معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛ وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.
درج الجيش الإسرائيلي على التمييز بين مفهومين، هما: استخدام القوة وبناء القوة. ويشير المفهوم الأول إلى النشاط العملاني الميداني، ويفترض أن قدرةَ الجيش على التنفيذ هي معطى قائم بذاته. أمّا المفهوم الثاني فيشمل الأنشطة المطلوبة لتحسين قدرات الجيش (أو، أحياناً، المحافظة على هذه القدرات فقط).
وعلى سبيل المثال، فإن قرار اختيار موقع لنصب كمين على الحدود اللبنانية هو مجرد استخدام للقوة، في حين أن خطةَ إنتاج أقمار صناعية متطورة هي بكل وضوح بناء للقوة والقدرات...
ويتم بناء القدرات عملياً على مدار العام، لكن تؤخذ القرارات المهمة بهذا الشأن مرة كل عام، وذلك في إطار برنامج العمل السنوي، وبدرجة أشمل مرة كل خمسة (وأحياناً أربعة) أعوام. ويتناول هذا الفصل خطة عمل الجيش الإسرائيلي للسنوات 2012 -2016 التي ستقر في الأيام المقبلة.
صعوبة إعداد خطة لعدة أعوام
إن مهمة إعداد خطة لعدة أعوام منوطة بنائب رئيس الأركان العامة وبفرع التخطيط (أغات) في الجيش الإسرائيلي، اللذين يواجهان ثلاث صعوبات موضوعية، هي: أولاَ، صعوبة افتراض ما سيحدث خلال الأعوام الخمسة المقبلة؛ ثانياً، قلة مرونة ميزانية الأمن، فهناك، في الظاهر، أكثر من 250 بليون شيكل [67,68 بليون دولار أميركي] تحت تصرف معدي الخطة، وهذا هو مجموع ميزانيات الأمن لخمسة أعوام، ومن ضمنها المساعدة الأميركية، أي أكثر من 50 بليون شيكل في العام [13,54 بليون دولار أميركي].([1]) وفي الواقع، فإن معظم مخصصات ميزانية الأمن مكرّس لأبواب إنفاق ثابتة؛ ثالثاً، تكمن الصعوبة الأكبر في تحديد منهجية الخطة التي تشمل مئات المتغيرات.
إقرار خطة لعدة أعوام
على الرغم من عدم وجود طريقة ملزمة أو منهجية وموثقة لإنتاج خطة لعدة أعوام، إلاّ إنه نشأ على مر السنين تفاهم بشأن كيفية إقرار هذه الخطة، بناء على المراحل الأربعة التالية:
أولاً: تقويم الوضع الاستراتيجي
وتبدأ هذه المرحلة بالتقويم الاستخباراتي، إذ تستعرض الاستخبارات العسكرية (أمان) فرضياتها للأعوام القليلة المقبلة، بالتركيز على التهديدات المتوقعة. يلي ذلك نقاش في فرع التخطيط (أغات) بشأن "التهديد المرجعي" [نسبة إلى التهديدات القصيرة والمتوسطة الأجل المتوقعة في فترة الخطة]. ويحدد رئيس هيئة أركان الجيش (وليس الحكومة كما هو معهود في دول أخرى) "التهديد المرجعي" الذي يتمحور حول ثلاثة معطيات قياسية (باراميتر)، هي:
• فرضية حدوث تهديد معين.
• خطورة التهديد (الضرر المتوقع وقوعه).
• كلفة الرد على التهديد.
ثانياً: سلسلة نقاشات تمهيدية
هناك نوعان من النقاشات التمهيدية. ويتناول النوع الأول السيناريوهات العملانية المختلفة للمواجهات العسكرية المستقبلية. وتساعد هذه النقاشات في تعيين ماهية الإنجازات المطلوبة، والثغر الجوهرية القائمة، وميزات التفوق النسبي للجيش الإسرائيلي.
أمّا النوع الثاني فيتناول "بناء القوة". وتشمل هذه النقاشات مسائل متعددة، منها: ما هو عدد الأقمار الصناعية المطلوبة ونوعيتها، ما هي تشكيلة الطائرات بلا طيار المطلوبة، ما هو نوع منظومات الدفاع الفاعل المطلوبة وعددها...
ثالثاً: ورشة عمل الأركان العامة
يصل مسار إقرار الخطة الخمسية إلى ذروته في النقاش الختامي بإدارة رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، وهذا النقاش الختامي هو عبارة عن ورشة عمل تستغرق يومين أو ثلاثة أيام... والغاية المتوخاة من قرار رئيس الأركان هي تحقيق الفائدة العملانية المستقبلية القصوى بناء على سلة من الموارد (تشمل ميزانية الدفاع والقوة البشرية النظامية).
رابعاً: الاستكمال
بعد اختتام ورشة العمل، يقوم فرع التخطيط بترجمة قرارات رئيس هيئة الأركان العامة إلى "توجيهات عامة للتخطيط". وعلى أساس هذه الوثيقة، تقدم الأسلحة والقيادات خططها التفصيلية الخاضعة لموافقة رئيس الأركان، وتدمج خلاصات رئيس الأركان والخطط التفصيلية في وثيقة واحدة، وهي: الخطة متعددة الأعوام.
خطة السنوات 2012-2016
ستعقد ورشة هيئة الأركان العامة في آب/أغسطس 2011، وستبقى معظم قراراتها طي الكتمان. وعلى الرغم من ذلك، يمكننا افتراض ما هي المعضلات الرئيسية التي ستواجهها، والتي ستحدد هيكلية القوة للجيش الإسرائيلي، وقوته العسكرية في الأعوام المقبلة.
المعضلة الأولى: السياسة المتبعة إزاء مصر
منذ إبرام معاهدة السلام في سنة 1979، تم تعريف هذه الدولة على أنها تشكل "خطراً" لا "تهديداً". والفرق بين التهديد والخطر هو انعدام نية هذه الدولة، والمقصود مصر، القيام بعمل عسكري ضد إسرائيل. وعلاوة على ذلك، وعلى مر ثلاثة عقود، كان في وسع إسرائيل الافتراض أنه في حال اندلاع نزاع مسلح مع خصوم آخرين في المنطقة، ستمتنع مصر من التدخل. وأتاح هذا الافتراض المجال لإسرائيل لخوض حربين في لبنان، وعمليات عسكرية واسعة النطاق في الضفة الغربية (مثل "عملية الدرع الواقي")،([2]) وفي قطاع غزة (مثل "عملية الرصاص المسبوك")، من دون تخوف فعلي من تدخل مصر في الأعمال العدائية. وكان للاتفاق مع مصر دلالة أكبر على صعيد بناء القوة، فمنذ إبرام معاهدة السلام (وعلى وجه التحديد منذ سنة 1985)، أمكن تقليص "نظام القوات" للجيش الإسرائيلي، ولا سيما القوات البرية. وأتاح تقليص الكم في موازاة تحسين النوع لدولة إسرائيل المحافظة على مستوى ثابت لميزانية الأمن، بالمعطيات الحقيقية. ونظراً إلى زيادة حجم الناتج القومي الإجمالي، انخفضت، بالتدريج، نسبة ميزانية الأمن للناتج القومي الإجمالي – من 30٪ في سنة 1974 إلى نحو 7٪ في سنة 2011. ولم يقتصر تأثير اتفاق السلام مع مصر في تقليص نظام القوات، بل تعداه إلى إمكان تقليص مستوى مخزون قطع الغيار والذخيرة.
وراجت على مر الأعوام مقولة إن إسرائيل متمسكة بسياسة "أخذ مجازفة مقبولة" إزاء مصر ما لم يحدث "تغيير استراتيجي". إلاّ إن المعضلة الأولى لهيئة الأركان العامة اليوم هي في الإجابة عن السؤال التالي: هل يستوجب التغيير الذي شهدته مصر في شباط/فبراير 2011، بما فيه سقوط نظام مبارك، تغييراً موازياً في الفرضية الأساسية القائمة إزاء هذه الدولة، وبأي مدى؟ لعله من الجائز القول إن الرد على هذا التغيير سهل نسبياً في كل ما يتعلق بتعزيز أمن الحدود مع مصر، وبالحاجة إلى رصد استخباراتي أشمل. لكن، في المقابل، يصعب تقديم أجوبة بشأن انعكاسات التغيير الحاصل في مصر على نظام القوات (البحرية، والجوية، والبرية)، وخصوصاً بشأن مستوى مخزون الجيش الإسرائيلي.
المعضلة الثانية: الاعتماد على سلاح الجو
حاز سلاح الجو الإسرائيلي على مر خمسة عقود، أي منذ مطلع ستينيات القرن الماضي، على الأفضلية المطلقة في توزيع موارد ميزانية الأمن. وشكلت قوة سلاح الجو تفوقاً نسبياً ساطعاً للجيش الإسرائيلي على جيوش العدو، وبدأ نطاق مهمات سلاح الجو بالاتساع، فشمل، بالإضافة إلى الدفاع عن سماء الدولة، إحراز التفوق الجوي في فضاء الخصم وأرضه، بما في ذلك تدمير دفاعاته من صواريخ أرض-جو، وقصف أهدافه الاستراتيجية، وتدمير منظوماته من صواريخ أرض - أرض، ومساندة كثيفة للقوات البرية والبحرية الإسرائيلية.
لكن، برز في الأعوام الأخيرة تهديدان هما بمثابة تحد لقدرة سلاح الجو على تحقيق كل أهدافه: أولهما، هو تحسن قدرات الخصم من المضادات الأرضية، الأمر الذي يذكر بالتحدي الذي شكلته [للطائرات الإسرائيلية] المضادات الأرضية السورية والمصرية في حرب سنة 1973. وثانيهما، والأهم، هو التهديد الذي تشكله ترسانة صواريخ العدو. وقد ظهر هذا التهديد في العقد الأخير، وهو يشمل إمكان تعرض مطارات إسرائيل لهجمات صاروخية، وهو يطرح سؤالاً بشأن مدى إعاقته لفعالية سلاح الجو. وعلى قدر التوقعات بشأن تراجع فعالية سلاح الجو، ولو موقتاً وبصورة محدودة، ينبغي زيادة القدرات، ولا سيما قدرات القوات البرية، وربما أيضاً قدرات القوات البحرية، بحيث يتم "توزيع المخاطر"، وتنويع قدرة الرد.
المعضلة الثالثة: طائرات أف 35
إن الطائرة المقاتلة أف 35 هي أفضل وأحدث (وأغلى) طراز من الطائرات المقاتلة، ولهذه الطائرة مزايا عديدة، أهمها تقنية التخفي (بفضل "مقطعها العرضي الراداري" الصغير)، التي تطيل عمرها بصورة حاسمة. ويزعم كثيرون أن هذه هي الطائرة المقاتلة المأهولة الأخيرة، لأن قدرة تصنيع طائرات تكتيكية بلا طيار تتطور بسرعة كبيرة إلى حد الاستغناء عن الطائرات المقاتلة المأهولة في المهمات العسكرية بعد عقد أو عقدين.
للوهلة الأولى، لا يشكل شراء سرب من طائرات أف 35 معضلة، ولا سيما أن القرار متخذ منذ مدة، لكن المعضلة قائمة، في الواقع، من ناحيتين: فمن الناحية الأولى، علينا أن نقرر ما إذا كان ينبغي إدراج شراء سرب إضافي في الخطة الخمسية – الأمر الذي يعني تكريس معظم ميزانية الأمن بالعملة الصعبة [المساعدة الأميركية] لهذا الغرض. فهناك من يقول في هذا الصدد إن سرباً واحداً من طائرات أف 35 لا يشكل "كتلة حرجة" من الطائرات النوعية والخفية الضرورية أساساً لنجاح تنفيذ مهمات قتالية على جبهة "الطوق الثالث" (ضد إيران مثلاً). أمّا الناحية الثانية فهي أكثر جوهرية لأنها تتعلق بنسبة عدد الطائرات المأهولة لعدد الطائرات بلا طيار التي ينبغي حيازتها في الأعوام الخمسة المقبلة. على العموم، يُفضل إرسال طائرة بلا طيار لتنفيذ مهمة هجومية إذا أمكن، ليس فقط من أجل تقليل المخاطر على الطيارين، أو لأنها تسمح بقدر أكبر من المجازفة في اختيار طابع المهمة، بل أيضاً لأن الكلفة الإجمالية لتشغيل طائرات بلا طيار هي منخفضة نسبياً. لكن الاعتماد المتزايد على طائرات تكتيكية بلا طيار لتنفيذ المهمات يستلزم أخذ مبادرات تكنولوجية وعملانية عديدة، وقد يكون البديل عن الاستثمار الكبير في الطائرات بلا طيار هو اعتماد "المجرَّب والمضمون"، فبما أنه سيطول انتظارنا لتسلم طائرات أف 35، قد يكون من الملائم أكثر شراء مزيد من طائرات أف 15 وأف 16، أو تحسين قدرات الطائرات الموجودة (الرادار، مثلاً). وعليه، ليس هيناً اتخاذ قرارات فيما يتعلق بهاتين المقاربتين المتصلتين بالطائرات المقاتلة أف 35.
المعضلة الرابعة: الدفاع الفاعل
عزز النجاح العملاني الميداني لمنظومة "القبة الحديدية"، في مطلع سنة 2011، قرار تجهيز الدفاع الإسرائيلي ببطاريات إضافية وبمخزون كبير من الصواريخ الاعتراضية. فالمطلوب توظيف موارد هائلة، وهناك جهات تقول إن "الاكتفاء بالدفاع يعرضنا لخطر جسيم"، والكلام يدور على الاستثمار المفرط في الأسلحة الدفاعية، على حساب القدرات الهجومية. وتضيف هذه المصادر أنه بمجرد قيام إسرائيل بالتزود، بكثافة، بالمنظومات الدفاعية تكون قد خضعت لإملاءات العدو. وهذا الأمر شبيه بالقيود الضاغطة التي فرضتها إسرائيل على الجيشين المصري والسوري، اللذين عجزا عن التصدي لسلاح الجو الإسرائيلي، فاضطرا إلى رصد ميزانية هائلة لمنظومات الدفاع الأرضي، الأمر الذي أفضى إلى إدامة ضعف سلاحهما الجوي.
ولا تقتصر مزايا منظومات الدفاع المضادة للصواريخ على الحماية التي توفرها، وعلى تقليل حجم الأضرار المتوقعة، بل تطال أيضاً مجالين إضافيين، فمن شأن منظومة الدفاع الفعالة أن تضعف حافز العدو على المهاجمة، كذلك تمنح أنظمة الدفاع الفعالة مزيداً من حرية الحركة للعمليات الهجومية.
مبدئياً، اتُخذ القرار في إسرائيل بالتسلح بنظام دفاعي لاعتراض الصواريخ متعدد الطبقات (حيتس 3، حيتس 2، "العصا السحرية"، "القبة الحديدية")، لكن الأهم في هذا السياق هو طريقة مزج المنظومات الدفاعية المتعددة، وحجم الميزانية المكرسة لهذا الغرض، إذ إن هذا سيتم بالضرورة على حساب مجالات تسلح أخرى.
وثمة حيرة إضافية تلازم المؤسسة العسكرية منذ عقد، وهي على صلة بالدفاع الفاعل، وتحديداً بمنظومة الدفاع بالليزر (ناوتيلوس)، والتي لديها أفضلية على ثلاثة مستويات، إذ إن سرعة الطلقة في ناوتيلوس تسمح بتدمير "نيران المسار المرتفع"، حتى لو أُطلقت من مدى قصير (قذائف الهاون)، كذلك تتيح المنظومة باستخدامات متواصلة، الواحدة بعد الأخرى، وبتدمير عدة أهداف في آن معاً، بالإضافة إلى ذلك، فإن كلفة تدمير قذيفة صاروخية أو صاروخ أرض-أرض تعتبر معقولة جداً.
ولنفترض أن إسرائيل هوجمت بآلاف الصواريخ، والقذائف الصاروخية، وقذائف الهاون، وحتى بطائرات بلا طيار، يومياً ولمدة طويلة، فإن منظومة الليزر أفضل بكثير من الناحية الاقتصادية، غير أن تطوير هذه المنظومة يستغرق فترة زمنية طويلة، وتكاليفه مرتفعة. وقد أظهرت النماذج الأولى للمنظومة أنها تسمح بحماية حيز مكاني صغير (مقارنة بالقبة الحديدية)، لكن، هل من الحكمة الاستثمار في منظومة الليزر بعد أن بدأ الاستثمار في "القبة الحديدية"، وهل يمكن الاستثمار في النظامين الدفاعيين في آن معاً؟ هذا ما ستجيب عنه الخطة الخمسية.
المعضلة الخامسة: القدرة على المناورة
أظهرت مجريات حرب لبنان الثانية ضعفاً في قدرة القوات البرية على المناورة الهجومية، وخصوصاً بالنسبة إلى تحريك وحدات عسكرية كبيرة. وقد أُعطيت الأولوية لمعالجة هذا الخلل بسرعة فور انتهاء الحرب، وركزت المعالجة على التدريب والتأهيل، كما ركزت على زيادة تجهيزات القوات البرية، ولا سيما المنصات من طراز المدرعة "نامير" (ناقلة جند مدرعة "نغماش"، مركّبة على قاعدة دبابة "ميركافا")، وأنظمة التدريع ومن ضمنها نظام "السترة الواقية" [Trophy]([3]) الذي يحمي الدبابات وناقلات الجند.
وتنبع الحاجة إلى تحسين قدرات المناورة الهجومية، مباشرة، من ضرورة تحقيق نصر سريع في الساحتين السورية واللبنانية. وهناك تباين في وجهات النظر بشأن هذه المسألة، ففي حين يعتقد البعض أنه لا يمكن تحقيق حسم عسكري سريع في هاتين الساحتين من دون توغل القوات البرية في عمق أرض الخصم، فإن البعض الآخر يرى أن أهمية هذا الجهد البري مسألة ثانوية، لأنه يمكن تحقيق الغاية المنشودة عبر تدمير الأهداف من الجو، وعبر إلحاق أضرار جسيمة بالبنى التحتية، لإقناع الخصم بأن استمرار القتال عديم الجدوى.
ففي حال اعتُمدت المقاربة الأولى، ينبغي تخصيص ميزانيات كبيرة لتعزيز القدرات البرية، ولا سيما نظام "السترة الواقية". ومما لا شك فيه أنه في ميدانِ المعركة المدجج بالأسلحة المتطورة المضادة للدروع، هناك ضرورة حيوية لتوفير هذا النوع من الحماية لمعظم مركبات القتال المدرعة في الجيش الإسرائيلي. في المقابل، فإن الذين يعتبرون أن حرب مناورة هجومية تشارك فيها قوات برية كبيرة في عمق أرض العدو مسألة أقل إلحاحاً، قد يكتفون بعدد أصغر بكثير من أنظمة تدريع كهذه، ذلك بأن عمليات "الأمن الجاري"([4]) في مواجهة قطاع غزة، وحتى في مواجهة حزب الله، تتطلب عدداً قليلاً نسبياً من هذه الأنظمة. وقد يبلغ الفرق بين المقاربتين بلايين الشيكلات، ليس فقط بسبب تكاليف حماية مركبات القتال المدرعة، بل أيضاً بسبب الحاجات المكملة لها، كتحسين القدرات الهندسية، وزيادة دقة تصويب مرمى المدفعية ومداه.
المعضلة السادسة: القيادة والتحكم
من أبرز ميزات جيش عصري كالجيش الإسرائيلي هي قدرات القيادة والتحكم العالية، جواً وبحراً، وفي الأعوام الأخيرة، براً أيضاً. لكن، إلى جانب ميزات النظام المتطور للقيادة والتحكم، هناك ثلاثة نواقص، هي: أولاً، نحن نتكلم على تكنولوجيا يجري تحديثها باستمرار، وبهذا المعنى يمكن القول إنه فور تسلّم تجهيزات مزودة بأنظمة جديدة، تكون هذه الأنظمة قد أصبحت عملياً قديمة؛ ثانياً، لا يجب الاكتفاء بإنجاز "نصف العمل"، فهناك كلفة كبيرة مترتبة على وضع تكون فيه بعض الوحدات مزودة بأنظمة اتصالات حديثة، في حين أن الوحدات الأخرى غير مجهزة بأنظمة كهذه؛ ثالثاً، غالباً ما تكون فائدة نظام متطور للقيادة والتحكم غير مباشرة وغير مثبتة، فعلى سبيل المثال، إن تمكّن رئيس الولايات المتحدة الأميركية من مشاهدة عملية تصفية بن لادن بالنقل المباشر لا يثبت أن هذه القدرة ساهمت في نجاح العملية ونوعيتها.
وقد استثمر الجيش الإسرائيلي كثيراً، في الأعوام الأخيرة، في البرمجيات والأعتدة الصلبة للحواسيب، وفي البنى التحتية للاتصالات، وعليه أن يقرر الآن ما إذا كان مطلوبأً منه البقاء في طليعة جبهة التكنولوجيا، والتزود بأنظمة حديثة، مثل بنية تحتية للاتصالات من جيل "التطور طويل الأمد" LTE، التي تسمح بإرسال وبتلقّي كمية كبيرة من الصور وشرائط الفيديو بسرعة فائقة، أو الإكتفاء بالجيل الأقل تطوراً. كذلك، فإن القيادة والتحكم هما مثالان جيدان، لكنهما ليسا فريدين، بالنسبة إلى وضع يخولنا تحقيق"قفزة تكنولوجية نوعية"، في حين أن الإضافة إلى الفائدة العملانية الميدانية لا توازي بالضرورة تكاليفها.
فقد نشأ في ميدان القيادة والتحكم والحواسيب في الأعوام الأخيرة وعي متزايد بشأن إمكان تعرض الجيش الإسرائيلي، والمنظمات والمؤسسات القومية الأخرى، للهجمات الإلكترونية. إذ زادت مؤخراً قدرة العدو – سواء أكان دولة أم منظمة- على مهاجمة وتعطيل أنظمة حيوية عن طريق اختراق معاد لأنظمة الحواسيب، الأمر الذي يتطلب استثمارات كبيرة لإحباط هذا النوع الجديد من التهديد وصده.
مما لا شك فيه أن نقاش هذه المعضلات سيأخذ حيزاً من عملية صياغة الخطة الخمسية، بناء على فرضية عدم حدوث تطورات تقلب الأوضاع. كذلك لا ينبغي استبعاد اندلاع انتفاضة ثالثة قبيل نهاية سنة 2011، وفي هذه الحال، سيضطر الجيش إلى إجراء تعديل كبير في الخطة، بحيث تستعيد "المسائل الطارئة" الأولوية على "المسائل المهمة". فالضغط المشروع الذي سيمارسه الجمهور والمؤسسة السياسية لزيادة العمليات العسكرية في الضفة الغربية، والحاجة إلى تحسين أمن وسلامة المواقع العسكرية أو التجمعات المدنية، سيؤديان إلى تغيير وجهة مقدار غير قليل من مخصصات الأمن.
وعليه، يجوز السؤال التالي: لماذا لا تنفَذ هذه العمليات منذ اليوم؟ لماذا لا يستعد الجيش الإسرائيلي لمواجهة انتفاضة ثالثة؟ والجواب عن هذين التساؤلين هي أن الجيش الإسرائيلي محق في عدم تحويل ميزانيات سخية إلى "الأمن الجاري" منذ اليوم، وذلك لسببين، هما: أولاً، يمتاز الجيش بقدرة عالية على تنفيذ التغيير في فترة وجيزة، وهو استغل الهدوء النسبي في الأعوام السبعة الأخيرة لتوفير موارد كبيرة وتوظيفها في بناء القوة طويلة الأمد؛ ثانياً، إن الاستثمار في "الأمن الجاري" لا يخدم سيناريوهات أخرى، في حين أن التوظيف في مجالات أخرى قد يكون مفيداً أيضاً لخدمة مقتضيات "الأمن الجاري".
ميزانية الأمن
لقد كان إيهود باراك محقاً في قوله، عندما كان رئيساً لهيئة الأركان العامة،إن القيود الضاغطة على تعاظم قوة الجيش الإسرائيلي ليست تكنولوجية في طبيعتها، وإنما هي متصلة بالميزانية المرصودة. وأكدنا أعلاه أن التحدي الذي يواجهه الجيش الإسرائيلي يكمن في تحقيق الفائدة العملانية المستقبلية القصوى بناء على موارد محددة. لكن، هل أن هذه الموارد محددة سلفاً؟ وألا يمكن زيادتها من داخل ميزانية الأمن أو من خارجها؟
قبل بضعة أعوام، تم تشكيل لجنة برئاسة ديفيد برودت للتدقيق في ميزانية الأمن، وقدمت هذه اللجنة توصيتين: أولهما، أنه ينبغي زيادة ميزانية الأمن بالتدريج وبصورة معتدلة؛ ثانيهما، أن على الجيش الإسرائيلي أن يحسن فاعليته بما يوازي إنفاقاً أمنياً بنحو 30 بليون شيكل [8,14 بليون دولار] في غضون عشرة أعوام.
وعليه، كلفت وزارة الدفاع والمؤسسة العسكرية شركة "مكنزي"([5]) دراسة ميزانية الأمن وتقديم اقتراحات لزيادة الفاعلية والنجاعة. وعمل فريق عمل الشركة مدة عامين، ثم قدم توصياته إلى مدير عام الوزارة وإلى رئيس الأركان العامة. فقد وضع هذا الفريق برنامجاً طموحاً لزيادة الفاعلية والنجاعة ولتوفير الإنفاق، وتبنّت وزارة الدفاع آنذاك تطبيق هذا البرنامج الإصلاحي. لكن، منذ ذلك الوقت، لم يتم إنجاز الكثير، ليس فقط بسبب ذوبان القرارات (كما يحدث غالباًً في إسرائيل)، بل أيضاً لأن توصيات شركة "مكنزي" كانت مشوبة بخطأ من الأساس.
وتتحقق زيادة الفاعلية عن طريقين: إمّا عبر زيادة ناتج الميزانية (النفقات) إياها، وإمّا عبر الإبقاء على الناتج إياه مع خفض في الميزانية. وبما أن لجنة برودت حددت سلفاً أنه لا يجب تقليص نفقات الأمن، بقي أن يتم درس زيادة النجاعة عن طريق الاحتمال الأول – أي زيادة ناتج الميزانية إياها. لكن، هنا يفرض السؤال التالي نفسه: كيف يمكن قياس زيادة الناتج العملاني؟ فهذا أكثر تعقيداً من قياس ناتج شركة تجارية، حيث هناك مؤشر بسيط، ألا وهو حجم المبيعات.
ومن الأجدر أن يتم تنفيذ التدقيق على عدة مراحل: في المرحلة الأولى، يجب تحديد الناتج العملاني بناء على "كتلة العضلات"، أي أن نحصي عدد المتغيرات التي تنتج هذه "العضلات"، مثل عدد الكتائب العملانية في كل من الجيش النظامي والاحتياط، وعدد الطائرات وأنواعها، وعدد سفن سلاح البحرية وأنواعها، وعدد "أيام القتال" (مخزون الذخيرة وقطع الغيار) المتوفرة، وما إليه. وفي المرحلة الثانية، المطلوب تقدير كلفة تكوين كل عضلة من تلك "العضلات". أمّا في المرحلة الثالثة، فينبغي وضع خطة لزيادة مجمل "العضلات" بما يوازي 30 بليون شيكل في العقد المقبل، ويجب أن يجري ذلك من دون زيادة ميزانية الأمن (أو زيادتها بنسبة طفيفة، بناء على توصيات لجنة برودت). وستكون المحصلة هي زيادة الفاعلية التي تفضي إلى زيادة ملموسة في الناتج العملاني، من دون زيادة في مجموع النفقات. ونظراً إلى أن أياً من هذه الأمور لم يحدث، يجوز القول إنه لم يكن هناك أي زيادة في الفاعلية في الأعوام الأخيرة، وإنه لن تحدث أي زيادة خلال الأعوام القادمة المشمولة بالخطة، أي في السنوات 2012-2016.
وأبعد من ذلك، يبدو أنه لن تتوفر، من داخل ميزانية الأمن، مصادر تمويل ذاتية نتيجة لتغييرات تنظيمية جوهرية في الجيش الإسرايلي (وفي وزارة الدفاع). في المقابل، فإن مصادر تمويل من خارج ميزانية الأمن تبدو أكثر ترجيحاً، وهذا ما لمّح إليه رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو في الخطاب الذي ألقاه عشية عيد الفصح، هذا العام.
ويدخل في صلب إعداد الخطة الخمسية تقدير ميزانية الحاجات الأمنية خلال الأعوام الخمسة المقبلة. وقد درج الجيش الإسرائيلي على وضع تقديرات "متفائلة"، أي على وضع خطة واسعة النطاق، والنضال لاحقاً من أجل تحقيقها. وهذا ما سيحدث على الأرجح هذه المرة.
خاتمة
تستأثر ميزانية الأمن بالنصيب الأكبر من الميزانية العامة للدولة. لذا، من الطبيعي ومن الصائب أن يجري نقاش الخطة الخمسية للجيش الإسرائيلي داخل الحكومة، وأن تكرّس لهذا النقاش بضعة أيام. ونظراً إلى أن ليس هذا واقع الحال في إسرائيل، فإن مسؤولية تقرير هيكلية القوة في الجيش، للأعوام المقبلة، تقع على عاتق الجيشِ الإسرائيلي، ورئيسِ هيئة الأركان العامة، ووزير الدفاع. وللدلالة على أهمية هذه القرارات، نذكّر بقرار إيهود باراك، عندما كان رئيساً لهيئة الأركان قبل عشرة أعوام، إعطاء الأولوية للتزود بالأسلحة والذخيرة الذاتية التوجيه والدقيقة – وهو القرار الذي مكّن الجيش الإسرائيلي من زيادة قدرته العملانية بصورة ملحوظة، من دون الخروج عن إطار الميزانية.
إن الإدراك المتأخر للأمور يُظهر أن قرارات الجيش الإسرائيلي لم تكن دائماً سديدة. فعندما نستعيد القرارات الماضية، نقول حبذا لو كان هذا أو ذاك القرار مختلفاً، ومن الأمثلة على ذلك، الأهمية الزائدة المعطاة إلى القيادة والتحكم في القوات البرية على حساب القدرة على المناورة الهجومية، ومنظومات الحماية، والرؤية الليلية، في الفترة السابقة لحرب لبنان الثانية. مع ذلك، يبدو أن المسار الذي يعتمده الجيش الإسرائيلي في بلورة الخطة الخمسية، صحيح الآن، لأنه يجري بحزم وبجدية وبأكبر قدر ممكن من الشفافية.
السنة |
ميزانية الأمن |
ميزانية الأمن |
ميزانية الأمن والنظام العام |
1986 |
24.1 |
16.2 |
33.2 |
2000 |
16.0 |
6.9 |
26.7 |
2006 |
15.6 |
6.6 |
25.2 |
2010 |
15.1 |
6.0 |
25.7 |
2011 |
15.2 |
7.0 |
24.9 |
2012 |
15.1 |
- |
24.4 |
* المصدر: عنات كورتز وشلومو بروم (ناشرون)، "تقويم استراتيجي لإسرائيل" (هَعْرَخاه إستراتيجيت ليسرائيل) (معهد دراسات الأمن القومي-جامعة تل أبيب، 2011)، ص123-132: http://www.inss.org.i
وزارة المالية، مشاريع قوانين الميزانية العامة.
المكتب المركزي للإحصاء، ووزارة المالية (مشاريع الميزانية العامة
http://www.mod.gov.il/pages/general/pdfs/takziv_2011_2012.pdf
وزارة المالية، مشاريع قوانين الميزانية العامة.
ـ ترجمة عن العبرية: يولا البطل.
(1) بلغ سعر صرف الشيكل الإسرائيلي 3,687 شيكل للدولار الأميركي الواحد (أي إن مبلغ 100 شيكل إسرائيلي يساوي 27 دولاراً أميركياً، بحسب الموقع الإلكتروني لأسعار صرف العملات في "فاينانشل تايمز"، 3/11/2011 (المترجمة).
(2) في إشارة إلى العمليات العسكرية واسعة النطاق في الضفة الغربية الهادفة إلى قمع الانتفاضة الثانية، والتي بدأت باقتحام رام الله في 29/3/2002 وانتهت في 10/5/2002 (المترجمة).
(3) "مِعيل رُواح"، أو ASPRO-A، الأحرف الأولى لعبارة Armoured Shield Protection-Active ، المسوَّق في العالم تحت اسم Trophy. وهو نظام تدريع للدبابات طورته شركة رفائيل، بالتعاون مع شركة إلتا والصناعات العسكرية وشركة جنرال ديناميكس الأميركية. وتقوم آلية عمل "السترة الواقية" على تشكيل منطقة حماية نصف دائرية حول الآلية، ويتألف نظام التدريع من ثلاثة عناصر رئيسية تقوم بالتالي: أولاً، تحديد التهديد؛ ثانياً، تعقب التهديد؛ ثالثاً، الإطلاق واعتراض التهديد. ويتألف جهاز تحديد التهديد من مجموعة مجسات استشعار من بينها رادارات مسطحة موزعة بطريقة تضمن حماية دائرية شاملة. ويتألف نظام الاعتراض من قاذفتين متحركتين مركبتين على جانبي الدبابة، تطلقان حبيبات صغيرة مثل الرصاص تعترض القذائف الصاروخية المضادة للدبابات (المترجمة).
(4) "الأمن الجاري" (بيتاحون شوتيف)، وهو ما يسميه الخبير العسكري عوض منصور حروباً متدنية الوتيرة. راجع: "دليل إسرائيل العام 2011" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2011)، الفصل العاشر، "المؤسسة الأمنية والعسكرية"، ص 606 (المترجمة).
(5) McKinsey and Company ، شركة استشارات إدارية عالمية، أميركية المنشأ (المترجمة).