات القطاع بالبنزين والديزل (المستخدمة في وسائل النقل، والمصنّفة بالتالي من جانب السلطات الإسرائيلية كـ "منتجات غير أساسية") يأتي من مصر عبر الأنفاق بمعدل يصل إلى 200 ألف ليتر في اليوم. أمّا المحروقات "الأساسية"، مثل غاز الطهي والوقود الصناعي (لمحطة غزة لتوليد الطاقة الكهربائية)، فقد واصلت إسرائيل إمداد القطاع بها، ولم تُستورد عبر الأنفاق بأحجام كبيرة.

وقد ساهمت تجارة الأنفاق في الإثراء السريع لبعض "مالكي الأنفاق" و"تجار الأنفاق"، وأدت عملية تغيير ماكرو ـاقتصادية في القطاع إلى تراكم الثروات الطائلة في أيدي رجال أعمال مدعومين من "حماس" أو يحظون برعايتها، ويسيطرون على اقتصاد الأنفاق.

ودُمّر قطاع الأعمال الغزّي الشرعي الذي كان، تاريخياً، ينتج ويصدّر إلى إسرائيل، والذي كان يحافظ على شريان حياة الاستيراد من إسرائيل لمعظم المنتوجات المستهلكة أو المصنّعة في القطاع، وغرق العديد من رجال الأعمال في الفقر، مع عمالهم وعائلاتهم. وبحلول سنة 2008، كانت أغلبية عمال ومستخدمي القطاع الخاص قد دُفعت إلى فقر مدقع وإلى الاعتماد على شبكة الأمان الاجتماعي للمانحين الدوليين في سبيل تأمين قوتهم اليومي، إذ بات عمال القطاع العام الخاضع لسيطرة "حماس"، ومستخدمو اقتصاد الأنفاق، وحدهم قادرين على إعالة أسرهم ودعم أقربائهم العاطلين عن العمل.

والأهم من هذا كله أن حركة "حماس" استخدمت سيطرتها على التجارة الخارجية لقطاع غزة، من خلال الأنفاق، كرافعة لتطوير نظام متكامل من المدخول الضريبي. ويشمل هذا النظام كلاً من ضرائب ورسوم الاستيراد، والرسوم الجمركية، وعائدات الاستيراد الأخرى التي غدت جميعها مصدر الدخل الرئيسي لحكومة "حماس".

بالإضافة إلى ذلك، واصلت السلطة الوطنية الفلسطينية دفع رواتب الموظفين الحكوميين، وتدفع السلطة فعلياً رواتب نحو 70 ألف موظف في قطاع غزة تم التعاقد معهم قبل كانون الأول/ديسمبر 2005 (بعضهم لا يداوم في وظائفه)، وتسدّد أيضاً قيمة النفقات الجارية للقطاع الحكومي، أي ما مجموعه بليون دولار أميركي تقريباً في العام.

ويجعل هذا المبلغ الكبير السلطة الوطنية الفلسطينية أكبر رب عمل في قطاع غزة، وأكبر مصدر للعائدات الاقتصادية في القطاع الخاضع لسيطرة "حماس". وتدفع السلطة رواتب معظم موظفي الوزارات المدنية، والمجالس البلدية، والوكالات المدنية العديدة التي تؤدي الخدمات العامة الأساسية، كذلك تسدّد النفقات الجارية لأنظمة الرعاية الصحية والتعليم. وفي حقيقة الأمر، حرّرت مساهمات السلطة الوطنية الفلسطينية، جنباً إلى جنب مع برامج الإغاثة الدولية، حكومة "حماس" من العبء المالي لتأمين الخدمات العامة المدنية وحاجات الرعاية الاجتماعية لمعوزي غزة.

وغني عن القول إن سياسات السلطة الوطنية الفلسطينية الآنفة الذكر والإغاثة الدولية كانتا ضروريتين لمنع انهيار اقتصادي وأزمة إنسانية في قطاع غزة. مع ذلك، سمحت هذه السياسات لحركة "حماس" باستعمال مواردها المالية الخاصة في تطوير قواتها العسكرية والأمنية والحفاظ عليها، وفي دفع رواتب الموالين للحركة المتمركزين في إدارات الوزارات المتعددة، أو الذين يمارسون أنشطة حكومية رئيسية.

وبفضل مداخيل تجارة الأنفاق المزدهرة، تمكنت "حماس" من زيادة موظفيها العسكريين وشبه العسكريين من 4000 أو 7000 في سنة 2005، إلى 35,000 في سنة 2009، منهم نحو 20,000 من الأفراد المسلحين. أضف إلى ذلك أن الحركة تمكنت من استغلال الموارد المالية المحوَّلة من السلطة الوطنية الفلسطينية ووكالات الإغاثة لدفع الرواتب إلى الموالين لها وإلى مؤيديها الذين حلوا محل الموالين لحركة "فتح" في الوظائف الحكومية، ولدفع رواتب آلاف المنتسبين إلى الحركة، بمَن في ذلك العسكريين الذي يحتلون مناصب مدنية مزيفة.

وقد استخدمت "حماس" سيطرتها على الأجهزة العسكرية وأجهزة الأمن الداخلي لوضع هذه القوات تحت إمرتها. ونتيجة ذلك، أضافت الحركة رجال الشرطة الذين يلبسون "الزي الأزرق"، والبالغ عددهم 10,000 شرطي، وأفراد أجهزة أمنية أخرى، إلى القوات المسلحة الخاضعة لإمرتها المطلقة، في حين أن السلطة الوطنية الفلسطينية واصلت دفع رواتبهم.

وجلب تدفّق المنتوجات الاستهلاكية المستوردة عبر الأنفاق ارتياحاً كبيراً لميسوري الحال الذين يمكنهم شراء المنتوجات الكمالية. كذلك زوّدت الأنفاق السوق المحلية بمنتوجات أساسية كالمحروقات، ومواد البناء، وأصناف عديدة أخرى لها سوق كبيرة نسبياً في القطاع. وسمحت هذه الواردات بتسيير وسائل النقل بصورة طبيعية، وبإنعاش حركة التجارة والبناء وبعض الأنشطة الأخرى.

أمّا القطاعات الإنتاجية فلم تستفد إلاّ بدرجة محدودة من هذه الطريق لأن تجار الأنفاق عجزوا عن تأمين متطلبات الصناعيين من مواد أولية محدّدة، ومن مواد شبه مصنعة، ومن المدخلات المطلوبة في العملية الإنتاجية، وبالتالي، وكما يظهر في الرسم البياني رقم 2، استأنفت بعض المنشآت الصناعية أعمالها سنة 2009 بفضل نظام الاستيراد عبر الأنفاق. لكن، وعلى الرغم من زيادة عدد المؤسسات التجارية والصناعية العاملة بصورة ملحوظة، إلاّ إن معظمها يعمل بنسبة 10 إلى 20٪ من طاقته الإنتاجية.

واعتباراً من تموز/يوليو 2010، رفعت إسرائيل بعض قيودها عن استيراد كل من المنتوجات الاستهلاكية والمدخلات المطلوبة للاستثمار العام ولمشاريع إعادة الإعمار التي يشرف عليها المانحون الدوليون. لكن السياسة الإسرائيلية الجديدة أبقت على معظم قيود التصدير من غزة، وعلى التضييق على واردات القطاع الخاص من سلع رأسمالية ومواد أولية ومُدخلات ذات الاستخدام "المزدوج"، بما في ذلك مواد البناء ومدخلات استثمارية أخرى (بموجب "قائمة سلبية" من الأصناف المحظور استيرادها).

وعزّزت آلية العبور الإسرائيلية الجديدة النشاط التجاري والاقتصادي الغزّي. ففي أعقاب الآلية الجديدة، زاد عدد حمولات الشاحنات الواردة إلى غزة نحو الثلثين، وبلغ ما معدله 160 حمولة في اليوم في النصف الثاني من سنة 2010. لكن، بعد القفزة التي تلت تطبيق الآلية الجديدة، لم تُظهر البيانات الشهرية للفصل الأخير من سنة 2010، وللأشهر الأولى من سنة 2011، أية زيادة في عدد الحمولات، فمستوى 160 حمولة شاحنة في اليوم، اعتباراً من تموز/يوليو 2010، هو أقل بنسبة 40٪ من متوسط عدد حمولات الشاحنات قبل حزيران/يونيو 2007، ويُعزى هذا الأمر إلى حظر استيراد مواد البناء والمواد الأولية وسائر مُدخلات القطاع الخاص، إذ كانت تشكّل هذه المواد المحظورة نحو ثلثي واردات غزة قبل حزيران/يونيو 2007.

وعلى الرغم من النطاق المحدود لتغيّر سياسة إسرائيل في أواسط سنة 2010، أظهرت دراسة بشأن قطاع الأعمال الغزّي أن الرفع الجزئي للتضييق الاقتصادي أثّر بشكل مباشر وملحوظ في نشاط قطاع الأعمال، إذ زاد معدّل المبيعات بنسبة 27٪ بين حزيران/يونيو 2010 وكانون الثاني/يناير 2011 ، وارتفع معدل استخدام الطاقة الإنتاجية من 34٪ إلى 40٪. وانعكس هذا المنحى الإيجابي، والملفت أيضاً، في زيادة بنسبة 15٪ في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي خلال سنة 2010، كما يظهر الرسم البياني رقم 4 أدناه:

الرسم البياني رقم 4

الناتج المحلي الإجمالي لكل من غزة والضفة الغربية بالأسعار الجارية:
1994ـ 2010
(ملايين الدولارات الأميركية)
(باستثناء القدس الشرقية ـأرقام أولية لسنتي 2009 و2010)

لكن النمو تركّز في القطاعات التي تبيع أساساً إلى السوق المحلية في قطاع غزة (كالمنتوجات الغذائية)، الأمر الذي يعكس تعزيز الإنتاج المحلي بفضل دخول مواد أولية من إسرائيل. أمّا القطاعات الإنتاجية الموجّهة نحو التصدير (صناعة الملابس، إلخ) فقد أظهرت تراجعاً لأن حظر التصدير لم يُرفع. من جهة أخرى، كانت السوق المحلية في قطاع غزة مشرّعة أمام المنافسة الخارجية للواردات من إسرائيل أو عبرها. وبالتالي، أظهرت الدراسة أن المبيعات الصناعية، وعلى الرغم من تحسنها الملحوظ، كانت، في كانون الأول/يناير 2011، تعادل ما نسبته 58٪ من مستوياتها في سنة 2005، الأمر الذي يعكس أثر استمرار حظر التصدير. كذلك بيّنت الدراسة، وفقاً لتقدير صناعيي غزة، أن من شأن فتح المعابر أمام التصدير من غزة إلى إسرائيل والضفة الغربية أن يثمر زيادة بنسبة 60٪ في المبيعات، وبنسبة 50٪ في العمالة.

في المحصلة، أثّر تغيير السياسة الإسرائيلية، اعتباراً من حزيران/يونيو 2010، بصورة إيجابية وملحوظة، في نشاط صناعيي وتجار القطاع الخاص الشرعيين، ومكّنهم من منافسة تجار الأنفاق. وفي حال سُمح بإمداد حرّ ومتواصل للمدخلات والمواد الأولية، ورُفع حظر التصدير، فإن ذلك سيؤدي إلى انتعاش النشاط التجاري والصناعي للقطاع الخاص الشرعي في قطاع غزة.

وتشير بعض التقارير إلى تراجع حجم تجارة الأنفاق اعتباراً من حزيران/يونيو 2010. لكن، بما أن حجم الاستيراد عن طريق معابر غزة ـإسرائيل الشرعية هو أقل بكثير من الطلب المحلي، وبما أن إسرائيل تحظّر استيراد السلع الرأسمالية والمواد الأولية والمدخلات، فلا يزال هناك مجال واسع لتجارة الأنفاق. أضف إلى ذلك أن تجار الأنفاق ينافسون فعلياً إمدادات إسرائيل بالمحروقات وبمختلف السلع الاستهلاكية نتيجة تهريبها بأسعار مخفّضة من مصر.

وكان لتغيير السياسة الإسرائيلية اعتباراً من حزيران/ يونيو 2010 تأثير طفيف في كل من مرتكزات الاقتصاد الغزّي الخاضع لحكم "حماس"، وفي سيطرة الحركة على الاقتصاد واستخدام القوة الاقتصادية لإبقاء قبضتها على القطاع.

إلاّ إن هذا كله قد يتغيّر من خلال التطورات المحتملة التالية:
أ) جملة من الخطوات المتفق عليها في شباط/فبراير 2011 بين ممثل اللجنة الرباعية وإسرائيل، التي من شأنها تطبيع الأوضاع الاقتصادية في القطاع، والتركيز على توسيع التصدير بالتدريج من غزة، وعلى تخفيف التضييق على استيراد المدخلات إليها (تجدر الإشارة إلى أن واردات قطاع غزة عبر المعابر الشرعية خاضعة لضرائب تجبيها إسرائيل بالنيابة عن السلطة الوطنية الفلسطينية، ثم تحوّل إيراداتها إلى السلطة الوطنية، بينما تخضع واردات الأنفاق لضرائب "حماس").

ب) من شأن فتح السلطات المصرية معبر رفح أمام حركة الشحن، في حال وافقت مصر، خفض تهريب البضائع من مصر إلى غزة عبر الأنفاق. ولمصر مصلحة في ضبط تهريب الوقود المدعوم بنسب كبيرة، أو السجائر الخاضعة لضريبة عالية، لأن هذا التهريب يساهم إلى حد كبير جداً في زيادة إيرادات حركة "حماس" من تجارة الأنفاق على حساب الخزينة المصرية.

أمّا الآثار المترتبة على هذين التطورين، إن طُبّقا، فهي: خفض مدخول "حماس" من تجارة الأنفاق بصورة ملحوظة؛ إضعاف سلطة "حماس" الاقتصادية؛ الحد من قدرات "حماس" المالية. وفي النتيجة، ستواجه حركة "حماس" صعوبات مالية في تمويل قواتها العسكرية والأمنية الحالية والحفاظ عليها، وفي تغطية نفقاتها العسكرية الأخرى.


"اقتصادي"، المجلد الأول، العدد 3، حزيران/يونيو، مركز موشيه ديان للدراسات الشرق أوسطية والإفريقية، تل ابيب.

ـ الترجمة عن الإنكليزية: يولا البطل.