المسعى الفلسطيني في الأمم المتحدة في ظلّ الأزمة الاقتصادية
تاريخ المقال
المصدر
مركز موشيه دايان للأبحاث شرق الأوسطية والأفريقية
تأسس في سنة 1959 بالتعاون مع جامعة تل أبيب. وهو مركز متعدد المجالات، ينشر دراسات تتعلق بالنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، كما يُعنى بالموضوعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الدول العربية والدول الأفريقية. ولدى المركز أهم مكتبة للمصادر العربية من كتب ومجلات وصحف. وتصدر عن المركز سلسلة كتب مهمة في مختلف المجالات، ولديه برامج تدريب ومنح أكاديمية.
- فيما تمضي لسلطة الفلسطينية قدماً في طلب اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطينية، يغرق اقتصادها في الأزمة. ذلك أن انتعاشَ اقتصاد الضفة الغربية من تداعيات الانتفاضة، الذي تحقّق بفضل التخفيف الجزئي للقيود والاغلاقات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، وأيضاً بفضل المساعدات الخارجية، آخذٌ بالتراجع منذ منتصف 2010. ونتيجة الانحسار الحاد في المساعدات الدولية الواردة إلى الخزينة العامة في 2011، تحوّل التباطؤ الاقتصادي إلى أزمةٍ ماليةٍ خطيرة.
- اعتباراً من أيار/مايو 2011، عجزت السلطة الفلسطينية عن صرف رواتب وأجور موظفي القطاع العام في الموعد المحدّد. فهي لم تستطع في آب/أغسطس أن تدفع سوى نصف رواتب الموظفين عن شهر حزيران/يونيو. ويصعب على السلطة الفلسطينية الاقتراض من البنوك المحلية لتمويل العجز المالي المتكرّر، لأنها تدين بمبالغ كبيرة لهذه البنوك. وعليه، وفي سعي لصرف القسم الثاني من رواتب حزيران/يونيو قبل حلول عيد الفطر، رتّبت السلطة الفلسطينية في آخر آب/أغسطس قرضاً مصرفياً قصير الأجل، بينما طالبت الجانبَ الإسرائيلي بتحويل مبكر لمستحقاتها من عائدات الضرائب عن الشهر التالي. وبما أن هذا الطلب قوبل برفض وزير المال الإسرائيلي، تأخر صرف رواتب حزيران/ يونيو مجدّداً، مما زاد حراجة موقف السلطة الفلسطينية تجاه القطاع المصرفي. ولقد وصف رئيس الحكومة الفلسطينية سلام فيّاض هذا الوضع كأسوأ الأزمات المالية التي تمرّ بها السلطة الفلسطينية.
- يشكّل الموظفون الحكوميون، ومن ضمنهم ملاك قوات الأمن، نحو ربع القوة العاملة الفلسطينية. ويؤثّر عجزُ السلطة الفلسطينية عن صرف رواتب هؤلاء الموظفين سلباً في القوة الشرائية للأسر الفلسطينية، التي تذمّرت من عدم تمكّنها من التحضير لحلول عيد الفطر وبدء العام الدراسي الجديد، وأعربت عن قلقها على مداخيلها في الأشهر القادمة.
- كان النمو السريع لاقتصاد الضفة الغربية في السنوات الأخيرة مدعوماً إلى حد كبير بالمساعدات الدولية السخيّة، التي ارتفعت بصورة حادة خلال سنوات ما بعد الانتفاضة، والتي موّلت رواتب الموظفين الحكوميين، والخدمات العامة، وشبكة أمان اجتماعي واسعة. تغيّر هذا المنحى في 2009، وانحسرت المساعدات بشدة في 2010 و2011. وهبط المعدّل الشهري للهبات الخارجية الواردة لدعم موازنة النفقات الجارية ومشاريع التنمية بنسبة أكثر من الثلثين، أي من معدّل شهري يزيد على 150 مليون دولار في 2008، إلى معدّل شهري يبلغ 50 مليون دولار في الربع الثاني من 2011 (أنظر الرسم البياني رقم 1).
المصدر: تقارير صندوق النقد الدولي نيسان/أبريل 2011، أيلول/سبتمبر 2008، أذار/مارس 2007؛ وزارة المالية الفلسطينية، شباط/فبراير 2011، حزيران/يونيو 2011.
- تكشف الانعكاسات السلبية، السريعة والقوية، لتراجع المساعدات الخارجية على الاقتصاد الفلسطيني، هشاشةَ وعدمَ استدامة النمو الاقتصادي في الأراضي الفلسطينية. وهذا ما يؤكده المراقبون. فلقد اعتبر صندوق النقد الدولي، في نيسان/أبريل 2011، أن هذا الانتعاش الاقتصادي لن تكتب له الديمومة إذا لم تخفف إسرائيل القيود التي تفرضها على الحركة وعلى انتقال السلع من وإلى الأراضي الفلسطينية. وحذّر البنك الدولي قائلاً "إن هذا النمو لا يبدو مستداماً. فهو يعكس انتعاشاً من الحضيض الذي بلغه خلال الانتفاضة الثانية، لكنه محصور في القطاع غير التجاري، المدعوم بهبات المانحين".
- وجاء في خطة التنمية الفلسطينية للسنوات 2011-2013 أن التنمية الاقتصادية في ظل الظروف الراهنة لن يُكتب لها الديمومة بسبب "القيود والعراقيل في وجه التجارة والاستثمار، التي تمنع نمو القطاع الخاص، وتعيق تنفيذ المشاريع الاستثمارية للقطاع العام، وتؤدي إلى اضطراب النمو الاقتصادي... ومن شأن انخفاض إيرادات الموازنة والمساعدات الخارجية أن يزيد معدلات البطالة والفقر التي ستستدعي زيادة الانفاق على التقديمات المعيشية".
- وتَظهر هذه المشكلات بجلاء عند فحص مكوّنات النمو الاقتصادي السريع في الضفة الغربية خلال السنوات الأخيرة. فلقد نما استهلاك القطاع الخاص في الضفة الغربية بنسبة 80% خلال الفترة 2005-2009. كما زاد الانفاق الحكومي بنسبة 136%، وشهد الاستثمار في قطاع البناء (للأبنية السكنية أساساً) نمواً بنسبة 120%، خلال الفترة المذكورة. لكن فـي المقابل، في 2008 و2009، تراجعت الاستثمارات في القطاعات الأخرى، ولا سيما الاستثمار في زيادة الطاقة الانتاجية للاقتصاد، إلى ما هو أدنى حتى من مستواها عام 2005. وتجلى النمو السريع في الاستهلاك وفي قطاع البناء السكني في زيادة هائلة للبضائع المستوردة، قياساً بزيادة متواضعة للصادرات الفلسطينية. وعليه، اتسعت الفجوة بين الواردات والصادرات الفلسطينية من السلع والخدمات في الضفة الغربية من 1,6 بليون دولار أميركي في 2005، إلى 2,8 بليون دولار أميركي في 2009 (أنظر الرسم البياني رقم 2).
رسم 2- الواردات والصادرات الفلسطينية من البضائع
ملايين الدولارات- بالأسعار الجارية
المصدر: الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، إحصائيات التجارة الخارجية، 2009، منشور في آذار/مارس 2011
- يعكس هذا النمط من النمو نقاط الضعف والهشاشة التي ظهرت منذ1967، ألا وهي: الاعتماد المفرط على الاقتصاد الإسرائيلي، وعلى الدعم المالي الخارجي، بنية تحتية غير متطورة، تركيبة معقّدة من التقييدات متصلة بالنظام الاقتصادي وبالترتيبات التجارية المقيِّدة مع إسرائيل، القيود على الحركة وعلى انتقال البضائع [من وإلى الأراضي الفلسطينية]، وسائر العراقيل التي تشلّ الحركة الاقتصادية، بالإضافة إلى الضغوط القاهرة، الديمغرافية، والاجتماعية والمتعلقة بسوق العمل.
- وتتداخل هذه المشكلات مع الجمود السياسي، ومع التفجّر المتكرر للنزاع مع إسرائيل، لترخي بثقلها على الاقتصاد وأحوال المعيشة في الأراضي الفلسطينية.
- وتوضح أنماط التبادل التجاري حقيقة الوضع. إذ تؤدي أنظمة التبادل التجاري الإسرائيلي - الفلسطيني، بالتضافر مع القيود الإسرائيلية المتعددة، إلى منع تطور الصادرات الفلسطينية. ولقد راكمت السلطة الفلسطينية عجزاً تجارياً بنيوياً هائلاً، كما بيّنا أعلاه، أفضى إلى زيادة الارتهان الفلسطيني للجهات المانحة وللمساعدات الخارجية.
- ويجدر بنا التوقف عند مشكلة القوة الشرائية ومستوى المعيشة في المناطق الفلسطينية. فالتداخل الاقتصادي مع السوق الإسرائيلية ينعكس في مستوى للأسعار شبيه أو قريب من مستوى الأسعار في إسرائيل، في حين أن الرواتب والأجور الفلسطينية أدنى بكثير من معدلاتها في إسر ائيل. وعليه، فإن القوة الشرائية الحقيقية للأسر الفلسطينية أدنى بكثير من القيمة الاسمية المدوّنة في الحسابات الوطنية الفلسطينية وفي إحصائيات دخل الأسرة. وينطوي هذا الترابط في الأسعار على تداعيات مؤثرة. إذ تُظهر المقارنات الدولية أن الناتج المحلي القائم الفلسطيني للفرد، المحتسب على قاعدة القوة الشرائية المحلية، هو أدنى بكثير من الناتج المحلي القائم للفرد في البلدان العربية المجاورة، وأنه أعلى بنسبة طفيفة فقط من مستواه في البلدان الفقيرة كالسودان واليمن (أنظر الرسم البياني رقم 3).
المصدر: "كتاب السي. آي. إي السنوي 2010"، مقارنة بين البلدان: الناتج المحلي القائم للفرد بناءً على "تعادل القوة الشرائية".
- وعلى الرغم من نقاط الضعف المذكورة، حقّقت السلطة الفلسطينية خطوات كبيرة على طريق بناء مؤسسات الدولة، "من القاعدة إلى أعلى قمة الهرم المؤسساتي"، بحسب مقاربة رئيس الحكومة سلام فياض. ومنذ انطلاق برنامج سلام فياض، عزّزت السلطة الفلسطينية مؤسساتها وحسّنت أداءها في مجالات الحوكمة، والإدارة الاقتصادية، والبنى التحتية، والمسؤولية الضريبية، والعدل وحكم القانون، والخدمات الاجتماعية. ومع أن الفضل في هذا التقدّم يعود لتعهّد حكومة السلطة الفلسطينية برئاسة سلام فياض [بتحسين أداء مؤسسات الحكم]، إلاّ إن الدعم القوي للجهات المانحة ساهم في تحقيقه.
- علاوة على ذلك، تشدّد خطة التنمية الفلسطينية للسنوات 2011-2013، على أن بناء المؤسسات ينبغي أن يترافق مع التنمية الاقتصادية البعيدة المدى، وعلى أنه لن تكتب الديمومة لهذا البناء إلا إذا تواصل تدفّق المساعدات الدولية في السنوات القادمة.
- إن المساعدات الدولية للسلطة الوطنية مسيّسة. فالأسرة الدولية تعتبر المساعدة الاقتصادية ركيزةً من ركائز المسار السلمي الإسرائيلي –الفلسطيني. وبسبب الطبيعة السياسية الجلية للدعم المالي الدولي للسلطة الفلسطينية، أدّى توقف المسار السلمي إلى تلكؤ المانحين عن الإيفاء بالتزاماتهم، وإلى تدني حجم المساعدات اعتباراً من مطلع 2010. وإذا وضعنا في اعتبارنا الضغوطَ الاقتصاديةَ الداخليةَ المتزايدةَ على المانحين الأساسيين – الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي –فمن المرجح جداً أن يتواصل منحى تراجع دعم المانحين والانخفاض الحاد في حجم المساعدات الذي طرأ خلال السنتين 2010-2011، إلا إذا شعرت الأسرة الدولية بانتعاش مسار السلام، وبفرصة حقيقية في التوصل إلى حل سياسي.
- يهدّد انخفاضُ المساعدات الخارجية، بالإضافة إلى ضعف الاقتصاد الفلسطيني، الاستقرارَ الاقتصادي والسياسي للسلطة الفلسطينية. وقد تتزايد المخاطر الاقتصادية والاجتماعية إذا أفضى طلبُ العضويةِ لدولةٍ فلسطينيةٍ في الأمم المتحدة، إلى جمودٍ سياسي قد يطلق تشديدَ إسرائيل عى القيود والإغلاقات، وتأخيرَها تحويل عائدات الضرائب الفلسطينية. وهذا من شأنه أن يفاقم الأزمة الاقتصادية ويؤدي إلى إضعاف كبير للسلطة الفلسطينية. وقد يتضافر الاحتقانُ الاجتماعي والإحباطُ السياسي، فيدفعا الشباب الفلسطيني إلى الشارع، مما يزعزع وضعَ السلطةِ الفلسطينية والعلاقاتِ الإسرائيلية - الفلسطينية.