تقوم الرواية الصهيونية الرسمية للتفوّق الإسرائيلي في المجال التكنولوجي على ادعاء الفرادة اليهودية والطاقة الإبداعية للمبادر الإسرائيلي، وعلى صفة الإقدام وحب المخاطرة لخريجي وحدات النخبة في الجيش الإسرائيلي الملائمة لخوض غمار الأعمال وتأسيس شركات ناشئة، وعلى أسطورة المهاجر المبادر، وعلى كم من الأساطير الدعائية. لكن أثبتت الوقائع أنه لولا الرعاية الأميركية المتواصلة ودعم المتموّلين اليهود في الولايات المتحدة، ولولا تدخل كل أجهزة الحكومة الإسرائيلية منذ البداية "الاشتراكية" وصولاً إلى الحكومات الليبرالية من جهة، ولولا الحروب والتوسع والهجرة الاستيطانية من جهة أُخرى، لما كانت الصناعة المتطورة الإسرائيلية على ما هي عليه اليوم. وهذه هي الوقائع التي نتعقّبها في التقرير التالي.
"إن رواية النجاح الاقتصادي الإسرائيلي هي مجرد أسطورة... وفي الواقع تمثّل إسرائيل اليوم الحرس القديم. إنها لاتنافسية، ولاإنتاجية، ولافعّالة، ودون المستوى الأمثل".([1]) هذا التقويم صادر عن ياغيل واينبرغ،([2]) وهو أكاديمي إسرائيلي يقدّم الاستشارة الاقتصادية للقيادة الصهيونية، وعندما يصدر مثل هذا التقويم فإن الأمر يستوجب التأمل في مغزاه ومقاصده. والأهم هو ما يضيفه: "إن تصوير إسرائيل كجنة اقتصادية تنافسية هو أمر جوهري بالنسبة إلى الطريقة التي تنظر فيها إسرائيل إلى نفسها، كذلك بالنسبة إلى الانطباع السائد وسط مشجّعي إسرائيل في العالم أجمع".([3])
هذا التشخيص هو في أساسه رد على "مادحي معجزة إسرائيل الاقتصادية"، وعلى رأسهم مؤلفَيْ كتاب "دولة الشركات الناشئة"([4]) الذي يروّج للاستثمار في إسرائيل، ودعوة إلى إجراء
إصلاحات عميقة تتوخى زيادة تنافسية الشركات الإسرائيلية في الأسواق العالمية، وهو أيضاً يأتي في سياق معالجة أسباب توقف نمو الصناعات الإسرائيلية الرائدة اعتباراً من سنة 2005، والتي كانت موضع تحليل وبحث في التقرير الأخير لمعهد شموئيل نئمان التابع للتخنيون،([5]) ويعكس قلقاً متزايداً من عدم قدرة إسرائيل على تحقيق التفوق الاقتصادي الذي هو ضرورة وجوديّة، أساساً، لمنع الهجرة المعاكسة، من خلال زيادة معدّل دخل الفرد وتحسين مستوى المعيشة.
الحاضنة الأميركية
منذ قيام إسرائيل كانت المساعدة العسكرية الأميركية ولا تزال بمثابة نقل للتكنولوجيا وعامل تحفيز للصناعات العسكرية، وشكّل الجيش والقطاع الأمني في إسرائيل بيئة حاضنةً لهذه الصناعات التي نمت بفضل الإنفاق العسكري المحلي وحروب إسرائيل، وبفضل الصادرات العسكرية والأمنية. وفاضت فوائد التكنولوجيا العسكرية على صناعات مدنية تتصف بالتقانة العالية والمتوسطة. وكان للشركات الأميركية العملاقة والرائدة في هذا المجال (Intel, IBM, Texas Instruments)، دور المشجّع والراعي من خلال فتح فروع لها في إسرائيل منذ بداية السبعينيات، الأمر الذي خلق فرص عمل لعشرات آلاف الإسرائيليين.
عندما أقنع أصدقاء إسرائيل مدراء شركة إنتل، مصنّعة رقائق الحواسيب، بفتح فرع في مستعمرة كريات غات سنة 1974، كانت إسرائيل خارجة من صدمة حرب أكتوبر. فبعد نشوة الانتصار في حرب سنة 1967، والتوسع، والاستيطان، وجلب آلاف المهاجرين اليهود (مئة ألف مهاجر في سنة 1972)، هبط عدد المهاجرين إلى إسرائيل إلى 14,000 في سنة 1974، وإلى الصفر في سنة 1975. وكانت إسرائيل قد دخلت ما سُمي لاحقاً "العقد الضائع" الذي شهد تباطؤاً في النمو ومعدّلات تضخم لا سابق لها (من 13٪ في سنة 1971، إلى 111٪ في سنة 1979، و133٪ في سنة 1980، و445٪ في سنة 1984).
وبادر أصدقاء إسرائيل في الولايات المتحدة سنة 1977 إلى إنشاء مؤسسة إسرائيلية ـأميركية للبحث والتطوير الصناعي:"Israel-US Binational Industrial Research and Development Foundation" (BIRD) مهمتها دعم المشاريع المشتركة، وتقديم قروض لأصحاب المشاريع الإسرائيليين.([6]) وشرح رئيس المجلس الاستشاري للمؤسسة، إد ملافسكي، الأميركي من أصل إنكليزي، أن مهمة فريقه آنذاك تلخّصت في تعريف شركات إسرائيلية تمتلك تكنولوجيا معيّنة على شركات أميركية تتولى تسويق منتوجاتها في الولايات المتحدة الأميركية، ولأن معظم الشركات الأميركية كانت متردّدة، فقد موّلت المؤسسة تكاليف المشاريع المشتركة، وموّل برنامج BIRD خلال عشرين عاماً 780 مشروعاً استثمارياً بقيمة إجمالية تبلغ 250 مليون دولار أميركي، وبلغت عوائد هذه المشاريع من مبيعات مباشرة وغير مباشرة 8 بليون دولار أميركي.([7]) إلاّ إن تأثير هذا البرنامج كان يفوق هذه المداخيل، لأنه كان بمثابة برنامج تدريب لشركات تكنولوجية إسرائيلية على كيفية القيام بأعمال تجارية في الولايات المتحدة، كذلك كان بمثابة طريق مختصرة للأسواق الأميركية، إذ كان الدرس مفيداً جداً حتى في حال فشل المشروع. وللدلالة على فوائد هذا البرنامج، نذكر أن 60٪ من الشركات الإسرائيلية المتداولة في بورصة نيويورك و70٪ ومن تلك المدرجة في لائحة NASDAQ في سنة 1992، تلقّت تمويلاً ورعاية من مؤسسة BIRD.([8])
كان الاقتصاد الإسرائيلي في آخر "العقد الضائع" مكبّلاً بمعدل تضخم ثلاثي الأرقام تطلّب تدخل الراعي الأميركي سنة 1985. وبتدبير من وزير الخارجية الأميركي جورج شولتس وبناء على نصح اقتصاديي صندوق النقد الدولي، ومن بينهم الأميركي ستانلي فيشر الذي هو اليوم حاكم مصرف إسرائيل المركزي، طبّق وزير المالية شمعون بيريس يومها الوصفة الليبرالية لمؤسسات واشنطن المالية التي قضت بتقليص الدين العام، وخفض الإنفاق الحكومي، وإصلاح طرق تدخّل الحكومة في الأسواق المالية، وبدء تنفيذ برنامج الخصخصة.([9]) ولاحقاً استكمل وزير المالية نتنياهو، في سنة 2003، وبدعم من رئيس الحكومة أريئيل شارون، مسيرة الخصخصة (شركة الطيران "العال"، شبكة الاتصالات "بيزيك") والتحوّل الليبرالي، فخفّض بعض الضرائب بهدف تحفيز استثمارات القطاع الخاص، وطبّق إصلاحات مصرفية، الأمر الذي أدى إلى تحرير ما يوازي 300 مليون دولار من سندات الخزينة في الشهر للاستثمار، وأفضى إلى تأسيس شركات مالية في كل من تل أبيب ونيويورك.([10])
كانت الوصفة الليبرالية تلك خاصة بإسرائيل ولم تعنِ إطلاقاً إلغاء دور الدولة فيها أو تقليص دور القطاع العام والقطاع الأمني، وذلك على غرار وصفات صندوق النقد الدولي الجاهزة، وإنما على العكس، تابعت أجهزة الحكومة تدخّلها لتشجيع الاستثمار، بهدف تقوية القطاع الخاص، واستيعاب الهجرة اليهودية إلى إسرائيل، وهذا ما تبرهنه البرامج التي طُبّقت في تسعينيات القرن الماضي، وعلى رأسها برنامج "يوزما" (مبادرة) الذي ساهم في ازدهار شركات الصناعة فائقة التكنولوجيا التي هي مصدر فخر وتباهي إسرائيل والغيارى عليها في الولايات المتحدة الأميركية.
الهجرة روسية... والتمويل يهودي
في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، كان الاقتصاد الإسرائيلي بطيء النمو، وكان يذكّر بما كان عليه سنة 1966(نسبة نمو تعادل الصفر، تباطؤ حركة الهجرة إلى إسرائيل، مستوى معيشة منخفض). وكان يلزمه كي "ينطلق" إمّا حرب جديدة، وإمّا هجرة كثيفة ونوعية، بحسب رأي المحلّلين الإسرائيليين أنفسهم.([11])
وعليه، أفضت جهود القيادة الصهيونية في العالم، وبدء انهيار الاتحاد السوفياتي، إلى هجرة نحو 500 ألف يهودي روسي بين سنتي 1990 و1994. وارتفع العدد الإجمالي للمهاجرين الروس في سنة 2000 إلى أكثر من 800 ألف مهاجر،([12]) وهذه أكبر هجرة بالمقاييس النسبية، إذ أضافت خمس عدد السكان المقيمين بإسرائيل خلال عقد من الأعوام، أي ما يوازي "تدفّق 62 مليون مهاجر ولاجىء إلى الولايات المتحّدة الأميركية خلال عقد".([13]) وما ميّز هذه الهجرة، بالإضافة إلى حجمها، هو أن ثلث هؤلاء المهاجرين الروس كانوا من العلماء والمهندسين المتفوّقين في مجالهم، وأن جميع المهاجرين البالغين كانوا من المتعلمين.
واعتباراً من سنة 1991، أنشأت الحكومة الإسرائيلية حاضنات تكنولوجية (21 حاضنة) من شأنها توفير الموارد والتمويل اللازم للعلماء الروس من أجل الشروع في أعمال البحث وتطوير ابتكاراتهم، وهدفت هذه البرامج إلى تطوير منتوجات قابلة للتسويق والتصدير وجني العوائد. كذلك موّلت الحكومة الإسرائيلية مئات المشاريع والشركات الناشئة بمعدل 300 ألف دولار لكل
مشروع،([14]) لكن بقيت النتائج مخيبة للآمال في غياب آلية تمويل مشاريع على درجة عالية من المخاطر، وذلك نتيجة نقص في الرأسمال الاستثماري المحلي، ولأنه "لم يكن لدى الإسرائيليين الخبرة في إدارة الشركات وتسويق المنتوجات"، بحسب قول العالم الرئيسي في وزارة الصناعة والتجارة الإسرائيلية يغآل إرليش.([15])
وعليه، طرح خبراء في وزارة المالية، في سنة 1992، برنامجاً طموحاً ("يوزما") يقضي بأن توظّف الحكومة الإسرائيلية 100 مليون دولار أميركي في عشرة صناديق رأسمال استثماري مستقلة venture) capital funds)، يشارك في إدارتها كل من المستثمرين المتدربين الإسرائيليين، وشركة رأسمال استثماري أميركية، ومصرف أو شركة مالية إسرائيلية. ولم يقتصر دور المستثمر الأميركي على تأمين التمويل، بل تعداه إلى الرعاية والتدريب وتعريف المبادرين أصحاب المشاريع على شبكة من المستثمرين والعملاء والأسواق ومساعدتهم في بناء شركاتهم.
وانطوى برنامج "يوزما" على أن تحتفظ الحكومة الإسرائيلية بحصة نسبتها 40٪ من رأسمال كل مشروع في البداية، وعلى تمكين أصحاب المشاريع من شراء حصة الحكومة بعد مرور خمسة أعوام وبشروط سهلة للغاية، وذلك عند نجاح المشروع وبداية تحقيقه الأرباح "وهو ما يعني أن الحكومة تتحمل المخاطر، إلاّ إنها تقدم كل العوائد للمستثمرين".([16])
أُنشىء صندوق "يوزما" الأول بشراكة مع بنك ديسكاونت الإسرائيلي وشركة رأسمال استثماري من بوسطن هي Advent Venture Partners، وترأسه كل من مدير مؤسسة BIRD، إد ملافسكي، ويوسي سيلع. وأصبح اسم هذا الصندوق فيما بعد Gemini Israel Funds، وكان أول المستفيدين منه شركة Ornet Data Communications، لصاحبتها أورنا بيري، وهي من كبار سيدات الأعمال، وقد عُيّنت في سنة 1997 في منصب العالم الرئيسي في وزارة الصناعة والتجارة الإسرائيلية، ثم أصبحت في سنة 2007 رئيسة جمعية المستثمرين الإسرائيليين.
وكُلّف المدير السابق لسلطة تطوير القدس، إيريل مرغَليت، إدارة صندوق آخر، ومعروف عن مرغاليت أنه وُلد في كيبوتس إسرائيلي، وخدم لأكثر من خمسة أعوام كمساعد لتيدي كوليك،
رئيس بلدية القدس من سنة 1965 إلى سنة 1993، وأنه استفاد من برنامج "يوزما" ليؤسس سنة 1994 صندوق رأسمال استثماري سمّاهJerusalem Venture Partners . ويفاخر مرغَليت بأنه ساهم في جمع ملايين الدولارات من مؤسسات كبرى، ومن بينها فرانس تيليكوم، وبوينغ، وجامعة كولومبيا، ومعهد مساشوستس للتكنولوجيا، ومن حكومة سنغافورة، وبأن معظم الشركات التي دعم انطلاقتها بيعت لشركات كبرى بمبالغ كبيرة، وبعضها الآخر مدرج في قائمة ناسداك. ومن أهم نجاحاته شركة Chromatis Networks التي بيعت إلى شركة Lucent في مقابل 4,5 بليون دولار أميركي.([17]) وأدرجت مجلة فوربس الأميركية اسمه في المرتبة التاسعة والستين لأفضل رأسماليي الاستثمار في العالم لسنة 2007.
بلغ طموح إيرل مرغَليت حد إعادة كتابة السردية الصهيونية لنشأة إسرائيل، وهو الحائز على دكتوراه في الفلسفة من جامعة كولومبيا، فكانت رسالته عن "القادة التاريخيين"، وتحديداً ونستون تشرشل ودافيد بن - غوريون. ويزعم مرغَليت أن "السردية الصهيونية الجديدة والرائدة" تُصنع اليوم في قطاع التكنولوجيا العالية، وأنها تتمحور حول الابتكار وجني الأموال، فيقول "هذه وسيلة شرعية للربح لأنك تبتكر أشياء جديدة".([18]) وفي السردية الصهيونية الليبرالية الجديدة، يصبح بن - غوريون "المبادر الأول"، إذ يضيف مرغاليت "بمصطلحات الأعمال، إن بن -غوريون هو رجل العمليات الذي بنى البلد فعلياً"، وتطلّبت التحديات التي واجهها "في إدارة العمليات اللوجستية" تدخّل الدولة لإنشاء المستوطنات وتوزيع المهاجرين اليهود جغرافياً. ويؤكد مرغَليت أن بن - غوريون لم يكن يوماً اشتراكيّاً، وأن هذه أسطورة مفهومة نظراً إلى أوضاع نشأة إسرائيل.([19])
دبّر أصدقاء إسرائيل في كاليفورنيا لقاءات جمعت رؤساء صناديق "يوزما" بمتموّلين يهود كبار قدّموا ملايين الدولارات الأميركية "لغيرتهم على إسرائيل ليس إلاّ".([20]) وتمكنت صناديق "يوزما" من جمع أكثر من 200 مليون دولار بين سنتي 1992 و1997، ومن إشراك شركات تكنولوجية أميركية تعمل في "سيليكون فالي" (وادي السيليكون). ثم تحوّلت هذه الصناديق فيما بعد إلى صناديق استثمار خاصة تدير أكثر من 3 بليون دولار من رأس المال، وتدعم مئات الشركات الجديدة في إسرائيل. وبحسب جمعية المستثمرين الإسرائيليين، ارتفع عدد الصناديق إلى 45 صندوقاً في سنة 2009، كذلك وصل عدد الشركات الاستثمارية العاملة في إسرائيل إلى
240 شركة "أجنبية ومحلية" تستثمر في الشركات الإسرائيلية الناشئة العاملة في مجال التكنولوجيا.([21])
وكانت الصناعات فائقة التكنولوجيا (hight-tech) محور تركيز القيادة الإسرائيلية والمستثمرين على السواء لما تجلبه من قيمة مضافة، ولأهميتها الاستراتيجية في الدرجة الأولى، وخصوصاً بعد تراجع حصة الصادرات العسكرية من إجمالي الصادرات الإسرائيلية. وشهدت الصناعات فائقة التكنولوجيا نمواً مذهلاً خلال تسعينيات القرن الماضي، فقفزت قيمة صادراتها من 5,5 بليون دولار أميركي في سنة 1996 إلى 13 بليون دولار أميركي في سنة 2000، وتراجعت إلى 11 بليون دولار في سنتي 2002 و2003، ثم ارتفعت مجدّداً إلى أن بلغت أوجها في سنة 2008، أي 18,1 بليون دولار أميركي. وتشير الأرقام الأخيرة إلى أن عدد العاملين في هذا القطاع بلغ 268 ألفاً سنة 2009، وإلى أن قيمة الصادرات فائقة التكنولوجيا بلغت 17,9بليون دولار، أي 30٪ من إجمالي الصادرات الإسرائيلية.([22]) إلاّ إنه اعتباراً من سنة 2005 لوحظ وجود تباطؤ في معدل نمو هذا القطاع، الأمر الذي دفع مراكز الأبحاث الإسرائيلية العديدة التي تسدي المشورة والنصح إلى تحليل أسباب هذا التباطؤ وتقديم اقتراحات للمعالجة أجمعت كلها على تعزيز تدخّل الدولة وزيادة موازنات البحث والتطوير.([23])
الوجه الآخر للمعجزة الاقتصادية
"إن الفجوة في نوعية الحياة بين إسرائيل والبلاد المتطورة خطرة... فنوعية الحياة والخدمات العامة في إسرائيل متدنية، وتشكّل الهجرة إلى الخارج فرصة بالنسبة إلى العديد من الأشخاص لتحسين أوضاعهم".([24]) هذا الكلام صدر في شباط/فبراير 2009 عن معهد رؤوت الذي يقدّم المشورة والنصح للحكومة الإسرائيلية، والذي يطمح رئيسه غيدي غرينبرغ إلى جعل إسرائيل واحدة من مجموعة البلاد المتطوّرة الـ 15 الأولى في العالم، وذلك في غضون الأعوام الخمسة عشر القادمة. ويعتبر المعهد الذكور أن "مرتكزات الاقتصاد الإسرائيلي ضعيفة، ونسبة المشاركة في القوة العاملة منخفضة، وأن النظام التعليمي مقصّر في حق طلاّب العلم... وأن نوعية الحياة قد تتراجع أكثر بحيث تصبح الهجرة إلى الخارج تهديداً وجودياً".([25])
من جهته حذّر البروفسور في الاقتصاد دان بن- دافيد في جامعة تل أبيب من ظاهرة هجرة الأدمغة التي أصابت الجامعات الإسرائيلية في العقد الأخير، ويقول إن معظم زملائه الاقتصاديين آثروا الذهاب للعمل في جامعات أجنبية، ويُقدّر العدد الإجمالي لأساتذة الجامعات الإسرائيلية الذين غادروا إلى الخارج بنحو 3000 أستاذ. ولم تقتصر الهجرة من إسرائيل على هذه الفئة بل تعدتها إلى شرائح أوسع، الأمر الذي استدعى منح الحكومة الإسرائيلية جميع العائدين من الولايات المتحدة الأميركية إعفاءات من ضريبة الدخل لمدة عشرة أعوام.([26])
ليس لنا الآن أن نعرض التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية العميقة التي شهدها الكيان الاستيطاني في العقود الأخيرة، لكنها بالتأكيد تشكل صيرورة متداخلة: ليبرالية اقتصادية، وتوجه نحو اليمين المتشدّد، وعنصرية دينية.([27]) أمّا السمة المميزة للاقتصاد الإسرائيلي فهي شدة تركّزه وتمركزه واحتكار "الحيتان المالية" لقطاعي المصارف والتأمين وسيطرة قلة من الأثرياء على القطاع الخاص.([28])
لكن الاحتكارات العملاقة التي تتحكم بأسعار كل شيء في السوق الإسرائيلية (تنوفا، وشتراوس، وتارا)، والتي تجني عوائد مرتفعة نتيجة غياب التنافس المحلي، لا تستطيع المنافسة في السوق العالمية بسبب إنتاجيتها المنخفضة، وانعدام روح الابتكار لديها، وهذا تشخيص الاقتصاديين ياغيل واينبرغ ومايكل بورتر اللذين يتحديان أسطورة النجاح الاقتصادي لإسرائيل،([29]) وإن كان القصد من ذلك التحفيز على إجراء إصلاحات تهدف إلى تشجيع التحديث والابتكار لزيادة الانتاجية والتنافسية. وفي الآونة الأخيرة، طرح الدكتور ياغيل واينبرغ السؤال التالي: "ما هو العدد الحقيقي للنجاحات العالمية التي حققها الاقتصاد الإسرائيلي؟" فلم يجد سوى ثلاثة: شركة Teva Pharmaceuticals التي تصنع الأدوية الجنيسية، وشركة Iscar للأدوات الدقيقة التي اشتراها الملياردير الأميركي وارن بوفيه سنة 2006، وشركة تكنولوجيا البرامج تشيكبوينت (Checkpoint Software).([30]) وتعد شركة "تشيكبوينت" من كبرى شركات الصناعة فائقة التكنولوجيا الإسرائيلية. ويتكوّن هذا القطاع، بحسب مايكل بورتر، من أنواع شتى من الشركات، بدءاً بشركات ذات بروفيل مخاطرة منخفضة تربح مئات ملايين الدولارات في العام، وصولاً إلى شركات "من دون موديل تجاري"، وهي تأمل بأن يُقدم أحد على شرائها بسبب تكنولوجيا معينة لديها أو بمجرّد وجودها على الشبكة.([31]) وأدت الطفرة في هذا القطاع إلى نشوء عشرات الآلاف من أصحاب الملايين الجدد، ولا سيما بين المهاجرين الروس خلال الفترة 1993- 2005، وأكثر ما يخشاه القادة الإسرائيليون، وما لاحظه فعلاً اقتصاديون ومراقبون، هو أن يكون جلّ همّ المبادرين إطلاق شركات ناشئة Start-Ups لبيعها إلى شركات كبرى (أميركية في الغالب)، وأخذ المال والمغادرة، بدلاً من إعادة توظيفه في إنشاء شركات جديدة كبيرة تستخدم التقنيين الإسرائيليين.([32])
لم يستطع هذا القطاع المرتهن لأسواق التصدير والموجّه منذ بدايته إلى الخارج (الولايات المتحدة أساساً، وأوروبا وآسيا)، أن يَقْطُر سائر قطاعات الاقتصاد التي بقيت بمنأى عن التحديث، إذ أفضى التركيز الضيق على الصناعات فائقة التكنولوجيا من جانب الحكومة والمستثمرين من جهة، وتركّز الأسواق المالية الإسرائيلية وتمركزها من جهة أخرى، إلى جعل إطلاق مشروع صناعي وتجاري "غير تكنولوجي" أمراً شبه مستحيل.([33]) وبالتالي، أصيب هذا القطاع بانتكاسات بعد سنة 2005 جراء الأزمة العالمية، الأمر الذي قاد إلى"تسريح آلاف المستخدمين في قطاع التقنية الفائقة" الإسرائيلي، وإلى تحوّل العديد من شركات التقنية الفائقة الكيبوتسية إلى العمل أربعة أيام في الأسبوع.([34]
عنصرية وإقصاء في التقنية الفائقة
عندما يشير الاقتصاديون إلى تدنّي مشاركة القوة العاملة الإسرائيلية، وإلى أنها بالكاد تتجاوز نسبة 50٪ (مقارنة بنسبة 65٪ في الولايات المتحدة الأميركية)، فإنهم يقصدون فئتين داخل المجتمع الإسرائيلي هما الحريديم (المتدينون المتشددون اليهود)، والفلسطينيون ("عرب إسرائيل")، وهؤلاء متهمون بإقصاء أنفسهم عن المشاركة المنتجة في تنمية الاقتصاد الإسرائيلي. وقد يكون هذا الاتهام في محله عندما يُقصد به الحريديم الذين يلازمون المدارس الدينية (اليشيفوت)، ولا يتجندون في الجيش، ولا يخدمون في الاحتياط، ويعتاشون من الإعانات الاجتماعية التي تكفلها لهم الحكومات الإسرائيلية بموجب قوانين من عهد بن - غوريون، إلاّ إن إلصاق هذه التهمة بالفلسطينيين هو تعمية عن الإقصاء المقصود لأصحاب الأرض الحقيقيين، وعن العنصرية التي تتجلى في أبشع صورها في قطاع التقنية الفائقة الإسرائيلي.
يتخرج مئات الشبان (والشابات) الفلسطينيين من كليات الهندسة والتكنولوجيا المرموقة في إسرائيل في كل عام، لكنهم لا يجدون فرص عمل تليق بشهاداتهم واختصاصاتهم. وتوقف عند هذه الظاهرة كل من حلمي كتّاني وحانوخ مرمري، من المركز اليهودي العربي للتطوير الاقتصادي، وأكدا أنها سياسة "أن يجلب كل صديق صديقه من المدرسة أو الوحدة العسكرية ويكافأ على ذلك"، إذ تجعل هذه السياسة التوظيف في صناعة التقنية الفائقة حكراً على الذين لديهم "أصدقاء في الأماكن الملائمة"، فتُقصي بالتالي "المواطنين العرب الذين يشكّلون 20٪ من سكان إسرائيل عن طفرة التقنية الفائقة". وبرهاناً على ذلك، يضيف كل من كتّاني ومرمري أنه على الرغم من اعتراف جمعية صناعيي إسرائيل بحاجتها إلى أكثر من ألف مهندس وتقني لملء الشواغر في 175 شركة صناعية في سنة 2006، فإنه لم يتم توظيف أي من الخريجين الفلسطينيين الذين يصطدمون بـ "الحائط الزجاجي" لصناعات التقنية الفائقة.([35])
إن هذا الإقصاء، الملازم لطبيعة الكيان الصهيوني يرافقه تمجيد لدور وحدات النخبة في الجيش الإسرائيلي في تخريج المهندسين والمبادرين، كأنهم يتخرّجون من جامعات هارفرد وبرنستون وييل،([36]) ويعدّد مادحو النموذج الإسرائيلي مزايا وحدة الاستخبارات 8200، ووحدة المتفوقين "تالبيوت"، ووحدة الحواسيب "ممرام"، التي خرج منها مئات المبادرين والمستثمرين الناجحين، حتى أن بعض الإعلانات المبوّبة يطلب صراحة "خريجين من الوحدة 8200".([37]) ومن الشائع أن يُسأل طالب الوظيفة السؤال التالي: "في أية وحدة خدمت في الجيش؟"([38])
([1]) بروفسور ياغيل واينبرغ، "أسطورة التنافسية الإسرائيلية"، "هآرتس"، 7/5/2011؛ http://www.haaretz.com/article/the-myth-of-israeli-competitiveness-1.371508
([2]) يرأس مركز الاستراتيجيا التنافسية الشرق أوسطي سوياً مع البروفسور في جامعة هارفرد مايكل بورتر. ويقدّم المركز المشورة إلى حكومة إسرائيل وغيرها من الحكومات، وقد استند تقرير معهد شموئيل نئمان التابع للتخنيون بشأن تراجع قطاع التكنولوجيا العالية إلى دراسة هذا المركز ومشورة رئيسَيه (انظر: الحاشية رقم5 أدناه).
([3]) في الأصل: Israel’s cheerleaders، "هآرتس"، مصدر سبق ذكره.
([4]) Dan Senor and Saul Singer, Start-Up Nation: The Story of Israel’s Economic Miracle, A Council on Foreign Relations Book (New York: Twelve Books, 2009).
([5]) انظر التقرير الذي أعدته المحررة رندة حيدر عن أزمة الصناعات التكنولوجية العالية في نشرة "مختارات من الصحف العبرية"، 29/6/2011، العدد 1202، موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية على الإنترنت: www.palestine-studies.org
([6]) BIRD Foundation: http://birdf.com
([7] انظر: senor and singer, op.cit., p. 163.
([8]) Ibid., p. 164.
([9]) Ibid., p. 120.
([10])Ibid., p. 172.
([11]) Ibid., p. 120.
([12]) بموجب قانون العودة الإسرائيلي لسنة 1950، تمنح الجنسية الإسرائيلية للمهاجر المولود من أم يهودية، فور أن تطأ قدمه أرض فلسطين، كما تمنح لغير اليهود المتزوجين من يهود، ولأقربائهم. والحقيقة أن كثيراً من الروس غير اليهود من الذين هاجروا إلى إسرائيل منحوا الجنسية على هذا النحو (الكاتبة).
([13]) Ibid., p. 127.
([14]) Ibid., p. 165.
([15]) مقابلة مع يغآل إرليش الذي خدم كعالم رئيسي في الحكومة الإسرائيلية في نهاية الثمانينيات، انظر: Ibid., p. 161.
([16]) مقابلة مع المستثمر جون ميدفيد، انظر: Ibid., p. 167.
([17]) مقابلة مع إيرل مرغاليت، انظر: Ibid., p. 195.
([18]) Ibid., p. 228.
([19] Ibid., pp. 105 – 107.
([20]) Ibid., p. 167.
([21]) Ibid., p. 169.
([22]) انظر: المكتب المركزي للإحصاء كتاب 2010؛ http://www.cbs.org.il.reader Table 16.11, Manufacturing Exports By Technological Intensity ويشمل رقم صادرات الصناعات التكنولوجية العالية صادرات صيدلانية بقيمة 4,67 بليون دولار.
([23]) على رأسها معهد شموئيل نئمان التابع للتخنيون، انظر: الحاشية رقم 5 أعلاه، التقرير الذي أعدته محررة مختارات من الصحافة العبرية.
([24]) معهد رؤوت The Reut Institute، "آخر فرصة أمام إسرائيل لتصبح قوة عظمى اقتصادية"، "ذي ماركر"، "هآرتس"، 24/2/2009، http://reut-institute.org/en/Publication.aspx?PublicationId=3573.
([25]) المصدر نفسه.
([26]) Senor and Singer, op.cit., p.223.
([27]) هناك مساهمات من باحثين فلسطينيين وإسرائيليين تلقي الضوء على هذه التحوّلات. انظر دراسة: ماهر الشريف، "كيف انزاح المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين المتشدد"، مجلة "الدراسات الفلسطينية" (خريف 2010)؛ يورام بيري، "النخبة العسكرية الجديدة في إسرائيل"، في "قضايا إسرائيلية"، العدد 28 ( 2007)؛ امطانس شحادة، "ثقافة سياسية فاشية"، مجلة "الدراسات الفلسطينية" (شتاء 2011).
([28]) "19 أسرة تسيطر على قطاعي المصارف والتأمين"، "يسرائيل هيوم"، 21/4/2011، نشرة "مختارات من الصحافة العبرية"، عدد 1160، 26/4/2011.
([29]) انظر: Center for Middle East Competitive Strategy، "هآرتس"، 7/5/2011، راجع الحاشية رقم 1أعلاه.
([30]) "هآرتس"، 7/5/2011، انظر الحاشية رقم 1أعلاه.
([31]) "ذي ماركر"، "هآرتس"، 1/6/2011.
([32]) المصدر نفسه.
([33]) Senor and Singer, op.cit., p.171.
([34]) Ibid., p. 217.
([35]) انظر: Helmi Kittani & Hanoch Marmari, “The Glass Wall, Center for Jewish-Arab Economic Development”, http://www.cjaed.org.il/Index.asp?ArticleID=139&CategoryID=122&Page=1&search Param=the%20glass%20wall نشر المقال أيضاً في "يديعوت أحرونوت"، 25/6/2006.
([36]) . Senor and Singer, op.cit., ch4, pp. 67 -83
([37]) Ibid., p.69.
([38]) مقابلة مع المستثمر غيل كوربس، خريج وحدة الاستخبارات في الجيش الإسرائيلي، انظر: Ibid., p. 69.