معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛ وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.
من شأن العاصفة التي هبت على العالم العربي في مطلع سنة 2011 أن تحدث تغييرات كبيرة في مكانة إسرائيل الاستراتيجية في الشرق الأوسط، وفي علاقاتها مع العالم العربي. ويتناول هذا الفصل الرؤية الإسرائيلية للشرق الأوسط قبل هذه العاصفة، والتغييرات التي أحدثتها بعدها، وتأثير هذه التغييرات في مكانة إسرائيل وعلاقاتها بمحيطها العربي.
الشرق الأوسط قبل "الربيع العربي"
قبل بدء "الربيع العربي" كانت تسود في إسرائيل رؤية ثنائية لمنطقة الشرق الأوسط، بصفتها ساحة صراع بين محورين سياسيين واستراتيجيين: أولهما، محور الدول والحركات الراديكالية بقيادة إيران، ويشمل هذا المحور كلاً من إيران، طبعاً، وسورية، وحزب الله، وحركة "حماس" (محور "الممانعة" أو "المقاومة")، ويتميز بتحدي الوضع الراهن، سواء بالنسبة إلى موقع إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط، أو بالنسبة إلى مكانة الولايات المتحدة الأميركية والغرب وتدخلهما في المنطقة وعلاقاتهما بالدول العربية، ويرفع هذا المحور لواء مواجهة الأطراف المذكورة والأنظمة العربية "المتعاونة" معها، متبنياً عقيدة "المقاومة" كوسيلة معتمدة لتغيير الوضع الراهن. أمّا المحور الثاني فهو الذي يشمل الدول المسماة "معتدلة"، بزعامة مصر والسعودية، والذي هناك شك، بعد الربيع العربي، في قدرته على البقاء في صورته الحالية، والذي سعى للمحافظة على استقرار الوضع الراهن وعلى منع محور الممانعة من الاستقواء عليه، ويشمل محور "الدول المعتدلة" معظم دول منطقة الشرق الأوسط العربية الأخرى.
لقد قامت سياسة إسرائيل على المحافظة على اتفاقيات السلام الموقعة مع بعض دول المحور المعتدل وتعزيزها، وعلى إقامة علاقات وتعاون استراتيجي مع دول أخرى من هذا المحور. وكان من المفترض أن يركز هذا التعاون على إضعاف محور الممانعة وتحييده، وخصوصاً إيران، باعتبارها تشكل التهديد الأكبر لإسرائيل بسبب برنامجها النووي. لكن ظهر بوضوح في سنة 2010، وعلى نحو ما في الأعوام السابقة، أن هذه الصورة تبسيطية للغاية، وأن هناك لاعبين آخرين في منطقة الشرق الأوسط يرفضون وضعهم في خانة هذا المحور أو ذاك. وتبدو دولة سورية في الظاهر جزءاً لا يتجزأ من محور الممانعة، وحليفاً استراتيجياً رئيسياً لإيران، غير أن سورية انتهجت سياسة اتسمت بالثبات فيما يتعلق بمحاولة إحياء المفاوضات مع إسرائيل لعقد اتفاقية معها، وقبلت بمبادرة السلام العربية التي تعترف بدولة إسرائيل، وحاولت تحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية. ومن الواضح أن لسورية مصالح مشتركة تربطها بإيران، وتدفعها إلى التعاون معها فيما يخص حزب الله في لبنان، وحركة "حماس" والفصائل الرافضة في الساحة الفلسطينية، كذلك إلى مواجهة كل من إسرائيل والغرب، في حال اعتبرت سورية أنهما يهددان مصالحها. لكن النظام السوري لا يقبل أن يكون "في جيب إيران" بالكامل، وهو معني بالتعاطي والتعاون مع جميع الأطراف، أو بمواجهتها إذا اقتضت مصالحه المباشرة ذلك.
وهناك لاعب مركزي آخر، ظهر في الأعوام الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط، يرفض أن يوضع في خانة أي من المعسكرين، وهو تركيا. فمن جهة، تركيا هي عضو في حلف الناتو، ودرج اعتبارها جزءاً من كتلة الدول الغربية، وهي مندمجة كلياً في الاقتصاد المعولم، وتربطها بإسرائيل علاقات دبلوماسية وروابط اقتصادية متطورة. لكن من جهة أخرى، تنتهج حكومة حزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان، سياسة مستقلة تماماً تسعى للتعاطي مع جميع الأطراف. فقد بادرت تركيا إلى تحسين علاقاتها جوهرياً مع دول محور الممانعة، ولديها علاقات جيدة ووثيقة أحياناً مع كل من سورية، وإيران، و"حماس"، وترفض التعاون، أو تشارك، مع غياب الإرادة الواضحة، في جهود كبح محور الممانعة واحتوائه (على سبيل المثال، قرار مجلس الأمن الأخير بشأن العقوبات ضد إيران).
وهناك أيضاً لاعب، أصغر بكثير، انتهج سياسة مماثلة، وهو إمارة قطر التي حاولت أداء دور أكبر من حجمها، أي دور الوسيط بين المحورين، على اعتبار أنها لا تنتمي إلى أي منهما. وفي هذا الإطار، استخدمت بفاعلية قناة "الجزيرة" التابعة لها، فدعمت لاعبين من معسكر المقاومة، مع المحافظة على علاقاتها الطبيعية مع دول معسكر الاعتدال. ووجدت قطر في الأعوام الأخيرة صعوبة في مواصلة هذه السياسة بنجاح، لأنها أدت إلى مواجهات حادة مع دول رئيسية في معسكر الاعتدال، كمصر والسعودية، غير المستعدتين لقبول ادعاءات السياسة القطرية، أو ما اعتبرتاه وقاحة في هذه السياسة.
وفي تصور الحكومة الإسرائيلية برئاسة نتنياهو، تكمن الأهداف الرئيسية لعلاقاتها مع الدول العربية، وامتحان هذه العلاقات، في مجالين، هما: أولاً، الصراع مع محور الممانعة، وثانياً، الدور الذي تؤديه دول هذا المحور في المسار السياسي، ولا سيما إزاء الفلسطينيين. ولقد أفضى انهيار اتفاق أوسلو، والبرودة في العلاقات مع العالم العربي، إلى تراجع اهتمام إسرائيل بالعلاقات الثنائية الأخرى مع الدول العربية. فعلى سبيل المثال، لا تعير في إسرائيل أهمية كبرى للعلاقات الاقتصادية مع العالم العربي، وتتطلع إلى أسواق بعيدة عن منطقة الشرق الأوسط.
وقد أعطت حكومة إسرائيل الأولوية لكبح المحور الذي تقوده إيران، مع التركيز على البرنامج النووي الإيراني، ويظهر أنها جُرّت جراً لاستئناف المسار السياسي مع الفلسطينيين، تحت إكراه الضغوط الدولية، وعلى رأسها الضغوط الأميركية. ففي بداية المحادثات بين إدارة باراك أوباما وحكومة نتنياهو، حاول رئيس الحكومة الإسرائيلية إقناع الإدارة الأميركية بأن حل النزاع مع الفلسطينيين يكمن في كبح إيران، بسبب دعمها لعناصر رافضة لحل الصراع مع إسرائيل في الساحة الفلسطينية خاصة، وفي العالم العربي عامة. وتمسكت إدارة أوباما بمقاربة نقيضة، وهي أن المطلوب مسار سياسي فاعل إزاء الفلسطينيين كسبيل لتحقيق الدعم الضروري في منطقة الشرق الأوسط للتصدي لإيران. واضطر نتنياهو إلى القبول بهذه المقاربة، وقد تجلى ذلك في خطاب جامعة "بار - إيلان"، عندما أبدى استعداده لتجميد الاستيطان لمدة محدودة لفسح المجال أمام استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين. وفي الواقع، لم تكن هذه الخطوات كافية لتخطي عقبات انعدام الثقة المتبادل، وبقيت المفاوضات مع الفلسطينيين مجمدة.
ولم يطرأ في العام الأخير أي تطور على المسار الإسرائيلي - السوري، على الرغم من التسريبات الإعلامية عن تبادل للرسائل بين الطرفين لدرس إمكان إحياء المحادثات بينهما، وعلى الرغم أيضاً من الأفكار السابقة التي افترضت أن هذا المسار سيكون أسهل بالنسبة إلى رئيس الحكومة نتنياهو، لأنه أقل تعقيداً من المسار الإسرائيلي -الفلسطيني، ولأنه يحظى بدعم المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بسبب الفائدة الاستراتيجية الكبيرة التي تعزوها المؤسسة لاتفاق سلام إسرائيلي - سوري. وهناك عدة تفسيرات لهذا الجمود، إذ ليس هناك استعداد من جانب نتنياهو لدفع ثمن اتفاق سلام مع سورية، أي انسحاب كامل من هضبة الجولان، وقد سبق أن طرح عوزي أراد الذي تتفق أفكاره مع أفكار نتنياهو بشأن أمور كثيرة، وذلك قبل شغله منصب مستشار الأمن القومي لرئيس الحكومة نتنياهو في ولايته الأولى، أفكاراً بشأن اتفاق مع سورية، محورها انسحاب إسرائيل من جزء من هضبة الجولان، بحيث تكون مستعدة لتبادل أراض في مقابل الأرض التي تحتفظ بها.([1]) وطُرحت لاحقاً أفكار بشأن اتفاق مرحلي ينطوي على انسحاب جزئي من هضبة الجولان تحصل إسرائيل في مقابله على أقل من سلام كامل.([2]) وفي حال طُرحت هذه الأفكار على سورية، يمكن الافتراض أنها سترفضها رفضاً مطلقاً، لأنها مناقضة تماماً لمفهومها لشروط التسوية مع إسرائيل، وبالتالي، لا يبدو أنه كان في الإمكان استئناف المفاوضات على أساسها. وهناك تفسير معقول آخر، وهو تركيبة حكومة نتنياهو، المكونة من أحزاب تعارض الانسحاب من هضبة الجولان. ولعل نتنياهو قدّر أن إجراء مفاوضات حقيقية مع سورية من شأنه أن يؤدي إلى تفكك الائتلاف الحكومي وسقوط حكومته.
وكانت النتيجة أن اتسمت العملية السياسية على المسارين الفلسطيني والسوري في العام الأخير بالجمود المطلق، مع ما يترتب على ذلك من تداعيات سلبية على علاقات إسرائيل بالعالم العربي.
ثمة في إسرائيل جدل بشأن درجة تأثير العملية السياسية، ولا سيما مع الفلسطينيين، في العلاقات الثنائية مع الدول العربية المتعددة، وهناك من يقول إن الأنظمة العربية تدعم لفظياً القضية الفلسطينية، ولا تكترث لها في الواقع، إذ إن كل ما يهمها هو خدمة مصالح أنظمتها ودولها كما تحددها هي. وتؤكد تسريبات "ويكيليكس"، وجلها تقارير عن محادثات بين دبلوماسيين أميركيين ومسؤولين كبار في حكومات دول منطقة الخليج، في الظاهر هذا الطرح. فقد ركز الجانب العربي في هذه المحادثات على التهديد الإيراني لدول الخليج، وعلى مطالبة الولايات المتحدة الأميركية بالقيام بكل ما هو مطلوب، بما في ذلك الوسائل العسكرية، لوضع حد للبرنامج النووي الإيراني.([3])
ويدل سلوك الحكومات العربية في الأعوام الأخيرة على أن جمود العملية السياسية مع إسرائيل، والمواجهات العنيفة التي تورطت فيها إسرائيل، شكلت قيوداً شديدة على هذه الحكومات منعتها من محاربة محور المقاومة كما تملي عليها مصالحها، لأن هذا يعتبر عملاً غير شعبي وسط جماهيرها التي تدعم قوى المقاومة بسبب قدرة هذه القوى على التصدي لإسرائيل ومواجهتها، وبالتالي، كان يصعب على هذه الحكومات أن تتعاون مع إسرائيل في هذا المناخ. وتعتبر مواجهة مصر مع حركة "حماس" في قطاع غزة مثالاً ساطعاً على هذه الصعوبات، إذ اعتبر نظام مبارك أن حركة "حماس" تشكل تهديداً مباشراً له لأنها فرع من حركة "الإخوان المسلمين"، لكن الرأي العام منعه من انتهاج سياسة فاعلة ضدها، ومن التعاون مع إسرائيل، كذلك الأمر عندما انتهج مبارك سياسة بدت في الظاهر أنها تعاون مع إسرائيل، بينما هي في الواقع تخدم مصلحة مصر المناقضة لمصلحة إسرائيل، فالتعاون الظاهر في إدارة "حصار" قطاع غزة، لم يكن نابعاً من رغبة مصرية في التعاون مع إسرائيل، وإنما إلى حد كبير من الشك في نيات إسرائيل، المشتبه في كونها تحاول دفع قطاع غزة إلى أحضان مصر، الأمر الذي اعتبره نظام مبارك مناقضاً لمصلحة مصر، وكان الهدف من إغلاق المعبر من غزة إلى مصر هو منع حدوثه، لذا بررت هذه الغاية تجاهل الرأي العام المصري.
شكل المناخ في الشارع العربي عاملاً ضاغطاً على العلاقات الثنائية الأساسية بين إسرائيل والدول العربية، سواء التي تربطها بها علاقات سلام رسمية، أو التي بينها وبين إسرائيل علاقات غير رسمية. وتجلى هذا بتدهور علاقات إسرائيل مع الأردن، والتي اتسمت بالتوتر والعدوانية، وبتدهور العلاقات المصرية - الإسرائيلية أيضاً، فأصبح السلام المجمد بين الدولتين عصياً على الذوبان.
في معاني "الربيع العربي"
أعاد "الربيع العربي" طرح إشكالية العلاقة بين إسرائيل والعالم العربي لأنه قلص الثغرة التي كانت تفصل بين مواقف الأنظمة العربية وبين مواقف الشارع العربي. وبرزت في إسرائيل أصوات تقول إن يقظة الشارع العربي تشكل خطراً على الأنظمة الموجودة في الدول العربية، ولا علاقة لها بالصراع الإسرائيلي - العربي، وهي تعود إلى مشكلات داخلية للأنظمة والمجتمعات العربية. وعلى الرغم من صحة هذا الادعاء من حيث المبدأ، فإنه يتجاهل الطابع الذي ميز الاحتجاجات في العالم العربي، إذ كانت هذه التحركات موجهة في الأساس ضد الطابع الاستبدادي للأنظمة العربية التي أهملت مصلحة الشعب لمصلحة خدمة مصالح نخبة صغيرة فاسدة. وبهذه الطريقة لم تكن هناك صلة بين الشعب وبين حكوماته، كما لم تكن لدى الشعب القدرة على التأثير في قرارات هذه الحكومات في الموضوعات المهمة، مثل موضوع انتقال السلطة (توريث السلطة في مصر لجمال مبارك)، ولا في الموضوعات الاجتماعية – الاقتصادية، وتوزيع موراد الدولة، والسياسة الخارجية، والعلاقة مع إسرائيل.
إن الاختبار الذي ستمر به الحكومات الجديدة في العالم العربي سيتمثل في مدى أخذها بعين الاعتبار موقف الجمهور من هذه القضايا. فقد بات الرأي العام العربي أكثر عداء لإسرائيل منذ انهيار العملية السياسية، وبعد أعوام من تعرف الشارع العربي على الصور المرعبة للانتفاضة الثانية ولحرب لبنان والقتال في غزة، وفي أعقاب التحريض الخطر الذي تقوم به وسائل الإعلام العربية.
وفي ضوء صور التظاهرات المضادة لإسرائيل التي شهدتها الدول العربية في ذكرى يوم النكبة في 15 أيار/مايو 2011، من الصعب الاستمرار في ادعاء عدم وجود صلة بين الاحتجاجات في الدول العربية وبين النزاع العربي – الإسرائيلي. فالجمهور الذي تظاهر ضد إسرائيل هو نفسه الجمهور الذي يطالب بالتغيير.
وفي هذه المرحلة المبكرة، يصعب توقع ما هي الأنظمة التي ستصمد قبل أن ينقشع الغبار، ومن غير الواضح من سيحل محل الأنظمة التي سقطت. فهناك أكثر من سيناريو ممكن أن يحدث، بدءاً من سيطرة العناصر الإسلامية على دول مثل مصر وسورية، مروراً بقيام حكومات ضعيفة وغير مستقرة من الأحزاب العلمانية الشعبوية، وانتهاء بالأنظمة العسكرية. وعلى الرغم من ذلك يمكن الجزم بأن جميع هذه الحكومات ستكون أكثر إصغاء لرأي الجمهور واستجابة لمشاعره. كذلك يمكننا الافتراض أنه في حال نجاح بعض الأنظمة الموجودة حالياً في الصمود في وجه العاصفة، مثل نظام بشار الأسد، فإنها ستصل إلى الاستنتاج عينه، وسيكون المجال الأسهل لتطبيق هذا الدرس هو عبر انتهاج سياسة معادية لإسرائيل.
نموذج الاختبار المصري
تشكل مصر نموذجاً مهماً لاختبار ما سبق ذكره، لأنه يمكن منذ الآن اختبار تطبيق هذه المسارات. إذ تجد مصر نفسها اليوم تحت حكم عسكري من المفترض أن يسلم الحكم إلى سلطات مدنية بعد إجراء الانتخابات البرلمانية في نهاية سنة 2011، وبعد الانتخابات الرئاسية. ويصعب توقع إلى أين سيؤدي هذا المسار وما ستكون عليه نتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية وماهي طبيعة الحكومة التي ستشكل، إلاّ إن القضية الأساسية هي مقدار قوة الإخوان المسلمين مقارنة بالأحزاب العلمانية. ونستطيع منذ الآن رؤية الأجواء السائدة إزاء إسرائيل، فقد صدرت عن رئيس الحكومة المدنية الموقتة وعن وزير خارجيته ووزراء آخرين تصريحات معادية لإسرائيل تعهدوا فيها بانتهاج سياسة أكثر تشدداً إزاءها، ولا سيما في إثر الجدل الداخلي المصري بشأن صفقة الغاز مع إسرائيل. وقد طلب رئيس الحكومة الجديدة إعادة النظر في الصفقة، وقال وزير الاقتصاد المصري إن مصر ملتزمة باتفاق السلام مع إسرائيل، لكنها غير ملزمة ببيعها الغاز، كذلك اتهم نائب رئيس الحكومة إسرائيل بمهاجمة مصر وممارسة الضغوط عليها. وبرزت مواقف مختلفة عن المرشحين لمنصب الرئاسة في مصر تدل هي أيضاً على نية هؤلاء ممارسة سياسة متشددة إزاء إسرائيل. فقال عمرو موسى، الأمين العام السابق للجامعة العربية وأحد أكثر المرشحين حظاً للفوز بمنصب الرئاسة المصرية، في مقابلة مع "الواشنطن بوست" لدى سؤاله عن السلاح النووي الإيراني: "إن الموضوع النووي في الشرق الأوسط يتعلق أولاً بإسرائيل ثم بإيران، وفي إمكان مصر أن تربح الكثير من العلاقة مع إيران."([4]) كذلك قال موسى في مقابلات أخرى إن مبارك أخطأ عندما قرر التعاون مع إسرائيل وقبل بفرض الحصار على غزة، وذكر أنه خلال توليه وزراة الخارجية اختلف أكثر من مرة معه بشأن العلاقة مع إسرائيل، وأنه كان يعتقد بضرورة اتخاذ خطوات صارمة ضدها.([5])
أمّا المرشح الآخرللرئاسة أيمن نور،([6]) زعيم المعارضة الديمقراطية – الليبرالية، فقال إن اتفاق كامب ديافيد قد مر عليه الزمن، وبات اتفاقاً قديماً يجب تحديثه بصورة تتوافق مع المصالح المصرية. ونُقل عن المرشح الثالث محمد البرادعي قوله إنه في حال هاجمت إسراسيل قطاع غزة، فإن على مصر إعلان الحرب ضد "الكيان الصهيوني".([7])
من هنا يبدو أن لا أساس للتوقعات التي تقول إن الأنظمة الجديدة التي ستنشأ وتلك القديمة التي ستصمد ستركز جهودها على المشكلات الداخلية ولن تهتم كثيراً بالسياسة الخارجية. ولا يمكن أن نتوقع من شخصيات مثل عمرو موسى ومحمد البرادعي، اللذين يملكان تجربة غنية في السياسة الخارجية، ألاّ يركزا عملهما على الموضوعات الخارجية، وإنما العكس هو صحيح. فعلى سبيل المثال، في حال جرى انتخاب عمرو موسى رئيساً فهو سيخصص جهده من أجل عقد مؤتمر لنزع أسلحة الدمار الشامل من الشرق الأوسط، والذي من المزمع عقده في سنة 2012، وهو لن يتورع عن الدخول في مواجهة مع إسرائيل في هذا الشأن.
انعكاسات المس باتفاقات السلام بين مصر وإسرائيل
إن السؤال الأساسي الذي يشغل دولة إسرائيل يتعلق باحتمالات المس باتفاق السلام مع مصر. فحتى الآن، أظهرت أغلبية الأطراف في مصر، ومعظم الذين ينوون خوض الانتخابات المقبلة، أنهم سيحترمون الاتفاق، وقالوا إن التصريحات التي تصدر عن بعضهم من وقت إلى آخر ضد الاتفاق تعود إلى اعتقادهم أنها تخدم معركتهم الانتخابية. وما يزيد في الغموض النتائج المتناقضة لاستطلاعات الرأي العام، ففي استطلاع أجراه معهد PEW في نيسان/أبريل 2011، صوت 54٪ من الجمهور المصري إلى جانب إلغاء اتفاق السلام.([8]) في المقابل أظهر استطلاع للري أجراه معهد IPI في آذار/مارس 2011، أن أغلبية جمهور الناخبين (63٪) يفضلون الاقتراع لمصلحة حزب يحافظ على اتفاق السلام، في حين فضلت أقلية (37٪) التصويت لحزب يلغي الاتفاق.([9])
حتى الآن تشير تصريحات مختلف المسؤولين المصريين في السلطة السياسية الآخذة في التبلور في مصر إلى أن احتمالات قيام مصر بإلغاء اتفاق السلام مع إسرائيل قليلة. وعلى الرغم من ذلك فقد أدرجت التغييرات في مصر هذه القضية في جدول الأعمال، وباتت موضع جدل داخلي في إسرائيل، لأن في حال المساس باتفاق السلام مع مصر فإن ذلك سينعكس على اتفاق السلام مع الأردن، الأمر الذي ستكون له انعكاسات استراتيجية بعيدة المدى على إسرائيل. فقد أخرج توقيع اتفاقية كامب دافيد سنة 1979 مصر من دائرة الدول العربية التي قد تدخل في حرب مشتركة ضد إسرائيل، وأبعد احتمال خوض إسرائيل لأي حرب على جبهتين في آن معاً، وعلى هذا الأساس بنت إسرائيل توقعاتها الاستراتيجية وحجم قواتها وخططها الحربية، الأمر الذي سمح لها بتركيز استعداداتها العسكرية على جبهات أخرى ومكنها من التوفير في الموارد المالية. وفي حال توصلت إسرائيل إلى الاستنتاج بأن سيناريو الحرب العربية الشاملة قد أصبح ممكناً فإنها ستضطر إلى إجراء تغيير جذري في تقويماتها الاستراتيجية...
إن الفوضى الحالية في العالم العربي تضع إسرائيل في مواجهة مشكلة كبيرة، وهي كيفية التصرف في ظل الشروط الحالية من عدم اليقين. ففي حال بدأت إسرائيل في وقت مبكر بالإعداد لاحتمالات انهيار اتفاق السلام مع مصر فإنها ستعرض نفسها للخطر لأن الطرف الثاني سيعتبر ذلك موجهاً ضده، وفي حال تأخرت في القيام بذلك وانهار الاتفاق، فهي لن تكون مستعدة لمثل هذا التغيير في الوقت الملائم. كذلك سيكون لانهيار اتفاق السلام مع الأردن نتائج استراتيجية قاسية بسبب وجود الأردن في مواجهة إسرائيل، وعدم وجود حيز جغرافي يفصل بينهما يمكنه أن يلعب الدور الذي تلعبة صحراء سيناء التي تفصل بين إسرائل ومصر. لكن يجب الإشارة إلى أن النظام الأردني حافظ حتى الآن على استقراره، ومن شأن انضمامه إلى اتحاد دول الخليج أن يساهم في تدعيم استقراره وعبوره "الربيع العربي" بسلام.
انعكاسات التغيير على العملية السياسية
ثمة سؤال يطرح نفسه، وهو كيف سينعكس التغيير على مواقف الأنظمة العربية، الجديدة منها والقديمة، من استئناف العملية السياسية؟ تشير الصورة الحالية للمشهد السياسي في الدول العربية إلى أن الأنظمة الجديدة ستواصل دعمها للعملية السياسية وذلك من خلال التعبير عن تأييدها لمبادرة السلام العربية، لكنها ستكون أكثر تشدداً تجاه كل ما تعتبره رفضاً إسرائيلياً. كذلك سترفض هذه الأنظمة تصنيف إسرائيل للفلسطينيين على أنهم معسكران: معسكر "الطيبين" المتمثل بحركة "فتح" ومحمود عباس، ومعسكر "الأشرار" الذي يمثله الإسلاميون. ومن المتوقع أن تنتهج هذه الأنظمة سياسة مشابهة لسياسة تركيا.
وقد يكون التعبير الأول لهذه السياسة نجاح مصر في التوسط بين "فتح" و"حماس". إذ كان نظام مبارك يعتبر "حماس" خصماً لمصر، بينما يرى النظام الجديد فيها لاعباً سياسياً شرعياً يجب أخذه في الاعتبار مثل الزعامة الحالية لمنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية. ولهذا السبب تعهد النظام الجديد في مصر وقف الحصار على قطاع غزة.
في ظل هذه التطورات بات من الصعب على إسرائيل حشد أطراف في العالم العربي يمكنها المساعدة في لجم العناصر الفلسطينية التي تعتبرها إسرائيل معرقلة للعملية السياسية، كما سيكون من الصعب عليها ممارسة الضغط على الزعامة الفلسطينية الرسمية للقيام بخطوات تعتبرها إسرائيل تدعم المفاوضات، وقد كانت هذه الأهداف سهلة التحقق بالنسبة إلى إسرائيل قبل "الربيع العربي".
ويصعب أيضاً معرفة تأثير الأحداث في العالم العربي عامة وفي سورية خاصة في المسار الإسرائيلي – السوري. ففي إسرائيل يقول المعارضون للمفاوضات مع دمشق إن التطورات في سورية يجب أن تمنع إسرائيل من الدخول في مفاوضات، والتوصل إلى اتفاق معها... ويدعي المؤيدون للمفاوضات مع سورية، الذين خفت صوتهم، أنه في حال كان لدى إسرائيل اتفاق مع سورية فإن هذا سيساعدها في مواجهة التطورات المحتملة.
بيد أن المسألة الأساسية تكمن في تأثير هذه التطورات في النظام السوري. فهل سينجح نظام البعث في الحفاظ على بقائه، وهو أمر غير مستبعد في ظل الوضع الحالي؟ وهل ستتراجع دوافع الأسد للدخول في مفاوضات مع إسرائيل أم ستزداد؟ يبدو أن هذا الأمر مرتبط إلى حد بعيد بتقديرات الرئيس السوري للتأثير الممكن للمفاوضات مع إسرائيل في استقرار حكمه. فإذا رأى الأسد أن أغلبية الجمهور السوري تدعم المفاوضات مع إسرائيل التي ستؤدي إلى استرجاع هضبة الجولان، فمن الممكن أن يظل متمسكاً بسياسته الهادفة إلى استئناف المفاوضات، لكن إذا رأى أن الرأي العام السوري المعادي لإسرائيل لا يدعم هذه الخطوة، فثمة احتمال كبير بأن يتخلى عنها. ويمكننا ان نقرأ تلميحات لرؤية الأسد هذه في المقابلة التي أجرتها معه صحيفة "وول ستريت" في 31 كانون الثاني/يناير 2011، قبل بدء الاحتجاجات في سورية، والتي قال فيها إن نظامه لا يتعرض للتهديد، لأنه يتمتع بتأييد الجمهور بسبب عدائه لإسرائيل.([10])
وقد أكد ما قاله الأسد موقف النظام السوري من محاولات اللاجئين الفلسطينيين التظاهر بالقرب من الحدود في ذكرى يوم النكبة.
يصعب على المراقبين عن بعد معرفة موقف الرأي العام من موضوع المفاوضات مع إسرائيل في مجتمع مغلق مثل المجتمع السوري. وعلى الرغم من ذلك، وحتى لو كان هناك مصلحة أساسية لدى الطرفين السوري والإسرائيلي في استئناف المفاوضات بينهما، فإن هذا الأمر لا يبدو ممكناً في الوقت الراهن قبل استتباب الأوضاع في سورية. وفي حال تغير النظام هناك، فسيصبح من الصعب أكثر معرفة ما ستكون عليه سياسة النظام الجديد إزاء المفاوضات مع إسرائيل، وخصوصاً مع عدم وضوح ما ستكون عليه حصة الإخوان المسلمين في هذا الحكم.
أمّا بالنسبة إلى لبنان، فلا جديد على صعيد العلاقة مع إسرائيل. فالتقديرات التي توقعت نجاح حزب الله وحلفائه بسهولة في تشكيل حكومة جديدة موالية لسورية تحت سيطرة الحزب بعد سقوط حكومة الحريري لم تتحقق. إذ واجه تأليف الحكومة صعوبات استغرق حلها عدة أشهر، فضلاً عن الضعف الذي اعترى سورية في إثر اندلاع الاحتجاجات ضد النظام هناك. ومعنى هذا أن العلاقة بين إسرائيل ولبنان لن تتغير في أعقاب الأحداث الأخيرة. ويبدو أن هناك مصلحة لدى الطرفين في المحافظة على الهدوء على الحدود بينهما لأسباب تتعلق بالردع المتبادل.
خلاصة
يشهد الشرق الأوسط إعادة توزيع للأوراق، وتبدو الصورة الجديدة المتبلورة أمام أعيننا أكثر تعقيداً بكثير مما كانت عليه في الماضي، ومن الصعب تصنيف اللاعبين العرب وفقاً للأسلوب القديم وتوزيعهم بين مؤيد للمحور الإيراني وبين دول معتدلة معارضة له. فثمة دول عربية كثيرة ستنتهج سياسة مستقلة لأنها ستكون أقل إصغاء من الماضي لما تقوله الولايات المتحدة والدول الغربية عامة، وبالتأكيد لن تعبأ لحاجات إسرائيل، وهي ستكون أكثر استجابة للرأي العام لديها، الأمر الذي لا يبشر خيراً بالنسبة إلى علاقة إسرائيل بالعالم العربي، ولا سيما في ظل جمود العملية السياسية والأزمة المحتملة بشأن طرح الموضوع الفلسطيني في الأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر 2011.
وعلى الرغم من أن الوضع الجديد يطرح مشكلات كثيرة أمام إسرائيل لكنه أيضاً يخلق فرصاً جديدة. إذ يمكن أن تساعد إسرائيل الأنظمة العربية المشغولة بمشكلاتها الداخلية من خلال إزالة مشكلة النزاع الإسرائيلي والمشكلة الفلسطينية من جدول الأعمال، والعمل بجدية على إحياء العملية السياسية، وبالتالي، يمكنها بذلك المناورة بين مختلف اللاعبين، واستغلال ضياع الحدود بين معسكر دول الممانعة والدول المعتدلة وفتح الطريق أمام تحسين العلاقات بينها وبين دول المنطقة المعنية بذلك. كما تفرض الأوضاع الجديدة على إسرائيل وضع سياسة أكثر تطوراً تأخذ في الاعتبار تعقيد الوضع الجديد في الشرق الأوسط وتشابكه.
* المصدر: أنات كورتز وشلومو بروم (ناشرون)، "تقويم استراتيجي لإسرائيل" (هَعْرَخاه إستراتيجيت ليسرائيل) 2011، ص37 ـ48، معهد دراسات الأمن القومي، جامعة تل أبيب: http://www.inss.org.il
[1] عوزي أراد، جدعون بيغر، راشيل ماختيغر، "تبادل الأراضي كوسيلة لحل النزاعات على الأراضي بين إسرائيل وجاراتها"، معهد السياسة والاستراتيجيا، هرتسليا، 2008. انظر: http://www.herzliyaconference.org/_uploads/2824GidonBigerUziArad.pdf
[2] ألوف بن، "الطريق الثالث"، "هآرتس"، 26/2/2009.
[3] عميت كوهين، "الملف الإيراني: هل فات الأوان؟"، الموقع الالكتروني لجريدة "معاريف" 2/10/2010: http://www.nrg.co.il/online/1/ART2/184/606.html. nrg ؛ وانظر: تشلسي مولر، "ويكيليكس، إيران والدول العربية"، "نبض إيران"، عدد 21، جامعة تل أبيب، معهد الدراسات الإيرانية، 16/1/2011.
[4] لالي وايموث، "رؤية عمرو موسى لمصر"، "واشنطن بوست"، 5/10/2011: http://www.washingtonpost.com/opinions/amr-moussas-vision-for-egypt/2011/05/09/AF36AxbG_story.html
[5] مات برادلي، "المرشح لرئاسة مصر يريد إعادة ضبط العلاقات مع إسرائيل"، "وول ستريت جورنال"، 6/5/2011: http://online.wsj.com/article/SB100014240527487039927045763054231665966598.html
[6]أورين كيسلر، "شخصية في المعارضة المصرية: إعادة النظر باتفاقيات كامب ديفيد"، "جيروزلم بوست"، 14/2/2011: انظر. http://www.jpost.com/MiddleEast/Article.aspx?ID=208085&R=RI
[7] "البرادعي: سنرد إذا هاجمت إسرائيل قطاع غزة"، الموقع الالكتروني لـ "يديعوت أحرونوت"، واي نيت، 4/4/2011: انظر. http://www.ynetnews.com/artcles/0,7340,L-4051939,00.html
[8] مركز أبحاث بيو، "المصريون يحتضنون قادة الثورة، والأحزاب الدينية، والعسكر في آن معاً"، مشروع بيو للمواقف العالمية، 25/4/2011: انظر. http://pewglobal.org/2011/04/25/egyptians-embrace-revolt-leaders-religious-parties-and-military-as-well/
[9] "معهد السلام العالمي (IPI) يستطلع المزاج الجديد في مصر"، 7/4/2011: انظر. http://www.ipinst.org/events/podcasts/226-ipi-polls-new-mood-in-egypt-html?tmpl=component&print=1
[10] "مقابلة مع الرئيس بشار الأسد"، "وول ستريت جورنال"، 31/1/2011: انظر. http://online.wsj.com/article/SB10001424052748703833204576114712441122894.html