تأسس في سنة 1993 على يد الدكتور توماس هيكت، وهو من زعماء اليهود في كندا، وكان تابعاً لجامعة بار إيلان، وأُطلق عليه هذا الاسم تخليداً لذكرى اتفاق السلام الإسرائيلي -المصري الذي وقّعه مناحيم بيغن وأنور السادات. يعالج مسائل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني والصراعات في المنطقة والعالم. يميل نحو وجهة نظر اليمين في إسرائيل. كما أصدر المركز مئات الدراسات والكتب باللغتين العبرية والإنكليزية.
استُخدمت منظومة القبة الحديدية للدفاع لإعتراض الصواريخ المتوسطة المدى لأول مرة في إسرائيل في نيسان/أبريل 2011، محققة نجاحاً تقنياً كبيراً، الأمر الذي دفع القيادة الأمنية إلى الإفصاح عن الأهداف الاستراتيجية لهذه المنظومة وعن حدود قدراتها التي لم تكن قد كُشفت بعد. وهذا ما نقل الجدل الداخلي بشأن الدفاع الصاروخي من التركيز على التهديدات المحدقة ببلدة سديروت والتجمعات السكنية المحيطة بقطاع غزة (ما يعرف بغلاف غزة)، إلى نقاش بشأن تهديد الصواريخ بعيدة المدى التي قد تطال مدناً أكبر في عمق إسرائيل. ويمكن أن نستخلص أن منظومة القبة الحديدية نجحت في إنقاذ الأرواح وتقليل الأضرار المادية، مما سمح للقيادة السياسية ابداء شيء من المرونة من أجل احتواء التصعيد العسكري مع حكومة "حماس" في قطاع غزة.
مقدمة
دخلت المنظومة الإسرائيلية الجديدة المضادة للصواريخ "القبة الحديدية" الخدمة العملانية في جنوب إسرائيل في إبان جولتين من التصعيد العسكري على امتداد الحدود مع قطاع غزة (في نيسان/أبريل وآب/أغسطس 2011).
وترافق تطوير أنظمة الدفاع الفاعل في إسرائيل، الذي بدأ مع نظام صاروخ حيتس (آرو) في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وشكلت منظومة القبة الحديدية الفصل الأخير فيه، مع جدل داخلي حاد، ومعارك خلف الأبواب المغلقة للمؤسسة الأمنية. إذ دارت هذه المعارك بين القيادة السياسية من جهة، ومختلف المراتب العسكرية النظامية التي قاومت تحويل الموارد من الأسلحة الهجومية إلى الأسلحة الدفاعية من جهة أخرى.
وعليه، تشكل البداية العملانية للقبة الحديدية، والتي يمكن القول إنها حققت نجاحاً تقنياً، فرصة لتقويم أدائها ومدى مطابقته للتوقعات بشأنها. ويأتي هذا في الوقت الذي ما زال الغموض يسود التوقعات بشأن الفعالية التقنية والاستراتيجية للمنظومة، ولا سيما وأن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لم تكشف علناً عن هذه التوقعات، ولم تصدر أي بيانات رسمية تتناول الأداء الفعلي للمنظومة في الميدان. مع ذلك، أثار ظهور منظومة القبة الحديدية في ساحة القتال اهتماماً على نطاق العالم، وحظي بتغطية واسعة في وسائل الإعلام الإسرائيلية والعالمية. وتسمح وفرة التقارير المسموح الاطلاع عليها، بإجراء تقويم أولي لأداء هذه المنظومة وانعكاساتها.
الأهداف والغايات
ساهمت صدمة حرب لبنان سنة 2006 في تسريع اتخاذ إسرائيل قرارها ب تطوير نظام دفاعي مضاد للصواريخ. وقد وقع الخيار على نظام القبة الحديدية في شباط/فبراير 2007، وعلى الرغم من عودة الحياة الطبيعية إلى شمال إسرائيل. أمّا في الجنوب، فكان إيقاع إطلاق الصواريخ من قطاع غزة آخذ في التسارع، وعليه، تمحور النقاش الداخلي بشأن فعالية القبة الحديدية في حدها الأدنى، وتحديداً قدرتها على اعتراض صواريخ مداها أربعة كيلومترات، وبشأن قدرتها على تدمير قذائف الهاون قبل سقوطها. وكانت سديروت، التي عانت من هجمات صواريخ "القسّام" المتزايدة، النقطة المحورية للنقاش بشأن فعالية القبة الحديدية. وبالكاد تطرق النقاش العام إلى الحاجة إلى الدفاع عن مدن أكبر وأبعد داخل إسرائيل، على الرغم من إطلاق صواريخ بعيدة المدى من قطاع غزة استهدفت مدينة عسقلان اعتباراً من أواسط سنة 2006.
في بادئ الأمر، ظل الغموض يحيط بدور القبة الحديدية في استراتيجيا الرد الشامل على التهديد الصاروخي الذي تواجهه إسرائيل، وبقيت الأهداف الأساسية للمنظومة – ما هي الصواريخ المفترض أن تعترضها، من هم السكان أو البلدات التي يجب حمايتها، وما هي مستويات الدفاع المطلوبة – غير معروفة من جانب الجمهور. وكانت التصريحات المقتضبة للمؤسسة الأمنية توحي بأن دور القبة الحديدية يقتصر على الدفاع عن غلاف غزة من صواريخ "القسام".
وعلى سبيل المثال، قال وزير الدفاع الإسرائيلي، إيهود باراك، في نهاية سنة 2007، "إننا سنتمكن من نشر أول بطارية من المنظومة في سديروت في غضون عامين ونصف العام."([1]) وفقط بعد النجاح الأولي للقبة الحديدية في نيسان/أبريل 2011، بدأ كبار مسؤولي وزارة الدفاع الإسرائيلية بالإفصاح عن أهدافها الاستراتيجية وحدودها، فصرّح اللواء احتياط أوفير شوهام، رئيس إدارة أبحاث وتطوير الوسائل القتالية والبنية التحتية التكنولوجية (المعروفة بالحروف الأولية لعبارة "منهال لفيتواح إمتساعي لحيما فتشتيت تخنولوجيت"- مَفات) التابعة لوزارة الدفاع الإسرائيلية، قائلاً "إن الهدف الاستراتيجي للمنظومة هو منح القيادة السياسية مجالاً أوسع للمناورة، وتوفير بديلاً من التصعيد."([2])
من جهته أوضح اللواء داني غولد، الذي كان آنذاك رئيس قسم الأبحاث والتطوير في "مَفات"، أن هناك ثلاثة مسوغات للمنظومة الدفاعية: مسوغات أخلاقية، واقتصادية، واستراتيجية. أخلاقياً، فإن الدولة ملزمة بحماية أرواح المواطنين وأملاكهم. واقتصادياً، تمنع المنظومة الدفاعية شلل الاقتصاد الوطني. أمّا استراتيجياً، فتشكل المنظومة "رداً على التهديد الرئيسي للعدو"، بصفتها وسيلة لـ "تجنب العمليات العسكرية الواسعة والمكلفة، الأمر الذي يوفر للقيادة السياسية مسارات عمل بديلة من التصعيد العسكري."([3])
وبالنسبة إلى القدرة الدفاعية للقبة الحديدية، نبّه يوسي دروكير، مدير برنامج المنظومة في شركة "رفائيل"، قائلاً إنه لا يوجد نظام يكفل حماية بنسبة 100٪. وكرر المقدم س. رئيس مكتب البرنامج في وزارة الدفاع الإسرائيلية هذا التحذير، معتبراً أنه "لا يوجد نظام محكم بصورة كاملة؛ وعلى المواطنين أن يبقوا متأهبين."([4]) كذلك حذر وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك من أن تشغيل هذه المنظومة الدفاعية "لن يعطي حلاً بنسبة 100٪ للتهديد الذي تمثله الصواريخ الفلسطينية."([5]) ووضع اللواء احتياط أوفير شوهام، رئيس إدارة "مَفات"، الأمور في منظورها الموسع فقال "إننا لا نسلّم بأننا سنتمكن من إسقاط آلاف الصواريخ، وإنما نهدف بالأحرى إلى تقليل الأضرار إلى الحد الأدنى، لتمكين الجيش الإسرائيلي من القيام بمهمات أخرى... ."([6]) وبالتالي فإن هذه الأهداف هي أشمل من مجرد حماية بلدة سديروت.
ليس واضحاً ما إذا كانت هذه الاعتبارات المنسوبة إلى وزارة الدفاع هي التي ساهمت في البدء بتطوير القبة الحديدية في شباط/فبراير 2007، أو أنها اعتبارات حديثة العهد. ويجوز الافتراض أن مثل هذه المبررات قد طُرحت وراء الكواليس خلال السجالات الحادة بين قيادة الأركان العامة والقيادة السياسية، بشأن الحاجة إلى دفاع فاعل بصورة عامة، وإلى القبة الحديدية خاصة. ومهما يكن من أمر، فإن مهمة منظومة القبة الحديدية الآن هي التوصل إلى إنجاز ثلاثة أهداف، هي: حماية الأرواح والأملاك الإسرائيلية، وتوفير مرونة جديدة للقيادة السياسية، ومنح الجيش الإسرائيلي الوقت الكافي لتحضير عمليات هجومية.
تشغيل منظومة القبة الحديدية
دخلت القبة الحديدية الخدمة العملانية لأول مرة في نيسان/أبريل 2011، رداً على تصاعد الهجمات الصاروخية من قطاع غزة ضد أهداف إسرائيلية. وبعد فشل الردود الهجومية للجيش الإسرائيلي في وقف الهجمات الصاروخية المتصاعدة والبعيدة المدى، اتُخذ القرار بنشر إحدى بطاريتي القبة الحديدية المتوفرتين قرب مدينة بئر السبع. آنذاك، لم تكن قد ظهرت القدرة العملانية الأولية للقبة الحديدية، إذ تم نشر أول بطارية في 23 أذار/مارس 2011، كتجربة عملانية أولى، ومع تصاعد التوتر وتبادل إطلاق النار على الحدود مع قطاع غزة، نُصبت البطارية الثانية في 4 نيسان/أبريل في محيط مدينة عسقلان.
في 7 نيسان/أبريل، وفي رد انتقامي على اغتيال ثلاثة قادة ميدانيين، أطلق الجناح العسكري لحركة "حماس" صاروخاً مضاداً للدبابات على حافلة مدرسية إسرائيلية، الأمر الذي أدى إلى مقتل شاب عمره 16 عاماً، فردّ الجيش الإسرائيلي بتكثيف هجماته على الأهداف الفلسطينية، في حين أطلقت المجموعات الإرهابية الغزاوية (غير المنتمية لحركة "حماس") صواريخ بعيدة المدى على عسقلان، ونجحت بطارية القبة الحديدية التي نشرت هناك في تحقيق أول اعتراض لصاروخ فلسطيني في ذاك اليوم. وخلال الأيام التالية، نجحت القبة الحديدية في تدمير عدة صواريخ في الجو قبل سقوطها في عسقلان، كذلك تم تشغيل البطارية الثانية المنصوبة في بئر السبع في 8 نيسان/أبريل لأول مرة، وقد دمرت على الأقل صاروخ "غراد" واحداً موجهاً نحو المدينة. ونقلت مصادر إعلامية أن المنظومة الجديدة تمكنت من تدمير ثمانية من أصل تسعة صواريخ جرى اعتراضها (وفق تقديرات رئيس إدارة "مَفات"، بلغت نسبة النجاح تسعة على عشرة). وفي 11 نيسان/أبريل أعلن الفلسطينيون وقفاً لإطلاق النار فعاد الهدوء الحذر إلى جنوب إسرائيل.
وفي 18 آب/أغسطس 2011، بدأت جولة التصعيد الجديدة، وذلك عندما هاجمت مجموعة إرهابية فلسطينية عدة سيارات على طريق إيلات، فقتلت ثمانية إسرائيليين. وفي رد سريع قتل الجيش الإسرائيلي خمسة قادة ميدانيين في لجان المقاومة الشعبية، والذين اعتبرتهم إسرائيل مسؤولين عن الغارة عبر الحدود، الأمر الذي أدى إلى هجوم مكثف بالصواريخ من غزة على كل من عسقلان، وبئر السبع، ومناطق أبعد في الداخل الإسرائيلي. ونجحت البطاريتان المدافعتان عن بئر السبع وعسقلان في تدمير عدد ملحوظ من الصواريخ الواردة (لكن لم يجر اعتراض الصواريخ التي استهدفت كلاً من أسدود، وكريات غات، وكريات ملاخي، وبلدات أخرى، لعدم توفر بطاريات إضافية).
وفي 20 آب/أغسطس، أطلق الفلسطينيون أوسع وابل من الصواريخ (رصدت وسائل الإعلام إطلاق 11 دفعة من الصواريخ في وقت واحد) على بئر السبع. وبينما دُمّر العديد من الصواريخ في الجو قبل سقوطه، اخترق صاروخ واحد النظام الدفاعي، وأدى إلى مقتل مدني إسرائيلي وإصابة عشرة آخرين بجروح. وفي اليوم التالي، أُطلق وابل من الصواريخ على ثلاث دفعات على منطقة بئر السبع، ولم يُصب أي مواطن إسرائيلي، لكن صاروخاً سقط على مدرسة خالية من الطلاب تقع ضمن شعاع حماية القبة الحديدية، ويبدو أن هذا الصاروخ نجح في اختراق النظام الدفاعي.
وأعلن الفلسطينيون وقف إطلاق النار مجدداً في 28 آب/أغسطس، لكن اغتيال ناشط في "الجهاد الإسلامي" تسبب باستئناف إطلاق الصواريخ. وعلى الرغم من ذلك، لم يقع مزيد من الضحايا في إسرائيل، إذ جرى اعتراض صواريخ عديدة بنجاح. وعمد الجيش الإسرائيلي إلى ضبط النفس إزاء تواصل عملية إطلاق الصواريخ لأيام عدة. وبحسب وسائل الإعلام، فقد دمرت القبة الحديدية بين 18 و20 صاروخاً خلال هذه الفترة من التصعيد، لكن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية رفضت إعطاء معلومات رسمية عن نسبة النجاح. وصدر البيان الرسمي الوحيد عن السفير الإسرائيلي في واشنطن الذي ذكر أن نسبة النجاح بلغت 85٪.([7])
تقويم الأداء التقني للقبة الحديدية
يبدو أن إنجازات القبة الحديدية في نيسان/أبريل شكلت مفاجأة سارة لكل من الجيش والجمهور في إسرائيل، إلاّ إن أداءها في آب/أغسطس خيّب أمل الجمهور (لا الجيش الإسرائيلي). فالنجاحات الأولية خلقت لدى المواطنين تصوراً غير صحيح لنظام دفاعي محكم، غير قابل للاختراق، لكن الصواريخ القليلة التي نجحت في اختراق النظام الدفاعي خلال آب/أغسطس بددت هذا التصور، وولدت شيئاً من خيبة الأمل.
وفي غياب أرقام رسمية، ينبغي أن يعتمد تقويمنا لأداء المنظومة الدفاعية على أدلة غير مباشرة، فقد أطلق الفلسطينيون صواريخ مختلفة، يتراوح عددها بين 300 و500 صاروخ، على أهداف إسرائيلية قريبة من قطاع غزة وفي الداخل الإسرائيلي خلال جولتي العنف، ولم يُقتل إلاّ إسرائيلي واحد، الأمر الذي يعني أن قدرة الفتك الفعلية للصواريخ في الجولتين بلغت 300 صاروخ لكل إصابة قاتلة.([8])
وناهزت قدرة فتك الصواريخ الغزاوية خلال الهجمات التي تواصلت على مدى ثمانية أعوام (2001 - 2009) على التجمعات السكانية في غلاف غزة، ما معدله 254 صاروخاً لكل إصابة قاتلة. إلاّ إنه عندما سقط الصاروخ رقم 300 في إسرائيل، كانت هذه الأخيرة قد تكبدت أربعة قتلى، وبالتالي فإن المعدل الأولي للصواريخ لكل إصابة قاتلة بلغ 75 صاروخاً، ووصل المعدل الأولي إلى 50 صاروخاً خلال حرب لبنان الثانية سنة 2006 (ثم انخفض فيما بعد إلى 75).([9])
وفي الحالتين، كانت قدرة الفتك أعلى من المعدل بسبب تأخر المواطنين في الامتثال لإرشادات الدفاع المدني، وفي الاحتماء في الملاجىء عند سماع صفارات الإنذار. فأشارت التقارير الإعلامية بشأن تصرف الجمهور خلال جولتي التصعيد لسنة 2011، إلى تشابه نمطي مع مرحلة الهجمات الصاروخية التي دامت ثمانية أعوام، إذ كان قسم كبير من السكان يهمل الاحتماء في الملاجىء. وبالتالي، يمكن مقارنة قدرة الفتك الفعلية لدورتَي الهجمات الصاروخية في نيسان/أبريل، وآب/أغسطس، بقدرة الفتك الأولية للدورتين السابقتين. ومن هذا المنظار، يتبين أن قدرة الفتك الأولية لجولتي التصعيد خلال سنة 2011، والتي بلغت معدل 300 صاروخ لكل إصابة قاتلة، كانت ضعيفة بصورة استثنائية.([10]) وبما أن هذا الأمر لا يمكن أن يُعزى إلى انضباط السكان وامتثالهم لإرشادات الدفاع المدني،([11]) فلا بد إذاً من أن فعالية القبة الحديدية هي التي حدت من قدرة الفتك للصواريخ بنحو الثلثين. ويظهر بالتالي أن القبة الحديدية حققت نجاحاً تقنياً ملحوظاً.
ردات الفعل الإسرائيلية والفلسطينية
قوبلت التقارير الأولية لنجاح القبة الحديدية في نيسان/أبريل 2011 ببعض الشك في إسرائيل، حتى إن بعض المعلقين عزا هذا النجاح إلى الحظ. ومع ذلك، عندما انتهى التصعيد في نيسان/أبريل بدون إصابات إسرائيلية بالأرواح، وتحقق المدى الكامل لقدرات القبة الحديدية، عمّت الفرحة إسرائيل.
طوال هذه الجولة من التصعيد، بدا نمط الهجمات الصاروخية من قطاع غزة مختلفاً بشكل ملحوظ عن الفترة السابقة. إذ تنعمت بلدة سديروت، التي كانت سابقاً نقطة جذب لصواريخ "القسّام"، بهدوء نسبي، فلم يصبها إلاّ صاروخ واحد خلال القتال في نيسان/أبريل. ومن الجلي أن الفلسطينيين آثروا إطلاق صواريخ ذي مدى أطول على مدن أكبر في عمق إسرائيل، الأمر الذي سهّل مهمة القبة الحديدية لجهة التعامل مع أهداف بعيدة المدى.
وفي إبان دورة العنف التالية في آب/أغسطس، حافظ الفلسطينيون على سياستهم الجديدة المتمثلة في استهداف مدن إسرائيلية أكبر حجماً وأبعد مسافة، وأُهملت سديروت مجدداً، ولم يسقط فيها إلاّ صاروخان. ويبدو أن الفلسطينيين اختاروا استهداف مدن محمية بمنظومة القبة الحديدية لامتحان نقاط ضعفها، في محاولة لاختراق النظام الدفاعي، بغية تسجيل "نقاط" وسط جمهورهم عبر تكبيد الإسرائيليين إصابات في الأرواح. إذ إن الوابل الكثيف من الصواريخ الذي انهمر على بئر السبع في 20 آب/أغسطس، والذي كان يمكن أن يصوَّب في اتجاه مدينة أسدود غير المحمية بالمنظومة الدفاعية، والتي تقع على مسافة واحدة من مركز إطلاق الصواريخ، يثبت صدقية هذه النظرية.
وكانت الردود العامة في إسرائيل على الدورة الثانية من التصعيد خافتة أكثر من ذي قبل. ففي هذه المرة، ترافق الثناء على أداء المنظومة الدفاعية مع بعض الانتقاد لها، فكتب المحلل العسكري لجريدة "هآرتس"، رؤوفين بدهتسور، الذي انتقد ردحاً من الزمن أنظمة الدفاع الصاروخية لإسرائيل (وفي العالم)، قائلاً إن مفهوم القبة الحديدية انهار لأنه تبين، من بين أمور أخرى، أن "المدنيين المعرضين للهجمات الصاروخية لم يستطيعوا أن يعيشوا حياتهم اليومية الطبيعية من دون خوف."([12])
وأعرب وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، موشيه أرينز، عن موقف مماثل، فعلى الرغم من إشادته بالإنجاز التقني للمنظومة، إلاّ إنه رأى أن الصواريخ "أجبرت سكان جنوب إسرائيل على الاحتماء في الملاجىء."([13])
وإذا أخذنا بعين الاعتبار، أولاً، تحذير القادة العسكريين الكبار من أن القبة الحديدية لا يمكن أن تكون درعاً محكماً لا يخترق، وثانياً، مناشدة قيادة الجبهة الداخلية المواطنين الاحتماء في أماكن آمنة في المدن المحمية بالقبة الحديدية، يصعب علينا أن نفهم لماذا تبنى كل من بدهتسور وأرينز الفكرة الخاطئة وهي أنه كان من المفترض أن تؤمن القبة الحديدية "حياة يومية طبيعية من دون خوف" تحت نيران الصواريخ.
وواصلت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية الإشادة بالمنظومة بعد أحداث آب/أغسطس، وطالب رؤساء البلديات في جنوب إسرائيل بنشر بطاريات القبة الحديدية في مدنهم لأنها تعزز الشعور بالأمان.([14]) وأمر وزير الدفاع الإسرائيلي، إيهود باراك، بتأمين بطارية ثالثة للجيش الإسرائيلي للدفاع عن أسدود، ووعد بالحصول على بطارية رابعة في نهاية العام. ويبدو أن كلاً من المؤسسة العسكرية والجمهور العريض قوّم أداء منظومة القبة الحديدية خلال جولة القتال في آب/أغسطس على أنه أداء ناجح، على الرغم من الإصابات في بئر السبع. ويبدو أن الجيش الإسرائيلي تغلب على نفوره التاريخي من الدفاع الصاروخي، محتضناً القبة الحديدية بشيء من الحماس.
وامتنع المسؤولون الفلسطينيون من التعليق على دخول نظام دفاع فاعل معترك الميدان. لكن يمكن استشعار المزاج العام في قطاع غزة من خلال التقارير التي تنشرها وسائل الإعلام بشأن ردات فعل سكان القطاع، إذ نُقل عن فلسطيني من بيت لهيا قوله: "إن سكان شمال قطاع غزة يرون بوضوح تأثير القبة الحديدية، إذ لم تكن يوماً صواريخنا عديمة النفع كما هي اليوم."([15])
انعكاسات استراتيجية
بعد شهرين على انتهاء جولة القتال التي بدأت في نيسان/أبريل 2011، أعلن ضابط كبير في سلاح الجو الإسرائيلي أن "النجاح الذي سجلته منظومة القبة الحديدية نفى حاجة الجيش الإسرائيلي إلى تنفيذ عملية عسكرية واسعة ضد قطاع غزة لوقف إطلاق الصواريخ."([16]) واعتبر أن الأداء الناجح للمنظومة الدفاعية منح القيادة السياسية حرية أوسع في اتخاذ القرارات، وشكل بديلاً من تنفيذ عملية هجومية واسعة، فلم يحقق العدو أهدافه، وشعر بالإحباط، واضطر بالتالي إلى وقف إطلاق النار. واستنتج الجيش الإسرائيلي، على ما يبدو، أن سلاحه الدفاعي الفاعل الجديد حقق أهدافه الاستراتيجية، وهي: حماية الأرواح والأملاك الإسرائيلية، وإعطاء مجال مناورة جديد للقيادة السياسية، ومنح الجيش الإسرائيلي وقتاً إضافياً للتحضير لعمليات عسكرية هجومية. وبحسب رأي الضابط المذكور، هناك تأثير ردعي للمنظومة الجديدة متمثل في شعور العدو بالإحباط، الأمر الذي دفعه إلى وقف إطلاق النار.
من المبكر الحكم على مدى صوابية هذا التقويم. فقد نجحت القبة الحديدية حقاً في إنقاذ الأرواح وحماية الأملاك، ويمكن القول بإنصاف إن العدد المنخفض للضحايا المدنيين مكّن القيادة السياسية من ضبط النفس، والتقليل من الغارات الجوية على قطاع غزة، وهو ما ساهم في الحد من الأضرار الجانبية، وفي احتواء الموقف.
لكن، هل كان في وسع إسرائيل أن تغامر في شن هجوم أرضي واسع على قطاع غزة في الوقت الذي أدى فيه انهيار نظام مبارك إلى توتير العلاقات مع مصر، وفي الوقت الذي كانت تخوض إسرائيل معركة دبلوماسية ضد الطلب الفلسطيني المتمثل في الاعتراف بفلسطين دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة، وفي الوقت الذي ما زالت عملية الرصاص المصبوب ماثلة في الذهن؟
أمّا بالنسبة إلى التأثير الردعي للقبة الحديدية، فهو لم يمنع الفصائل الفلسطينية المسلحة من شن هجمات صاروخية واسعة النطاق في آب/أغسطس. وفي الواقع، لعل منظومة القبة الحديدية استفزّت هذه الفصائل لتكثيف قوتها النارية بهدف اختراق النظام الدفاعي الجديد.
وهناك درس إضافي يمكن استخلاصه من جولتي التصعيد الأخيرتين، ألا وهو السباق بين التسلح الهجومي والتسلح الدفاعي. فقد اقتصر الجدل الداخلي الحيوي بشأن القبة الحديدية، على قدرة المنظومة على حماية سديروت والتجمعات السكنية في غلاف غزة، مهملاً بالتالي الخطر المحدق بالمدن الإسرائيلية الأكبر حجماً والأبعد مسافة.
ومن الواضح الآن أن مهندسي برنامج المنظومة كانوا محقين في تصميمه لاعتراض الصواريخ قصيرة المدى وبعيدة المدى في آن واحد.
في المحصلة، لم يصدر الحكم بعد على الانعكاسات الشاملة للدفاع الفاعل في ميدان الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، والمطلوب جمع معطيات إضافية. مع ذلك، وبما أن منظومة القبة الحديدية أنقذت أرواحاً إسرائيلية من مدنيين وجنود، وساعدت القيادة السياسية في احتواء القتال، وهذا واضح وجلي، فهي قدمت مساهمة ملحوظة في تعزيز أمن إسرائيل.
* المصدر: مركز بيغن-السادات للدراسات الاستراتيجية (BESA)، ورقة بحث رقم 151، 24/10/2011.
- الترجمة عن الإنكليزية ليولا البطل.
(1) عاموس هارئيل، "وزير الدفاع: نظام دفاع صاروخي سيحمي سديروت في غضون عامين ونصف العام"، "هآرتس"، 24/12/2007.
(2) أنشيل بفيفر، "أوفير شوهام، في معادلة الكلفة والفعالية، هل من المجدي إطلاق صاروخ اعتراضي كلفته 100 ألف شيكل؟"، "هآرتس"، 11/4/2011.
(3) نوعام بركان، "التحكم بالقبة الحديدية"، "يديعوت أحرونوت"، 11/4/2011.
(4) المصدر نفسه.
(6) المصدر نفسه.
(7) إيلي ليك، "نظام القبة الحديدية الدفاعي الإسرائيلي يصيب 85٪ من الأهداف"، "واشنطن بوست"، 29/8/2011.
(8) إن قدرة الفتك lethality عكسية لمعدل الصواريخ لكل إصابة قاتلة rockets per fatality (RPF). وإن معدل RPF عالٍ معناه أن مزيداً من الصواريخ مطلوب للتسبب بإصابة قاتلة واحدة، والعكس بالعكس.
(9) عوزي روبين، "التهديد الصاروخي من قطاع غزة: من التحرش إلى التهديد الاستراتيجي"، منشورات BESA، عدد 87، ص 17، رسم بياني رقم 3 (بالعبرية).
(10) بحسب الموقع الإلكتروني لوزارة الخارجية الإسرائيلية، فقد بلغ عدد الصواريخ وقذائف الهاون التي سقطت في إسرائيل 65 صاروخاً وقذيفة، في نيسان/أبريل 2011، كما بلغ عدد الصواريخ والقذائف التي أصابت إسرائيل 149 في آب/أغسطس 2011، أي إن المجموع هو 214 صاروخاً وقذيفة هاون. انظر:
http://www.mfa.gov.il/MFA/Terrorism. من غير الواضح ما إذا كان هذا المصدر أكثر صدقية من وسائل الإعلام. وفي كافة الأحوال، ورغم هذا التقدير المنخفض لعدد الصواريخ، لا تزال الاستنتاجات الرئيسية صالحة.
(11) أهمل ضحايا الصاروخ الذي أصاب بئر السبع الاحتماء في الملجأ في ليل 20 آب/ أغسطس؛ وهذا ما أكده "متطوع ZAKA: لم يكن القتيل والجرحى محميين في ملاجىء آمنة"، انظر:
(12) رؤفين بداتسور، "القبة المنهارة"، "هآرتس"، 26/8/2011.
(13) موشيه آرنس، "الاعتزاز المنقوص"، "هآرتس"، 31/8/2011.
(14) أعلن رئيس بلدية أسدود، يحيئيل لاسري، في مقابلة مع وكالة "والا" للأنباء، أن "نشر القبة الحديدة خبر جيد لسكان أسدود لأنه يعزز شعورهم بالأمان"، وكالة "والا"، 31/8/2011.
(15) أميرة هاس، "في قطاع غزة يقيمون مجالس عزاء لضحايا الغارات الإسرائيلية، لكن ليس لمنفذ العملية على طريق إيلات"، "هآرتس"، 25/8/2011.
(16) عاموس هارئيل، "ضابط كبير في سلاح الجو: نجاح القبة الحديدية نفى حاجة الجيش الإسرائيلي إلى تنفيذ عملية واسعة في قطاع غزة"، "هآرتس"، 26/7/2011.