التقليد والحداثة في "الربيع العربي"
المصدر
مركز موشيه دايان للأبحاث شرق الأوسطية والأفريقية

تأسس في سنة 1959 بالتعاون مع جامعة تل أبيب. وهو مركز متعدد المجالات، ينشر دراسات تتعلق بالنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، كما يُعنى بالموضوعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الدول العربية والدول الأفريقية. ولدى المركز أهم مكتبة للمصادر العربية من كتب ومجلات وصحف. وتصدر عن المركز سلسلة كتب مهمة في مختلف المجالات، ولديه برامج تدريب ومنح أكاديمية.

المؤلف
  • أحدثت الاضطرابات التي اجتاحت جزءاً كبيراً من العالم العربي خلال العام المنصرم، تغييراً دراماتيكياً في المنطقة، فأدت إلى الإطاحة بزعماء بعض الدول وزعزعة الأنظمة جدياً في دول أخرى. ويبدو المستوى الحالي للمشاركة الشعبية في السياسة العربية غير مسبوق، وذلك بعدما أفرغت جماهير غفيرة غضبها في نضالات تتوالى فصولاً ضد الأنظمة القمعية التي حكمتها لعقود. وبعد ما يزيد على قرنين من التحديث الغربي الطابع، نجد أن المجتمعات العربية في الدول غير المنتجة للنفط معرضة لأزمات اقتصادية عميقة، إذ تجد أجيال شابة، كبيرة العدد، نفسها في مواجهة مستقبل قاتم ومحبط حيث يتهددها الفقر والبطالة. وهكذا انتفض المستضعفون والمحرومون ضد تحالف الاستبداد والفساد في مجتمعات الشرق الأوسط، مدفوعين بتوقهم الذي يتشاطرونه مع جميع شعوب العالم الحديث، إلى قيم الحرية والعدالة والازدهار الكونية.
  • في هذه الأزمة، قام الجيل الشاب الذي يتقن استخدام الكمبيوتر ويجيد استعمال أدوات الشبكات الاجتماعية التي يوفرها موقعا "فايسبوك" و"تويتر"، بتعبئة الجماهير يعاونه في ذلك الإعلام الحديث، ولا سيما الكوكبة الكبيرة من المحطات الفضائية التلفزيونية التي قامت بتضخيم تأثير النضال ومضاعفة حجمه إلى حد كبير. ولا شك في أن المنطقة تشهد في أماكن كثيرة أنماطاً من التغيير الثوري تتجلى من خلال أشكال جديدة من النضال السياسي تعززها المعجزات التي حققتها التكنولوجيا الشديدة التطور في العصر الحديث.
  • لكن في الوقت نفسه، وفي هذه الحقبة من التجديد والابتكار والمشاركة الشعبية والتغيير الثوري،سمح عدد كبير من المراقبين لسحر التكنولوجيا المتطورة الفائقة الحداثة أن يحجب عن الأبصار استمرار وجود قوى التقليد التي لا تزال تسيطر على المجتمعات العربية. لقد جرى الخلط بين الواقع والتأثير الافتراضيين في الفضاء السبراني وبين السلطة السياسية الحقيقية، إذ إن الحركات الشعبية التي لا توجد قيادة لها، والتي لم تحمل برامج سياسية متماسكة ولا سياسات واضحة المعالم، وجدت صعوبة كبيرة في تحويل التأثير الافتراضي إلى قوة سياسية ملموسة، في حين أظهرت القوى الأخرى الأكثر تقليدية أنها أفضل تنظيماً وأكثر تماسكاً من الناحية الأيديولوجية في استيعاب سياسة الشرق الأوسط، مثل الإسلاميين من جهة والجيش من جهة أخرى، كما أظهرت أنها أكثر مهارة في تولي مقاليد السلطة الفعلية عقب الاضطرابات الإقليمية.
  • لم يعرف مسار التحديث والتغريب والعلمنة الذي شهده الشرق الأوسط في القرنين الماضيين تقدماً مضطرداً، وإنما عرف خلال الأجيال الأخيرة الكثير من الكبح وشهد الكثير من الانكفاء. العلمانية في أزمة، لا بل في حالة تراجع، في حين أخذت المجتمعات الشرق أوسطية تصبح "علمانية - دينية"، أكثر فأكثر، بحسب تعبير آصف بيات [أستاذة علم الاجتماع والدراسات الشرق أوسطية]. والعروبة لم تكن أيديولوجيا روجت لفكرة  الوحدة العربية فحسب، بل كانت أيضاً برنامجاً للسياسة العلمانية والعلمنة. وعلى أية حال، لم يكن الدين، وإنما اللغة هي عنصر التماسك في العروبة، وكانت عامل توحيد لا تفريق بين المسيحيين والمسلمين العرب. بيد أن العروبة، وعلى الرغم من أنها بدت واعدة في البداية، فشلت فشلاً ذريعاً، فهي لم تحقق قط النجاح السياسي أو الاقتصادي الذي تطلّع إليه العرب في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. وتبين أن السير في اتجاه الوحدة العربية، مع ما رافقه من اشتراكية عربية وتحالف مع الاتحاد السوفياتي، وكان مجرد مسيح دجال. أما الفراغ الأيديولوجي الذي خلّفه إخفاق العروبة، فقد ملأته إلى حد كبير السياسة الإسلامية الصاعدة من جديد. وقابل الانحدار المتزامن في النفوذ الإقليمي لدول عربية كانت قيادية من قبل، مثل مصر وسورية والعراق، النفوذ المتنامي لقوى شرق أوسطية غير عربية، مثل تركيا وإيران. وتقدّم كل من هاتين القوتين الإقليميتين الصاعدتين نموذجاً للمحاكاة لا يمت إلى العلمانية بصلة، فتركيا بقيادة "حزب العدالة والتنمية" الإسلامي المعتدل، وعلى الرغم من أنها لا تزال تتقيد إلى حد ما بالدستور التركي العلماني، بعيدة كل البعد عن النموذج العلماني الصرف للجمهورية الذي أرساه كمال أتاتورك في مطلع عشرينيات القرن الماضي، وغني عن القول أن إيران الملالي هي أبعد ما يكون عن العلمانية.
  • في الشرق الأوسط الذي يشهد انحساراً للعلمانية، لم تعد العلاقات بين الدول مرتبطة بسياسة القوة العظمى أو أشكال الحكم المتناقضة حيث تقف الملَكيات في مواجهة الجمهوريات، وإنما أصبحت مجالاً خاضعاً للمذهبية الدينية حيث تصطف الدول المسلمة السنية ضد منافستها الشيعة. وإذا كان هذا ينطبق على العلاقات بين الدول، فكم بالأحرى على السياسة الداخلية، حيث تقدمت التقليدية أو التقليدية الجديدة إلى الواجهة من جديد، في حين خسرت القوى العروبية والدول العربية كثيراً من "هيبة السلطة"، والحيوية والشعبية التي كانت تتمتع بها من قبل، و قامت السياسة الإسلامية والمذهبية الدينية والنزعة القبلية بملء هذا الفراغ.
  • عندما ننظر إلى مختلف أنحاء المنطقة، من بلد إلى آخر، تظهر هذه النزعة بوضوح. ففي تونس، فاز "حزب النهضة" الإسلامي للتو في أول انتخابات في مرحلة ما بعد الثورة. وفي مصر، يُتوقع أن يحقق "الإخوان المسلمون" وإسلاميون أكثر تشدداً، مثل السلفيين والجماعة الإسلامية، نتائج جيدة في الانتخابات المقبلة. ولعل المؤشر الأبرز الذي حمله الاستفتاء الذي أجري في آذار/مارس الماضي عن المرحلة المقبلة في مصر هو أن الإسلاميين هم مَن سيقود السياسة المصرية بعد مبارك. وتغرق سورية في حمام دم مذهبي، حيث يخوض النظام الذي يسيطر عليه العلويون معركة شرسة من أجل البقاء ضد خصومه الذين ينتمون إلى الأغلبية السنية المحرومة. وأصبح العراق، على الرغم من أنه لا علاقة له بـ "الربيع العربي"، ساحة لسياسة مغالية في مذهبيتها في بلد جديد يسيطر عليه الشيعة بعد صدام حسين، في حين جرى تهميش أسياد الأرض السنّة السابقين في إطار مخطط منهجي. وفي البحرين، فإن الأكثرية الشيعية المضطهدة هي التي تمردت ضد الحكام السنة، لكنها قُمعت بشدة بمساعدة من حلفاء البحرين السنّة في السعودية ودول خليجية أخرى، الذين لم يستطيعوا أن يتحملوا فكرة أن البحرين قد تتحول حصناً إيرانياً يسيطر عليه الشيعة عند عتبة بابهم. أمّا السياسة في ليبيا واليمن، فهي شؤون قبلية إلى حد كبير، وتقترن في الحالتين بصبغة إسلامية قوية.
  • انطلاقاً من الموقع المتقدم الذي يحتله الإسلاميون في الدول التي تسير في اتجاه أنظمة سياسية أكثر تعددية، يُطرح السؤال عمّا إذا كانت الإسلاموية والديمقراطية لا تلتقيان حكماً. أمّا الجواب فهو: بلى يمكن أن تلتقيا، شرط أن يبرهن الإسلاميون أنهم مستعدون لقبول أربعة مبادئ أساسية مترابطة، وهي: عدم فرض الشريعة كنظام قانوني، والقبول بأنها تحتل مرتبة ثانوية قياساً بالتشريعات التي تقرها هيئة تشريعية منتخبة ديمقراطياً؛ منح كل الأقليات الدينية المساواة الكاملة التي لا يعوِّقها شيء؛ منح النساء المساواة الشاملة التي لا يكبحها شيء؛ القبول التام والواضح بمبادئ حرية التعبير وحرية الفكر وحرية المعتقد الديني وحرية التحرر من المعتقد الديني. تستند كل الديمقراطيات إلى المبدأ الأساسي المتمثل في سيادة الإنسان، ولا يمكن أن يكون هناك حل وسط بين سيادة الإنسان وسيادة الله. ففي الديمقراطية، لا بديل من الانتخاب الحر لرجال ونساء يشكلون هيئة تشريعية توفر للمحكومين منظومة من القوانين التي يضعها الإنسان، وقد تكون منظومة قانونية مثل الشريعة (أو الهالاخا اليهودية)، والتي تُعتبر منزَلة من عند الله، عادلة ومنصفة، لكنها ليست ديمقراطية، لسبب بسيط هو أنها ليست من صنع الهيئة التشريعية المنتخبة، ومصدر سلطتها هو الله الكلي القدرة وليس الشعب.
  • لقد أصبح ما يسمى "الربيع العربي" منطلقاً للصعود السياسي الإسلامي من جوانب عدة. ووحده الزمن كفيل بتعليمنا ما إذا كان هذا سيقود إلى ديمقراطية أكبر أم أقل، بيد أن الحاضر تلفّه الريبة والشكوك.

ترجمته عن الإنكليزية نسرين ناضر.