- تتعرض منطقة الشرق الأوسط، منذ بداية العقد المنصرم، وخلال السنوات الأربع الأخيرة على وجه التحديد، إلى "هزّة أرضية" عنيفة تغيّر وجه المنطقة برمتها لسنوات عديدة قادمة. لهذه الهزّة مصادر عدة: احتلال العراق من جانب الولايات المتحدة في العام 2003، والذي أحدث تغييراً في البنية السياسية للدولة وفي قدراتها العسكرية في المدى المنظور; الهزّة السياسية - الاجتماعية التي تتعرض لها بعض الأنظمة في العالم العربي، والتي أطلق عليها في بداياتها اسم "الربيع العربي"; تعاظم قوة بعض الحركات الإسلامية المتطرفة في العالم العربي; ظهور تنظيمات إرهابية من نوع جديد في المنطقة، بدأ بظهور "القاعدة" وبلغ ذروته بظهور "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام" ("داعش").
- تتجسد خطورة الهزة في سلسلة من التطورات غير المسبوقة. خمسة أنظمة عربية (في العراق، تونس، مصر، ليبيا واليمن) تم إسقاطها من خلال انتفاضات شعبية داخلية، أو بتدخل خارجي، فيما يواجه نظام آخر - في سورية - تهديداً خطيراً. وحتى الآن، لم تقم أنظمة قوية ومستقرة بدلاً من تلك التي أسقطت. بالعكس تماماً، فقد نشأت في الشرق الأوسط وعلى هوامشه أنظمة ضعيفة لا تملك أية سيطرة على أجزاء من دولها، فيما سيطرت على هذه الأجزاء تنظيمات إرهابية ومليشيات مسلحة تشكل تهديداً خطيراً على سكان دولها وعلى جاراتها، على حد سواء. الحروب الأهلية الدائرة في العراق وسورية، بوجه أساسي، وفي ليبيا واليمن بدرجة أقل، أوقعت مئات الآلاف من القتلى، غالبيتهم من المواطنين، وحوّلت ملايين أخرى إلى لاجئين، هُجّر بعضهم من بيوتهم وتشردوا داخل دولهم بينما فرّ آخرون إلى دول مجاورة.
- يصعب القول، بعد أربع سنوات من الهزة، إن ثورة إيجابية قد حدثت في طبيعة وماهية الأنظمة العربية. ظهر لاعبون جدد على المسرح السياسي - الجماهير - في الشوارع والميادين - لم يكن صوتها مسموعاً تقريباً من قبل، غير أن ظهورها لم يسهم إلا قليلاً فقط في توسيع السيرورات الديمقراطية وتعميقها في الدول العربية، التي أثبتت أنها لا تزال غير ناضجة وغير مهيأة بعد للتحول الديمقراطي الشامل. من جهة أخرى، بدا في المرحلة الأولى من هذه الفترة أن الإسلام السياسي يحتل لنفسه موقعاً مركزياً في العالم العربي، وخاصة بعد بروز "الإخوان المسلمين" كقوة صاعدة في مصر ونجاحهم في الوصول إلى سدة الحكم في الدولة في منتصف العام 2012، من خلال انتخابات ديمقراطية. لكن الجيش طردهم من السلطة بعد مضي سنة تقريباً. صحيح أن هذا التنظيم بقي عنصراً وازناً خارج منظومة السلطة السياسية المصرية، لكن طرده منها عاد بالضرر على الإسلام السياسي في العالم العربي بأسره، خارج مصر أيضاً، ولا يزال منكباً على فحص خياراته المستقبلية.
- عمقت الهزة التي تعصف بالدول العربية، أكثر فأكثر، من ضعف العالم العربي، المتواصل منذ سنوات. فمنذ السبعينات، يفتقر العالم العربي إلى قائد وقيادة ولا يستطيع التوحّد لمواجهة المشكلات المركزية التي تشغله، بصورة مشتركة. وحلّت محل القيادات العربية في تحديد الأجندة الإقليمية دول غير عربية: إيران، تركيا، وإسرائيل بصورة جزئية. وقد تفاقم ضعف المعسكر العربي جراء كون العراق وسورية، وكلتاهما دولتان أساسيتان في المنطقة في حالة من الشلل حالياً، علاوة على أن مصر، زعيمة العالم العربي، غارقة في مشاكلها الداخلية. وإلى جانب هذا كله، فقدت جيوش عربية - وخاصة في العراق، سورية وليبيا ـأجزاء كبيرة من قدراتها العسكرية، فيما وقع بعض منظومات الأسلحة التي كانت بحوزتها في أيدي تنظيمات جهادية، وهي تستخدمها ضد خصومها.
- لم تصب الأزمات الداخلية التي تعصف ببعض الدول العربية، حتى الآن، الوضع الداخلي في إيران بسوء، غير أن إيران تأثرت بها في جوانب مختلفة، وخصوصاً بما يجري في الدول الأقرب إليها. فقد واجه نظام بشار الأسد، حليف إيران الأساسي في المنطقة، خطر السقوط مما اضطر إيران إلى إرسال مستشارين من "الحرس الثوري" ومعونات عسكرية واقتصادية إلى سورية لدعمه. أما الحرب الأهلية في العراق، والمتواصلة منذ العام 2003، فقد فتحت أمام إيران فرصة تاريخية لأن تصبح العامل الخارجي الأقوى تأثيرا في العراق، وخاصة بين الشيعة. ولكن من ناحية أُخرى، يمثل ظهور "الدولة الإسلامية" خطراً يهدد مواقع إيران في العراق وسورية ولبنان ويضطر النظام الإيراني إلى مواجهة هذا التهديد، رغم أنه حوّل إيران إلى عامل هام وحاسم في استقرار الوضع الداخلي في هذه الدول. وفي ناحية أخرى من المنطقة ـانهيار السلطة في اليمن وظهور الحوثيين (جماعة من الطائفة الزيدية المنتمية إلى الشيعة) كعامل مركزي فيها يصبّان في مصلحة إيران التي تقيم علاقات وثيقة مع الحوثيين منذ زمن طويل، ويساعدانها على احتلال موقع مؤثر عند بوابة البحر الأحمر وإلى الجنوب من المملكة العربية السعودية.
- دخلت الولايات المتحدة إلى هذا الفراغ الناشئ في المنطقة في محاولة للجم ومحاصرة التهديدات والمخاطر المتشكلة، سواء عليها أو على حلفائها، وذلك إبان إدارة بوش الابن، بوجه خاص، ولكن اليوم أيضاً، في عهد رئيس يتطلع إلى تخلص الولايات المتحدة من دور "شرطي العالم". وتتجسد هذه المحاولة في تدخل الولايات المتحدة العسكري في أفغانستان، وفي قرارها منع إيران من حيازة سلاح نووي وفي جهودها المتواصلة للدفع نحو سقوط نظام بشار الأسد وإلحاق الهزيمة بـ"الدولة الإسلامية". لكن الولايات المتحدة في العام 2015 ليست هي الدولة العظمى التي كانت في التسعينات ومطلع العقد المنصرم، حين بقيت الدولة العظمى الوحيدة في العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فتجرأت على القيام بعمليات عسكرية واسعة النطاق في الشرق الأوسط. أمّا التحديات التي اضطرت إلى مواجهتها منذ بداية القرن الحالي فقد أظهرت مدى محدودية قوتها: تدخلها العسكري في أفغانستان وفي العراق، الذي جعل البلدين، في حالة من الفوضى العارمة بثمن سقوط آلاف القتلى الأميركيين، وما تلاقيه من مصاعب في مواجهة بعض التحديات والمشكلات المركزية في المنطقة، مثل التهديد النووي الإيراني، والقضية الفلسطينية، وظهور "الدولة الإسلامية"، بالإضافة إلى ما تتعرض له من انتقادات من جانب حليفاتها في الشرق الأوسط وفي أوروبا ـهذا كله أضرّ بمكانتها في الشرق الأوسط وقلّص من قدرتها على قيادة خطوات من شأنها التخفيف من حدة الهزات وتقليص منابع التوتر في المنطقة. ومع ذلك، ينبغي الإشارة إلى أنه على الرغم من هذه المصاعب، لا يوجد بديل من الولايات المتحدة في الشرق الأوسط مواز لها في القوة والوزن، وثمة هزات جديدة تدفع دولاً عربية وأوروبية نحو التوجه إليها أملاً في أن تقود هي معالجة الأزمة.
- إن المسائل الإقليمية البالغة الأهمية التي تشكل محور الهزة الحالية في الشرق الأوسط هي نتاج سيرورات طويلة السنوات. وسنتطرق في ما يلي إلى دلالات هذه السيرورات وإسقاطاتها، وفي مركزها ضعف بعض الأنظمة العربية، بما فيها أنظمة مركزية كالتي في سورية والعراق، وفي مقابلها ظهور وصعود لاعبين خارجيين يتمتعون بقوة تأثير غير مسبوقة. إن القوة الأساسية التي تقود هؤلاء اللاعبين اليوم هي التنظيمات الجهادية، وعلى رأسها "الدولة الإسلامية"، التي تُعتبر حالياً التهديد الأساسي النابع من الشرق الأوسط، والذي لا يرفع علامات استفهام فوق مستقبل بعض الأنظمة في المنطقة فحسب، بل وأيضاً فوق مستقبل وحدة وسلامة أراضي بعض دول المنطقة. ويستوجب هذا التهديد، كذلك، إعادة النظر في طرق ووسائل محاربة هذه التنظيمات وفي قدرة الولايات المتحدة وحلفائها على صدّ التهديدات والمخاطر الجديدة المستجدة في الشرق الأوسط، وقدرتها على التأثير في جدول أعمال المنطقة، مجريات الأحداث فيها وحفظ استقرارها.
خلفية التقلبات الراهنة في العالم العربي
- لم تكن المشكلات المتصلة بالأداء السوسيو - سياسي التي تميز جزءاً كبيراً من العالم العربي منذ بداية القرن الـ 21، وليست هي الآن أيضاً، فريدة أو مقتصرة على هذه المنطقة من العالم، إنما لا شك في أنها مترسخة وأشد عنفاً في هذه المنطقة عما هي عليه في أية منطقة أخرى. ويشكل هذا الإنحلال في الدول العربية المشار إليها، بمعان معينة، استمراراً تاريخياً لانهيار شرعية وسلطة الإمبراطورية العثمانية التي وصفها كثيرون، خلال القرن الـ 19، بأنها "رجل أوروبا المريض".
- يمكننا اقتفاء آثار هذه المشكلات وتتبعها حتى الوصول إلى عجز حركات الإصلاح الإسلامية عن مواجهة تحديات الحداثة من خلال صيغة توازِن، على نحو مُرْضٍ، بين التراث الثقافي والحاجة إلى التغيير، أي بين الأصالة والتحديث. ذلك أن فشل حملات الإصلاح في الامبراطورية العثمانية في تحقيق هذا الهدف ولّد وكرّس صراعات هوياتية تركت بصماتها على كل واحد من الأقاليم التي كانت تحت سيطرتها في السابق، بما فيها دول البلقان وتركيا ذاتها (وهذا يتكرر الآن في جنوب آسيا، أيضاً). لكن نتائجها الأشد وطأة تظهر، على نحو أكثر وضوحاً وملموسية، في دول الشرق الأوسط التي يقيم فيها العرب، تحديداً. وقد يكون هذا ناجماً عن العلاقات التاريخية الفريدة بين الهوية الإثنية/ القومية والهوية الدينية في حال العرب: فبينما تبنى الآخرون الإسلام، أو فُرض عليهم، كان العرب هم الذين أنشأوا الإسلام. وأياً كان السبب، فقد كانت نتيجة أزمة الهوية هذه انفجار ونشوب النزعات الانفصالية والفئوية، وانعدام التسامح، والعنف، وانهيار الدول، بما رافق ذلك من إسقاطات سلبية على المنطقة برمّتها، بل على ما يتعداها أيضاً. هذه التعبيرات عن نزاعات تتمحور حول الهوية ليست نتاجاً لما يسمى "الربيع العربي" فقط، بل إنها تشكل جزءاً لا يتجزأ من تاريخ الشرق الأوسط السياسي في العصر الحديث، الذي يزخر بفصول مؤسفة من التمييز والاضطهاد، العنيفين أحياناً، بحق مجموعات سكانية تتمايز، في أي من المركّبات الهامة، عن السمة الهوياتية السائدة في الكيان السياسي.
- ومع هذا، لن يكون دقيقاً الادعاء بأن انتشار التمييز والاضطهاد هو نتيجة فرعية للأنظمة الاستبدادية فحسب. صحيح أن الأنظمة الاستبدادية كانت تميل دائماً، في غالبية المنظومات السياسية التي ظهرت في الشرق الأوسط خلال القرن الـ20، إلى التمييز السلبي ضد أقليات مختلفة، وإلى اضطهادها والاعتداء عليها. ولكن الوهن، أو الشرخ، في غلاف "الدولة المتصلبة" كان هو الذي أدى إلى بعض المواجهات الفئوية الأكثر شراسة (كما حصل في يوغسلافيا السابقة).
- ليس هنالك سبب واحد لتفكك الدول في الشرق الأوسط. في الحالات الأكثر أهمية كان ذلك نتيجة لنزاعات مع قوى أجنبية و/ أو لتدخل أجنبي، كما حصل في العراق، في ليبيا وحتى في الامبراطورية العثمانية نفسها. وفي حالات أخرى، كان ذلك نتيجة عيوب جوهرية في نمط إنشاء الدولة، كما حصل في العراق، وكما قد يدعي كثيرون، في سورية ولبنان أيضاً، (وكذلك في باكستان). في حالات معينة، كانت خطوات التحديث التي بادر إليها الحكام أنفسهم ـلإيمانهم بأن عليهم تعزيز ورفع مستوى الانتعاش في دولهم ـهي التي عزّزت، في الوقت ذاته، غضب أو آمال مجموعات محلية معينة. مثلاً، عملية التحديث في إطار "الانقلاب الأبيض" الذي قاده الشاه الإيراني في بداية الستينيات من القرن الـ 20 أدت إلى نشوء معارضة إسلامية لنظامه. وكان ثمة من ادعى بأن تطوراً مماثلاً حصل في مصر إثر المحاولات - المترددة، وقد يقول البعض إن نواياها لم تكن صادقة - التي بذلها أنور السادات وحسني مبارك، طوال عقد من الزمن، للتجاوب مع الضغوط الغربية من أجل اللبرلة والدمقرطة.
- كان رد الفعل المعارض لتلك المحاولات، في كلتا الحالتين، عاملاً مؤثراً في إضعاف قوة الدولة وتمكين القوى الإسلامية من التغلب على العناصر الأخرى التي عارضت النظام ـلفترة وجيزة في مصر ولفترة أطول بكثير، وأعمق أثراً، في إيران (رغم أن التاريخ لم يصدر بعد حكمه النهائي هناك).
- يبدو مفهوماً أن الأعراض المرضية الأكثر أهمية لغياب الوضوح بشأن الهوية هي أشد بروزاً في المجتمعات الأكثر تغايُراً من ناحية ديمغرافية، أي في الأماكن التي لا تزال الهويات الإثنية، الدينية والقبلية قائمة فيها، وتتفوق على أي شعور جامع يتصل بالثقافة المدنية أو المواطنة المشتركة. وهذا هو مصدر شراسة المواجهات في العراق، وسورية، وليبيا، ولبنان (في الماضي، وربما في المستقبل أيضاً) وفي اليمن. ثمة إشكالية عالمية يتعين على أي مجتمع متغاير مواجهتها والتصدي لها، لكن يبدو أنها تشكل، في الوقت الراهن، تحدياً أكبر في المجتمعات ذات الأغلبية الإسلامية، ولو لمجرد أن المزاوجة الحتمية بين الدين والدولة تحظى، في الإسلام، بتفسير أكثر وضوحاً عما هو في ديانات كبيرة أخرى. لا يوجد أي أمر يقضي بإعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله، أو أية قاعدة فكرية واسعة لفكرة سيادة الإنسان الفرد، المختلفة عن سيادة الأمّة. ومن شأن هذه الحقيقة أنها تجعل العقبات الماثلة أمام رواد الإصلاح ومنفّذيه أكثر تعقيداً، فيجد هؤلاء أنفسهم في موقف دفاعي من ناحية أيديولوجية، بل اعتذاريّ، وهم يضطرون إلى الادعاء بأن الإصلاحات التي يدفعون إليها تنسجم، إلى حد ما، مع الإسلام، وبأنها ليست صحيحة منطقياً وشرعية ومطلوبة فقط من الناحية الجوهرية، بقطع النظر عن علاقتها بالتعاليم الإسلامية.
- لن يكون متيسراً بلوغ حل ثابت ودائم للصراعات التي تزعزع العالم العربي راهناً من غير وضع صيغة جديدة وجذرية للعلاقات ما بين الدين والمجتمع، بين المجتمع والدولة وبين الدولة والفرد، أي ـمن دون عملية داخلية معمقة تستهدف توسيع الثقافة والإصلاح.
- وبالنظر إلى تاريخ العمليات الإصلاحية في الإسلام خلال القرنين الماضيين، فإن فرص حدوث هذا في غضون فترة زمنية معقولة ليست معدومة، لكنها غير واعدة أيضاً. وعلى أية حال، فإن إحداث تغيير أيديولوجي بهذا الحجم يبدو أكبر من قدرة أية أوساط خارجية، مهما كانت نواياها طيبة وصادقة.
لاعبون غير دولتيّين في الشرق الأوسط
- عاد موضوع الإرهاب ليبرز مجدداً، خلال السنة الأخيرة، بمفهومه الواسع، في منظومة العلاقات الدولية.
- ويتأتى هذا البروز، بوجه أساسي، عن صعود تنظيم "الدولة الإسلامية" (المعروف، اختصاراً، بـ "داعش") إلى صدارة جدول الأعمال العام عالمياً. وفي المقابل، ينشط في أنحاء الشرق الأوسط المختلفة لاعبون غير دولتيّين آخرون يشكلون جزءاً لا يتجزأ من تيار الجهاد العالمي الفكري.
- وتستغل هذه التنظيمات الهزة الإقليمية الحالية لتعزيز مواقعها ومكانتها وتهدد استقرار أنظمة حاكمة في عدد من دول الشرق الأوسط. ولفهم حجم التهديد الذي تمثله هذه التنظيمات، يتعين التمييز بينها بغية تحديد ملامحها ومميزاتها ومستوى الخطر الذي يمثله كل منها على حدة، مع توضيح منظومة العلاقات، والخصومات أيضاً، فيما بينها.
- مصدر التهديد المركزي على استقرار الشرق الأوسط، والذي قد يتجاوز تأثيره المستوى الإقليمي إلى المستوى الدولي، هو تنظيم "الدولة الإسلامية"ـ وهو "مخلوق هجين" نشأ وبدأ نشاطه كتنظيم غير دولتي ونما بفضل نجاحاته في احتلال مناطق في العراق وسورية وإزالة الحدود بينهما، فضلاً عن سيطرته على منطقة جغرافية واسعة وإعلانه "دولة الخلافة الإسلامية" في المناطق التي سيطر عليها. في وضعه الحالي يمكن تعريف تنظيم "الدولة الإسلامية" في المناطق الخاضعة لسيطرته بأنه كيان سياسي إسلامي يضطلع بمهام الدولة تجاه السكان المقيمين في نطاق سيطرته. وقد فرض نفسه بكونه التنظيم الأقوى والأشد سيطرة في العراق، وهو يسعى إلى تشكيل تهديد مباشر حتى على العاصمة، بغداد، وعلى النظام العراقي بمجمله. وقد استولى التنظيم على وسائل قتالية وموارد مختلفة في المناطق التي وقعت في قبضته واستطاع مراكمة ممتلكات اقتصادية هامة وكبيرة. وهو يشكل، اليوم، تهديداً واضحاً على وحدة العراق وسلامة أراضيه، والنجاحات التي حققها أوصلت الدولة إلى حالة من التجزئة الفعلية. وفي سورية، أيضاً، نجح هذا التنظيم في السيطرة على عدد من المناطق، وخاصة في الرقة ودير الزور، بل وهدد حتى باحتلال بلدة كوباني [عين العرب]، حيث تعيش أقلية كردية كبيرة، والتي يعني احتلالُها السيطرة، أيضاً، على جزء من المنطقة الحدودية بين سورية وتركيا. ويسعى التنظيم إلى الاستيلاء على مناطق أخرى في سورية والدفع نحو تجزئتها، مثلما حصل في العراق.
- وإلى جانب تنظيم "الدولة الإسلامية"، ينشط في سورية أيضاً عدد كبير من التنظيمات غير الدولتيّة المعارضة، تسعى إلى إسقاط نظام الأسد. وتتوحد هذه التنظيمات في جبهتين مركزيتين: "الجبهة العلمانية" ـالجيش السوري الحر ـ و"الجبهة الإسلامية". وبالإضافة إليهما، ينشط في سورية، أيضاً، معسكر جهادي ـسلَفيّ يبرز فيه، إلى جانب "الدولة الإسلامية"، تنظيم "جبهة النصرة" الذي يمثل امتداداً لتنظيم "القاعدة" في سورية، وهو يحاول التقليل من أهمية هذه الحقيقة، ويتركز نشاطه الحالي في السعي إلى إسقاط نظام الأسد، من خلال التعاون الخاص مع "الجيش السوري الحر" وتنظيمات من "الجبهة الإسلامية".
- امتدت المواجهة في سورية أيضاً إلى داخل الأراضي اللبنانية، وأصبحت منظمة "حزب الله" وقوات "الحرس الثوري" الإيراني، جراء تدخلها في المواجهة، هدفاً مركزياً لهجمات تنظيمات الجهاد السلفي من سورية ولبنان، على حد سواء. ويقف مقاتلو "جبهة النصرة" و"الدولة الإسلامية" في طليعة الناشطين ضد "حزب الله" والحرس الثوري، ويساندهم في ذلك مقاتلو "كتائب عبد الله عزام" ومجموعات جهادية سلفية أخرى تنشط في مخيم نهر البارد، في شمال الدولة اللبنانية، وفي مخيم عين الحلوة، في جنوبها. وفي أعقاب الفتوى التي أصدرها الشيخ السنّي أبو منذر الشنقيطي، الذي يشجع العمليات الانتحارية ضد "حزب الله"، نفّذت هذه التنظيمات، خلال العام 2014، 13 عملية انتحارية ضد معاقل شيعية محسوبة على "حزب الله" في منطقتي البقاع وبيروت.
- وبرزت، في دول شرق أوسطية أخرى أيضاً، نشاطات تنظيمات غير دولتيّة أخرى، ازدادت قوتها خلال السنة الأخيرة. ففي مصر، مثلاً، برز بشكل خاص نشاط تنظيم "أنصار بيت المقدس"، الذي أقيم في أواخر العام 2011 على خلفية الهزة التي اجتاحت مصر مع سقوط نظام مبارك، واشتد في أعقاب طرد "الإخوان المسلمين" من الحكم. فقد صعّد هذا التنظيم كثيراً خلال السنة الأخيرة نشاطه الإرهابي في شبه جزيرة سيناء، مع تركيز خاص على عناصر وقوى الأمن والجيش المصرية واستخدام أشكال متنوعة من العمل بضمنها العمليات الانتحارية، وتخريب أنابيب النفط والغاز، ونصب الكمائن والاغتيالات التي استهدفت جنوداً وقادة كباراً في الجيش والشرطة. وإلى جانب ذلك، نفّذ هذا التنظيم، سوية مع تنظيمات أخرى مثل "أجناد مصر" وسواه، هجمات في قلب القاهرة والإسماعيلية. وفي أواخر العام 2014، أقسم تنظيم "أنصار بيت المقدس" يمين الولاء لـ"الدولة الإسلامية"، ومنحه دعمه (الذي كان من نصيب "القاعدة"، حتى تلك اللحظة) ووثّق علاقته معه بصورة لافتة. خرأخرى
- وبرز، في هذا الإطار أيضاً، عمق التعاون ما بين "أنصار بيت المقدس" وتنظيمات جهادية سلفية في غزة، مثل "شورى المجاهدين في أكناف بيت المقدس"، وإلى جانبه تنظيم جديد أعلن عن تأسيسه هذا العام تحت اسم "الدولة الإسلامية في غزة". وقد لعبت تنظيمات الجهاد السلفي في غزة دوراً فاعلاً، وإن لم يكن مركزياً، في محاربة قوات الجيش الإسرائيلي إبان عملية "الجرف الصامد" وأطلقت بضع عشرات من القذائف الصاروخية نحو الأراضي الإسرائيلية. وأطلق تنظيم "أنصار بيت المقدس"، هو الآخر، عدداً من القذائف الصاروخية باتجاه حدود إسرائيل، بل أرسل أيضاً فدائياً انتحارياً إلى معبر "كرم أبي سالم" عند الحدود بين إسرائيل وغزة، تم إلقاء القبض عليه قبل تنفيذ مأربه. هذا المنحى من التعاون، وخاصة التعاطف مع عمليات تنظيم "الدولة الإسلامية" في مصر وغزة على حد سواء، قد يشكل محوراً بارزاً للنشاط الإرهابي في المستقبل القريب.
- لم تُسجّل في الأردن خلال السنة المنصرمة أية عمليات إرهابية من جانب عناصر الجهاد العالمي. لكن الهزات السياسية في الشرق الأوسط منذ بدء "الربيع العربي"، وخاصة عمليات "الدولة الإسلامية" في المنطقة، والتي ألقت على كاهل المملكة عبئاً تمثل في ما يزيد عن مليون ونصف المليون لاجئ من العراق وسورية، إلى جانب إذكاء الغليان الاجتماعي في داخل الأردن، والذي تجسد، ضمن أشياء أخرى، في مظاهرات التضامن والتعاطف مع "الدولة الإسلامية" والجهاد العالمي - هذا كله، قد يؤدي إلى وقوع أعمال عنف وعمليات إرهابية في داخل المملكة، ومنها إلى الخارج أيضاً. ويمثل اختراق الأردن أحد أهداف "الدولة الإسلامية" المعلَنة، وتوجد خلايا تابعة لهذا التنظيم في بضع مناطق من الأردن، مثل معان، والزرقاء وإربد. وعليه، فمن شأن هذا الالتقاء بين الأيديولوجيا المتطرفة غير المتساهلة والتململ الجماهيري أن ينعكس في عمليات إرهابية مستقبلية، بالرغم من الفاعلية العالية التي تتمتع بها قوى الأمن الأردنية.
- وإلى جانب التصعيد الكبير في نشاط تنظيمات الجهاد العالمي في الشرق الأوسط، بل في خارجه أيضاً، وخاصة جراء تأثير "الدولة الإسلامية" المتنامي في أنحاء مختلفة من العالم، توجد بين التنظيمات خلافات وخصومات حادة، أيديولوجية وتنظيمية على حد سواء، يعود أصلها إلى الخلاف الذي نشب بين زعيم "الدولة الإسلامية" من جهة، وزعيم "القاعدة" وحلفائه من الجهة الأخرى. ومن المتوقع أن يكون لنتائج هذه المنافسة تأثير واضح على نمط أنشطة هذه التنظيمات باتجاه تعزيز إصرارها على استثمار أعمالها الإرهابية في الصراع الداخلي للفوز بدعم المؤيدين والمتعاطفين. وفي المقابل، قد يشكل الخلاف الداخلي في جبهة الحركات الجهادية أداة هامة وفعالة في المعركة من أجل كبح التنظيمات المختلفة وإضعافها.
- باختصار، يبدو أنه من المتوقع أن تستمر التنظيمات غير الدولتية في الشرق الأوسط، خلال السنة المقبلة على الأقل، في كونها عاملاً تحريضياً مركزياً في المحاولات لزعزعة أنظمة الحكم القائمة في المنطقة. ومن المتوقع أن تواصل التنظيمات المحسوبة على الجهاد العالمي، سواء كانت في معسكر "الدولة الإسلامية" أو في معسكر "القاعدة" وشركائها، العمل من أجل تغيير الوضع الإقليمي القائم منذ اتفاقية سايكس بيكو، سعياً منها إلى تحقيق حلمها ومشروعها في إقامة خلافة إسلامية في المشرق العربي. ومن المتوقع، أيضاً، أن تؤدي المعركة التي أعلنها تحالف يضم أكثر من 60 دولة غربية وعربية ضد "الدولة الإسلامية"، في النصف الثاني من العام 2014، إلى تعزيز قدرة الأنظمة الحاكمة في سورية، والأردن، وليبيا، ولبنان والعراق، وحتى في مصر، على الصمود في وجه المعركة المتصاعدة التي تشنها تنظيمات الجهاد السلفي.
- وسيؤثر نجاح هذه المعركة، أو فشلها، تأثيراً حاسماً، على صورة الشرق الأوسط المستقبلية فيما يتجاوز السنة المقبلة بكثير.
- ويتوقع للتهديد، المباشر وغير المباشر، الذي تشكله على إسرائيل عناصر الجهاد السلفي الناشطة من داخل حدودها أو من خارجها، أن يزداد. فبالرغم من تركيز "جبهة النصرة"، "القاعدة" و"الدولة الإسلامية" على القتال ضد نظام الأسد بغية إسقاطه، إلا أنه إذا لم يتحقق الحسم في سورية في غضون السنة القادمة بحيث تنشأ فيها حالة من التعادل العسكري والجمود، فقد تصبح إسرائيل هدفاً للعمليات العسكرية انطلاقا من الأراضي السورية، وربما اللبنانية أيضاًـ سواء كردّ على هجمات التحالف ضد التنظيمات الجهادية أو لاعتبار هذه التنظيمات إسرائيل عدواً مُعلَنا يقدّم الدعم لقوات التحالف. وفي المقابل، يتوقع أن يقدم تنظيم "الدولة الإسلامية" دعماً متنوعاً لشركائه في شبه جزيرة سيناء، وفي غزة والأردن، فضلاً عن تشجيعهم على تصعيد عملياتهم ضد إسرائيل. وإضافة إلى هذا، فحيال العودة المتوقعة لـ"خريجي" مناطق القتال ومعسكرات التدريب الخاضعة لسيطرة "الدولة الإسلامية"، "القاعدة" وشركائهما في الشرق الأوسط إلى دولهم وأوطانهم الأصلية، قد تتسع وتتزايد محاولات تنفيذ عمليات إرهابية ضد أهداف إسرائيلية ويهودية في دول شتى.
مراكز الهزّات
الحرب الأهلية في سورية وإسقاطاتها على دول الجوار
- شكل انفجار الحرب الأهلية في سورية نقطة تحول واضحة في الشرق الأوسط وستكون للصدام الذي نشأ في هذه الدولة إسقاطات خطيرة وبعيدة المدى على المنطقة برمّتها. هكذا تبدو الأمور، بصورة أساسية، جرّاء حدة وإلحاحية الأزمة الإنسانية التي ترتبت عن الحرب: خلال السنوات الثلاث الأخيرة فرّ ما يزيد عن 3,5 مليون سوري من بلادهم (إضافة إلى نحو 6,5 مليون آخرين جرى اقتلاعهم من بيوتهم وتهجيرهم في داخل الدولة) وهم يبحثون، في غالبيتهم، عن ملجأ في الدول المجاورة. وأدى هذا إلى نشوء ضغط اقتصادي، واجتماعي، وديمغرافي وسياسي شديد على الدول المضيفة (وخاصة في الأردن ولبنان). وإلى جانب ذلك، عمقت الحرب من حدة الشروخ والانقسامات التي كانت قد ظهرت في المنطقة في فترة ما قبل الحرب. ونتيجة لهذا، تفاقمت العلاقات ما بين المجموعات السكانية المختلفة وجرى إذكاء التطرف على نحو أشد وضوحاً، من خلال امتلاك قاعدة جغرافية وإيجاد قوة جاذبة للجهاديين من الشرق الأوسط ومن العالم أجمع. وتكشف النظرة المستقبلية صورة كئيبة. في كل ما يتعلق بسورية - بؤرة عدم الاستقرار في الإقليم ـيمكن الافتراض بأن الحرب الأهلية ستتواصل في المدى القصير والمتوسط، فيما سيحصل تقسيم الدولة بين أنظمة حكم مختلفة تتنافس فيما بينها. وبالرغم من حقيقة كون الوضع الميداني متغيراً على المستوى التكتيكي، إلا إنه على المستوى الاستراتيجي نشأ وضع من قبيل الطريق المسدود الفاجع والمؤلم. وليس من المرجح أن يؤدي الجهد الدولي المتواصل ضد "الدولة الإسلامية" في سورية إلى ترجيح الكفة في ميزان القوى لصالح قوى المعارضة. ولا تلوح في الأفق أية بشائر لنهاية الحرب، ما يعني أن السيرورات المتواصلة على صعيد تفكك الدولة وتمزق النسيج الاجتماعي فيها ستستمر أيضاً، وهي سيرورات تخلق لـ"اليوم التالي" [لانتهاء الحرب] تحدياً عظيماً سيستمر سنوات عديدة. وختاماً، لكي تضع الحرب الأهلية في سورية أوزارها وتبلغ نهايتها على نحو يتيح إرساء قاعدة لنظام جديد، ثابت ومستقر، لا بد من صفقة واسعة واتفاق سياسي بين الأطراف الأساسية، إلى جانب تدخل قوي، فاعل وعميق الأثر من جانب مراكز قوة إقليمية هامة، مثل إيران والسعودية، تساعد في بناء نظام سياسي جديد في الدولة. ولكن، في ظل غياب الإرادة السياسية، المحلية والإقليمية على حد سواء للتحرك في هذا الاتجاه، فمن المرجح أن يتميز مستقبل سورية الفوري باستمرار الصراع وبالإمعان في تقسيمها الفعلي، بما يحمله ذلك من إسقاطات كارثية على أمن سكانها. وأكثر من هذا، سيكون لتفكك سورية إسقاطات سلبية على الدول المجاورة كلها، تقريباً. ويتعين الانتباه، بوجه خاص، إلى أن استمرار حالة غياب سلطة مركزية قوية سيترك فراغاً واسعاً ستملأه التنظيمات الإرهابية المتطرفة وتنشط من خلاله، ليس في داخل الدولة فحسب، بل تجاه جاراتها أيضاً ـ وبضمنها إسرائيل ـ حتى لو كانت النتيجة الإيجابية لهذا الوضع عدم وجود جيش مركزي قوي في سورية يستطيع تهديد إسرائيل.
- لبنان – الدولة التي تربطها بسورية علاقة تاريخية على المستوى السياسي، والاجتماعي والثقافي ستبقى تحت تأثير كبير لمفاعيل الحرب الأهلية في سورية. وعلى الرغم من أن حكومة لبنان كانت قد قررت، في تشرين الأول/ أكتوبر 2014، وضع قيود مشددة أمام سيل اللاجئين النازحين إليها، إلا أن هذه الدولة الصغيرة التي يبلغ تعداد سكانها 4,5 ملايين نسمة، لا تزال تئن تحت وطأة ما يزيد عن 1,1 مليون سوري. وإزاء خطورة الحرب الأهلية في سورية وشراستها، يمكن توقع بقاء غالبية اللاجئين في لبنان على المدى المتوسط والبعيد، فيما هم يشكلون تحديات جدية ليس فقط في مجال معونات الطوارئ، بل أيضاً في كل ما يتعلق بدمجهم في الدولة. وإضافة إلى هذا، من المتوقع أن تبقى المنظومة السياسية في لبنان رازحة تحت عبء الاستقطاب العميق على خلفية الشرخ السياسي - المذهبي بين المعسكر الشيعي والمعسكر السنّي. وأكثر من هذا، تشكل الحرب الأهلية عاملاً محفزاً للتطرف في لبنان، المصحوب بتصاعد عام في مستوى وأنماط نشاط المجموعات السلفية ـالجهادية. وختاماً، بالإضافة إلى هذه المجموعات المحلية، وضعت تنظيمات أخرى، مثل "جبهة النصرة" أو "الدولة الإسلامية"، لبنان هدفاً لها، وخاصة قوى الأمن فيه، وكلما تواصلت الحرب الأهلية في سورية كلما كرست هذه التنظيمات الطمس المتزايد للحدود بين الدولتين.
- الأردن - سيبقى تحت تأثير حالة اللا استقرار الإقليمية، وخاصة جراء الحرب الأهلية في سورية ومفاعيلها. وهذا ليس فقط بسبب الضغط السياسي والاجتماعي والاقتصادي الناشئ عن استضافة أكثر من 600,000 لاجئ سوري (مسجلين بشكل رسمي، بينما يزيد عددهم الحقيقي عن المليون لاجئ) يشكلون تحدياً جدياً للاقتصاد الأردني الضعيف. وعلاوة على ذلك، فقد حرّكت الأزمة الاقتصادية المتواصلة في الأردن، وخاصة البطالة المتفاقمة خلال السنوات الثلاث الأخيرة، موجات احتجاجية تعلو خلالها، أحيانا كثيرة، المطالبة باللبرلة السياسية. ومع هذا، وبالرغم من عدم الرضى الواضح، يبدو أن مكانة الملك لا تزال مستقرة بصورة نسبية، مع أنه من المتوقع أن يستمر الضغط من أجل معالجة الشكاوى السياسية والاجتماعية – الاقتصادية. لكن الاستقرار النسبي الذي ينعم به الأردن، حتى الآن، سوية مع التهديدات الخارجية والداخلية على استقراره، يساعدانه في الحصول على معونات اقتصادية إقليمية أكثر سخاء. وفي نظرة مستقبلية، يبدو أن الحرب الأهلية في سورية وظهور "الدولة الإسلامية" من شأنهما مفاقمة التهديدات الأمنية المحدقة بالمملكة. فجراء التخوف المتزايد من نشوء خلايا لتنظيم "الدولة الإسلامية" ومجموعات أخرى من الإسلام المتطرف في داخل الأردن، قررت المملكة منع عبور الناشطين الجهاديين عبر أراضيها، مع التركيز على مسائل الأمن الداخلي، ومتابعة ومراقبة التطرف المحلي وإعارة انتباه خاص لتنظيم "الدولة الإسلامية".
- العراق - تأثر العراق، أيضا وبصورة كبيرة، بالحرب الأهلية في سورية. فالمواجهة في الدولة الجارة عمّقت الشروخ القائمة فيه منذ زمن وزادتها حدّة، كما أكدت، على نحو مؤلم، فشل عملية إعادة بناء الدولة من جديد بعد العام 2003. وبهذا المعنى، يمكن النظر إلى انبعاث تنظيم "الدولة الإسلامية" في العراق بوصفه تجسيداً جلياً لإخفاقات المنظومة السياسية والحكومة المركزية في الدولة، ولكن بوصفه، أيضا، إحدى نتائج نجاحات التنظيم في سورية.
- من الواضح أن إلحاق الهزيمة بتنظيم "الدولة الإسلامية" لا يتطلب جاهزية ورؤية عسكريتين فحسب، بل يستدعي أيضاً تغييراً جذرياً في النظام السياسي وتبني نمط سياسي أكثر شمولية وشفافية. وفي الأثناء، سيواصل التنظيم نشاطه في المناطق التي استولى عليها في العراق وسورية، فيما يعمل أيضاً - إلى جانب زيادة أرصدته المالية - لتوسيع المناطق الخاضعة لسيطرته. ويشهد العراق حالياً حالة حادة جداً من عدم الاستقرار تقابلها درجة متدنية من الحكم وإدارة شؤون البلد وضعف عسكري يؤديان ليس فقط إلى تعزيز دور "الدولة الإسلامية" ومكانتها، وإنما أيضاً إلى زيادة وهن السلطة المركزية وتقوية مراكز الحكم الذاتي المحلية (كردستان العراق هي النموذج الأبرز لهذا المنحى).
- تركيا - يتعمق تأثير الحرب الأهلية في سورية في تركيا، أكثر فأكثر. أولاً، لجأ إلى تركيا نحو 1,6 مليون سوري. وبالرغم من كون تركيا، دون أدنى شك، الدولة الأقدر، سياسياً واقتصادياً، على معالجة أزمة اللاجئين، إلا أن حالة الطوارئ المتواصلة قد بدأت تجبي منها ثمناً سياسياً، مالياً واجتماعياً. وتبرز خطورة ذلك، بصفة خاصة، في كون أكثر من 80% من اللاجئين السوريين مركَّزين، بوجه أساسي، خارج المخيمات في خمس محافظات في جنوب تركيا وجنوبها الشرقي. ويبدو حضور اللاجئين في هذه المحافظات بارزاً بشكل خاص، على ما يسببه هذا الحضور من تعميق للتوترات القائمة أصلاً بين المجموعات السكانية في هذه المناطق الحدودية؛ ثانياً، يؤدي تزعزع النظام المركزي في سورية وكثرة المجموعات المسلحة فيها إلى مفاقمة المشاكل والأزمات التي تعاني منها تركيا أصلاً، وهي التي تمتد حدودها المشتركة مع سورية إلى نحو 900 كيلومتر. ويضع صعود "الدولة الإسلامية" الحكومة التركية أمام معضلة صعبة، ذلك أن سياستها التي تفضّل دعم القوى التي تحارب نظام الأسد قد أفضت في الماضي إلى تقييم مغلوط بشأن حجم وخطورة التحدي الذي فرضه الجهاديون في سورية والعراق؛ ثالثاً، الصراع في سورية يؤثر على علاقات تركيا الإشكالية مع الأقلية الكردية التي في داخلها، كما تجسد سابقا في تصعيد حدة التوتر بين الطرفين في أعقاب رفض الحكومة التركية السماح للقوات الكردية التي تحارب "الدولة الإسلامية" بعبور الحدود والوصول إلى بلدة عين العرب (كوباني) المحاصَرة.
أنظمة في عين العاصفة
- مصر ليست في معزل عن تأثيرات موجة التطرف الإقليمية. فالهزة التي تجتاحها في أعقاب سقوط نظام مبارك تضعها أمام مشكلتين أمنيتين: الأولى، إقصاء الجيش نظام "الإخوان المسلمين" في منتصف العام 2013 أحدث شرخاً بين هذا التنظيم والنظام الجديد برئاسة الرئيس عبد الفتاح السيسي. وقد فشلت المحاولات التي جرت، بمشاركة حكومات غربية، لرأب الصدع ودمج التنظيم في تشكيلة النظام، فانتقل الطرفان إلى مسار المواجهة. وفي هذا الوضع، يشتبه النظام في أن للتنظيم علاقة بتنظيمات إرهابية وبالعمليات الإرهابية التي انتشرت في مختلف أنحاء مصر، رغم أن هذه العلاقة غير واضحة ورغم ادعاء الإدارة الأمريكية بأن لا إثباتات على وجودها. ولكن، في موازاة الصدام مع "الإخوان المسلمين"، يتعين على نظام السيسي الاستمرار في مواجهة تيارات التغيير التي نشأت في مصر خلال السنوات الأربع الأخيرة، بما في ذلك أيضا شباب الثورة الأكثر ليبرالية والوضع الاقتصادي المتردي في الدولة.
- أما المشكلة الثانية التي تواجه مصر فهي الازدياد الكبير الذي طرأ منذ العام 2011 في عدد العمليات الإرهابية في نطاق حدودها - وخاصة في شبه جزيرة سيناء وفي غرب مصر، قرب حدودها مع ليبيا، والتي امتدت إلى المدن أيضا، من حين إلى آخر. وتستهدف هذه العمليات قوى الأمن وأهدافاً اقتصادية، في محاولة لزعزعة الأمن الداخلي والوضع الاقتصادي، بما يؤدي إلى زعزعة استقرار النظام. أما التنظيم الأكثر فعالية في مجال الإرهاب فهو "أنصار بيت المقدس" الذي يتركز جلّ نشاطه في سيناء، لكن قرب الحدود مع ليبيا أيضاً. وقد أعلن هذا التنظيم ولاءه لـتنظيم "الدولة الإسلامية" الذي يُرسل نشطاءه إلى مصر ويقيم علاقة وثيقة معه، كما مع تنظيمات جهادية أخرى في قطاع غزة.
- كان النشاط الإرهابي قائماً في سيناء خلال السنة التي حكم فيها "الإخوان المسلمون" مصر، وتزايد بعدها. ونتيجة لذلك، عزز النظام الحالي إجراءاته الوقائية في سيناء، بما فيها الهجمات الجوية، ووسّع أعمال هدم أنفاق التهريب عند الحدود مع قطاع غزة. وقد دفع قتلُ 33 من أفراد قوى الأمن في شمال سيناء، في نهاية تشرين الأول 2014، النظام المصري إلى التقدير بأن تنظيم "الدولة الإسلامية" يصعّد من نشاطه في سيناء، بالتعاون مع "أنصار بيت المقدس"، فأعلن في أعقاب ذلك عن إقامة منطقة أمنية بعرض 1,000 متر على طول الحدود بين مصر وقطاع غزة، تخللها إخلاء 800 منزل ونحو 10,000 مواطن من منطقة رفح المصرية.
- وكان النظام المصري قد واجه، في الماضي، موجات إرهابية من جانب تنظيمات إسلامية متطرفة، وخاصة في منتصف التسعينات، وتغلب عليها. لكن المهمة هذه المرة أصعب بكثير، لأن الإرهابيين أكثر عدداً بكثير، وينشطون في مناطق تجد الحكومة صعوبة في السيطرة عليها ويحظون بدعم من القبائل البدوية، علاوة على ما تشكله لهم ليبيا من مخزن كبير للأسلحة وقاعدة لإطلاق الجهاديين. ويتطلب لجم موجة الإرهاب الحالية ليس استخدام القوة الشديدة فحسب، بل بذل جهود سياسية أيضاً لوقف تدفق المعونات إلى التنظيمات الإرهابية ولعزلها. ومع هذا، يبدو أن ثمة أملاً معقولاً في أن يتغلب النظام على هذه التنظيمات، حتى لو تطلب الأمر وقتاً طويلاً.
- أصبحت ليبيا، خلال السنتين الأخيرتين، دولة فاشلة. يوجد فيها حكومتان، برلمانان، جيشان ورئيسا أركان. وتدور فيها حرب أهلية شرسة ومتواصلة، وفرّ مئات آلاف المواطنين من منازلهم بينما يبحث آخرون عن ملجأ لهم خارج ليبيا، التي تنشط فيها مجالس عسكرية ومليشيات مسلحة ترتبط بأشخاص ومنظمات مختلفة وتعمل ضد مؤسسات الدولة.
- وقد تحولت ليبيا إلى ملجأ للتنظيمات الإرهابية، وأخذت تنظيمات جهادية تبني لنفسها مراكز خاصة وسط معارك ضارية ضد خصومها وضد محاولات الجيشين الليبيين التصدي لها. وقد تمّ اقتحام مخازن الأسلحة الضخمة التي أقامها القذافي في ليبيا خلال الثمانينات ووصل السلاح إلى أيدي التنظيمات الإرهابية في ليبيا وخارجها، بما في ذلك قطاع غزة. كما أخذ تنظيم "الدولة الإسلامية"، أيضاً، بالتغلغل في أنحاء ليبيا مستغلاً حالة الفوضى العارمة في الدولة، ويعمل على تجنيد الدعم من التنظيمات الجهادية الأخرى، سعياً منه إلى التغلغل في مصر أيضاً. ومن هنا، لا عجب في أن يثير تدهور الأوضاع في ليبيا قلقاً كبيراً لدى جاراتها، وخاصة مصر التي تعتقد بأن ثمة تنسيقاً بين الإسلاميين في ليبيا و"أنصار بيت المقدس" و"الدولة الإسلامية".
- وتنضم اليمن، أيضاً، إلى مجموعة الدول الفاشلة. فخلال سنوات طويلة، أقام تنظيم "القاعدة" فرعاً له في اليمن يحمل اسم "القاعدة في شبه الجزيرة العربية"، وهو يعتبر أحد امتدادات "القاعدة" الأكثر خطورة، إذ يهدد المملكة العربية السعودية بشكل أساسي، حيث شن خلال السنة الفائتة سلسلة من الهجمات والعمليات ضد مؤسسات أمنية وحكومية.
- وتتمثل الظاهرة الأهم اليوم في امتداد واتساع تمرد الحوثيين خلال العام 2014. فمنذ عقد من الزمن، تشن الحكومة اليمنية حرباً ضد المتمردين الحوثيين - فرقة من المذهب الزيدي في الطائفة الشيعية، مركزها في شمال اليمن، تضم نحو 30 بالمائة من مواطني الدولة ويحركها شعور بالظلم والاضطهاد. لكن الحوثيين أطلقوا، في السنة الأخيرة، حملة عسكرية شاملة تهدف إلى توسيع مناطق نفوذهم، مستغلين ضعف الحكومة اليمنية والجيش اليمني، وسيطروا في أيلول - تشرين الأول 2014 على العاصمة صنعاء وعلى ميناء الحديدة الهام على البحر الأحمر.
- وكانت نتيجة هذه التطورات في اليمن نشوء حالة من الفوضى العارمة، والإرهاب، والقتال بين طوائف وقبائل، والصراع العنيف بين تنظيمات مختلفة - في مقدمته الصراع بين الحوثيين و"القاعدة" - والمطالبة بتقسيم اليمن. غير أن ثمة جوانب وأبعاداً إقليمية هامة للصراع في اليمن. فالحوثيون يحظون، منذ سنوات، بدعم إيراني، وخاصة من جانب "فيلق القدس" و"الحرس الثوري"، على خلفية انتمائهم للشيعة بالأساس. ويثير تدهور الأوضاع في اليمن قلقاً شديداً لدى السعوديين، ليس جراء انعدام الاستقرار عند حدودهم الجنوبية فحسب، والذي قد ينزلق إلى داخل بلادهم، بل أيضاً جراء احتمال إقامة موطئ قدم إيراني لصق حدودهم وعلى بوابة البحر الأحمر.
التحالف ضد "الدولة الإسلامية"
- تقود الولايات المتحدة، منذ صيف العام 2014، معركة دولية ضد "الدولة الإسلامية". وهو إجراء تم إعداده بصورة تدريجية، تمثلت المرحلة الأولى منه بتوفير الدعم العسكري والإنساني للنظام المركزي في العراق وللأقليات غير المحمية في مناطق مختلفة من الدولة. وفي موازاة ذلك، أقيم تحالف دولي لبذل جهد عسكري مركز في العراق وسورية. وانضمت إلى هذا التحالف دول غربية (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، أستراليا وغيرها) إلى جانب دول عربية (الأردن، العربية السعودية ودول خليجية أخرى). وركز التحالف نشاطه في شن غارات جوية على أهداف تابعة لتنظيم "الدولة الإسلامية" وفي تسليح وتدريب القوات الكردية، والقوات العراقية الخاضعة للحكومة العراقية، والمتمردين المعتدلين في سورية، إلى جانب تقديم المعونات الإنسانية لمناطق القتال.
- وضع التحالف لحملته هذه هدفا استراتيجيا يقوم على مبدئين اثنين:
(أ) التركيز على تدمير تنظيم "الدولة الإسلامية" والقضاء عليه، أولاً، دون بذل جهد مباشر لإسقاط نظام بشار الأسد في سورية; (ب) تجنب إرسال قوات عسكرية برية، والعمل من خلال الاعتماد العسكري على حلفاء محليين ـقوات عراقية وكردية، ثم قوات "الجيش السوري الحر" بعد تأهيلها ـلتكون بمثابة "القدم على الأرض" في محاربة قوات "الدولة الإسلامية". وعلى هذه القاعدة، تمت صياغة هدف إلحاق أضرار عسكرية واقتصادية كبيرة بتنظيم "الدولة الإسلامية" تؤدي إلى القضاء عليه، بواسطة ستة مكوّنات متضافرة: 1. تقديم دعم عسكري لحكومة الوحدة في العراق وتشكيل قوة من المتمردين السوريين غير المنتمين إلى الجماعات الجهادية المتطرفة، 2. حماية الأقليات التي تتعرض للذبح من جانب "الدولة الإسلامية"، 3. معالجة الأزمة الإنسانية في المناطق التي استولى عليها التنظيم، 4. وقف تدفق المتطوعين الأجانب إلى صفوف التنظيم (قادة الغرب قلقون من اتساع ظاهرة تجند متطوعين غربيين في التنظيم، وخاصة من الدول الأوروبية)، 5. محاربة القدرات الاقتصادية ومصادر التمويل التي يعتمد عليها تنظيم "الدولة الإسلامية"، 6. الطعن في شرعية أيديولوجيته ومحاولة نزعها.
- وقد اتضح، بعد بضعة أشهر من الغارات الجوية التي شنتها قوات التحالف الغربي ـالعربي، أن الجهد العسكري الجوي غير كاف لوقف هجمات قوات "الدولة الإسلامية" وكبح انتشارها في سورية والعراق. ولذلك، بُذلت جهود - سجلت نجاحاً محدوداً - لتصعيد وتكثيف المجهود العسكري من جانب دول التحالف، بما في ذلك إشراك قوات برية خاصة.
- وتتحدى إنجازات التحالف المحدودة هذه، إلى جانب إنجازات "الدولة الإسلامية" في العراق وسورية، فرضيتين أساسيتين في صلب سياسة الرئيس الأميركي، أوباما، في الشرق الأوسط:
- يسعى أوباما إلى إنشاء منظومة متميزة من العلاقات والتنسيق الاستراتيجي مع تركيا، لكن الزعيم التركي، طيب رجب أردوغان، وضع أمام أوباما مطلباً حازماً بشأن سورية: تعاون تركيا ـكحليف وعضو في حلف "ناتو" - ومشاركتها في القتال ضد "الدولة الإسلامية" لقاء تبني هدف إسقاط نظام الأسد في أسرع وقت ممكن. ويضع هذا المطلب أوباما في ورطة قاسية ما بين الرغبة في مشاركة تركيا في المعركة، بفضل تميزها الجيو استراتيجي على خلفية حدودها المشتركة الطويلة مع سورية والعراق، وبين الرغبة في دمج إيران في المعركة ضد "الدولة الإسلامية" واستغلال الفرصة لتحسين العلاقات مع إيران. فالإدارة الأمريكية تقيم علاقة مع إيران، بوساطة عراقية، وجهازا للتنسيق العسكري لمنع الاحتكاك (de-confliction). ولكن خلافاً لتركيا، تطالب إيران بامتناع الولايات المتحدة عن أي عمل يهدف إلى إسقاط نظام الأسد. صحيح أن الولايات المتحدة نجحت، بعد جهود إقناعية طويلة، في تجنيد تركيا للمعركة ضد "الدولة الإسلامية"، لكن مشاركة القوات التركية محدودة وتتركز في محاولة غير حازمة لإغلاق حدود تركيا مع كل من العراق وسورية، سعياً إلى الحدّ من حركة المتطوعين ومن الإمدادات المنقولة إلى قوات "الدولة الإسلامية". وعدا عن الحساب المفتوح بين أردوغان والأسد، يخشى أردوغان تعاظم قوة الأكراد في العراق وتركيا، نتيجة نجاحات محتملة قد يحققونها ضد "الدولة الإسلامية".
- يسود لدى الإدارة الأميركية اعتقاد بأن الولايات المتحدة ستكون قادرة على الخروج من العراق وأفغانستان، وتعزيز الاستقرار في هاتين الدولتين من خلال قوات محلية تتولى هي تدريبها وتأهيلها، وذلك من دون وضع بنية تحتية أساسية لنظام حكم ثابت ومستقر، مسؤول وفاعل في كل من الدولتين. ولكن، مع مغادرة القوات الأميركية، نشأ فراغ سلطوي ظهرت معالمه وإسقاطاته السلبية ليس في العراق وأفغانستان وحدهما فقط، وإنما في دول مجاورة أيضا. فقد امتدت حالة اللااستقرار إليها أيضاً، وتعاظمت القوى المتطرفة فيها وتفككت المنظومات الدولتيّة الفاعلة. وبالرغم من ذلك، لا يزال يسود في الإدارة الأميركية التقدير بأن القتال ضد "الدولة الإسلامية" ينبغي أن يعتمد، أساساً، على قوات برية محلية - عراقية، سورية وعربية أخرى ـرغم ما تعانيه من الضعف، وانعدام الدافع والانشقاقات. وبالنظر إلى أن إرسال قوات من المقاتلين الأميركيين لتنفيذ عملية برية واسعة ليس وارداً، فإن العناصر التي ترسلها إيران - قوات "فيلق القدس" في "الحرس الثوري"، والمليشيات الشيعية الناشطة في العراق و"حزب الله" الذي يحارب في سورية، ومؤخراً في العراق أيضاً - هي التي تملأ الفراغ السلطوي الناشئ.
- يتعين على قوات التحالف، فضلاً عن إعادة النظر في الرؤية الأساسية الموجهة للمعركة ضد "الدولة الإسلامية"، بلورة فكرة عملية محدثة ورفع مستوى أدائها وإنتاجيتها العملياتية:
- القوة الجوية، في غالبيتها، تنطلق من مطارات بعيدة وتعتمد على معلومات استخبارية ليست دقيقة بما فيه الكفاية. ونتيجة لذلك، فإن المردود العملياتي يكون محدوداً جداً، لأن هذا الوضع لا يتيح حضوراً جوياً دائماً فوق ساحة القتال. لقد نفذت قوات التحالف، حتى الآن، عدداً محدوداً من الغارات الجوية (بضع عشرات فقط في اليوم الواحد). وهذا ليس مقداراً حاسماً كافياً لإضعاف قوات "الدولة الإسلامية" وتحييدها، بل هو غير ملائم أصلاً لمثل هذا النوع من الحرب ضد الإرهاب/ حرب العصابات، التي تدور في مناطق مدنية ومأهولة. وفي المقابل، لاءمت قوات "الدولة الإسلامية" طرق عملها مع الوضع المستجد مما جعل الكشف عن أهداف ذات قيمة للهجمات مهمة في غاية الصعوبة. إن توجيه ضربات قاسية لقوات "الدولة الإسلامية"، وإلحاق ضرر جدّي بها ووقف تقدمها، يتطلب توفر معلومات استخبارية هامة ودقيقة، ومئات الغارات اليومية، وتواجداً جوياً متواصلاً في مناطق القتال بغية رصد التحركات وجمع المعلومات وتنفيذ الهجمات الفورية.
- تشن طائرات التحالف هجمات على بنى تحتية ومرافق اقتصادية يسيطر عليها تنظيم "الدولة الإسلامية" بغية ضرب مصادر تمويله وقدرته على التأثير. ونتيجة لذلك، فهي تسبب أضراراً لشبكات الكهرباء والمياه وتقطع خطوط إمداد السكان المدنيين بالغذاء في مناطق القتال. ويؤدي هذا بالتالي إلى إبعاد السكان المدنيين عن دعم قوات التحالف، ويقرّبهم من "الدولة الإسلامية" بالذات. ولذلك، وفي إطار استخلاص الدروس من الحروب السابقة ومن المعركة الحالية حتى الآن، يتوجب على قوات التحالف تقليص الضرر المادي اللاحق بالسكان المدنيين إلى الحد الأدنى الممكن، وضمان تزويدهم باحتياجاتهم ومقومات حياتهم والامتناع، قدر الإمكان، عن أي مس بالبنى التحتية الأساسية الضرورية لتزويد الخدمات المدنية.
- ينبغي تعزيز القوات البرية التي تحارب "الدولة الإسلامية". فالتحالف يعتمد على قوات الجيش العراقي والمعارضة العلمانية في سورية - ما تبقى من "الجيش السوري الحر". لكن هذه القوات لا تبدي قدرات قتالية كافية وثمة حاجة إلى جهد مكثف لتدريبها، وتأهيلها، وتسليحها ورفع مستوى رغبتها في القتال. إن آلافاً من المدربين الأجانب، من القوات الأميركية الخاصة ومن دول غربية أخرى، يعكفون على تدريب القوات العراقية منذ زمن طويل، إلا أن المطلوب أيضاً هو مرافقة هذه القوات في ساحات القتال.
- ينبغي تسريع بناء وتدريب وحدات المعارضة في سورية، وهذا تحدّ ليس بسيطاً: من الصعب تحويل مجموعات مسلحة من المتمردين إلى جيش ذي قدرات عملياتية وبنية فاعلة، على مستوى القيادة والتحكم، وخاصة بسبب تفكك هذه الجبهة وفرار مقاتلين من بين صفوفها وانتقالهم إلى جماعات إسلامية تقاتل، هي أيضاً، ضد نظام الأسد. وتجدر الإشارة هنا إلى أن وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) كانت قد قدرت أن ثمة حاجة إلى فترة من ثلاثة إلى خمسة أشهر من أجل تحديد واختيار المقاتلين المجرِّبين في صفوف قوات المعارضة السورية المعتدلة، ثم إلى سنة إضافية أخرى من أجل تدريبهم وتأهيلهم للقتال في معسكرات التدريب في الأردن وتركيا.
- قوات الأسد أكثر عزما وإصراراً في حربها ضد قوات المعارضة المعتدلة، مقارنة بالتردد الذي يميزها في قتالها ضد القوى الجهادية. ومن هنا، فالمطلوب ردع قوات الأسد عن المس بقوات المعارضة المعتدلة، مثلاً، عن طريق تحديد مناطق يُحظر الطيران فوقها في شمال سورية وشرقها، بغية منع أية عمليات قد تقوم بها طائرات ليست تابعة لقوات التحالف، بما يمنع بالتالي أية هجمات محتملة قد يشنها الطيران الحربي السوري ضد المتمردين غير التابعين لتنظيم "الدولة الإسلامية".
- إن أهداف المعركة ضد "الدولة الإسلامية" معقدة وصعبة التحقيق، نظراً لعوامل عدة: أولاً، أولاً وقبل كل شيء بسبب قوة التنظيم الناتجة عن الدعم الذي يحظى به في المناطق التي يسيطر عليها، وفي خارجها أيضاً. ويتجسد هذا الدعم، بين أشياء أخرى، في تجند متطوعين من مختلف أنحاء العالم لصفوفه، كما في إعلان الولاء للتنظيم من جانب تنظيمات جهادية في أنحاء العالم العربي. وإلى جانب ذلك، هنالك الخوف الذي يزرعه التنظيم، بين أمور أخرى، باستخدام وسائل الاتصال الحديثة. ويبدي التنظيم، أيضاً، مرونة وقدرة على التغيير السريع للإبقاء على حرية العمل طبقاً للظروف المستجدة. وثمة عنصر آخر يُصعّب المواجهة مع "الدولة الإسلامية" ويعقدها يتمثل في القوات المحدودة، المقلصة، التي توظفها الولايات المتحدة وحليفاتها الغربية والعربية في هذه المعركة. وتضاف إلى هذا أيضاً صعوبة تجنيد القوى العربية المعتدلة في هذه المعركة وغياب قوة برية ناجعة وقادرة على القتال، وذلك على خلفية الغموض الذي يكتنف إسقاطات حالة عدم الاستقرار الإقليمية وآثارها على تعاظم قوة "الدولة الإسلامية".
- إن أقصى ما يمكن للهجمات الجوية تحقيقه، إنْ لم يتبعها تدخل بري، هو تشويش وعرقلة نشاط قوات "الدولة الإسلامية"، ليس إلا. غير أنّ كسب المعركة يتطلب إقناع لاعبين إقليميين بإرسال قوات برية إلى مواقع القتال. وإذا لم يتم تعزيز قوات التحالف ـوخاصة إذا لم تشارك تركيا بصورة فعالة في القتال البرّي ـفسيكون الأمل ضئيلاً جداً في إقدام دول عربية على إرسال قوات خاصة بها للقتال. إن سورية، خلافاً للعراق، لا تزال "خارج المجال" في نظر غالبية الدول الغربية التي تكتفي بتنفيذ الهجمات الجوية فقط، إلى جانب الشروع في محاولة لتجنيد وتدريب قوات من بين قوات المعارضة المعتدلة والأقليات. كما أن تركيا أيضاً، ورغم كونها تتأثر بما يجري في سورية وتؤثر في التطورات في داخلها، لا تزال ترفض أن تأخذ على عاتقها مهمة التدخل البري، خشية تحمل المسؤولية عن حمام الدم في سورية. ولهذا، تقتصر مشاركة الدول العربية، بصورة أساسية، على شن هجمات جوية فقط على أهداف تابعة لتنظيم "الدولة الإسلامية" في سورية. ومردّ هذه المشاركة الفعالة هو الخوف من انتقال الحرب إلى هذه الدول ومن تضرر مصالحها في المنطقة.
- وإذا لم يكن هذا كافياً، فإن قتال التحالف ضد "الدولة الإسلامية" يساعد نظام الأسد، لأنه يعني تخفيف الضغط المباشر عليه. وأكثر من هذا، فطالما بقي تركيز الولايات المتحدة على القتال في العراق، تزداد حدة التوتر بينها وبين حليفاتها ذات الأنظمة الملكية في الشرق الأوسط، التي يساورها القلق جراء تقاطع المصالح بين الولايات المتحدة وإيران، كما يتجسد في الصراع الدائر على الأرض العراقية. وفي الوقت ذاته، يبدو أن الأسد نفسه ليس معنياً بهزيمة "الدولة الإسلامية"، لأن القضاء على هذا التنظيم سيضع نظامه في مقدمة المسرح كعدو مشترك لغالبية الدول في الشرق الأوسط وفي العالم. ومن ناحية أخرى ما دام الأسد مسيطراً في سورية فلن يكون بالإمكان لجم ووقف تدفق المتطوعين وانضمام الجماعات الجهادية السلفية إلى قوات "الدولة الإسلامية" بغية محاربة نظامه. ومن هنا، فإن إلغاء التوازن الاستراتيجي الذي نشأ بين الطرفين يحتاج إلى دحر "الدولة الإسلامية" والقضاء عليه، بالتزامن مع العمل على إعداد بديل جدي لنظام الأسد في سورية.
- لم تعد إيران، من جانبها، تخفي نشاطها العسكري (وخاصة من خلال "فيلق القدس") في العراق، وفي سورية (بما في ذلك هضبة الجولان) وفي لبنان وهي عازمة على استغلال حالة عدم الاستقرار وتحديد "الدولة الإسلامية" عدواً مركزياً للغرب من أجل فرض هيمنتها على المنطقة. وضمن هذه الحملة المكثفة التي تبتغي تصوير إيران كأنها منقذة العراق، تنشر طهران صوراً تُظهر بطولة قاسم سليماني، قائد "فيلق القدس"، بينما يقوم بتنظيم القوات الشيعية والمليشيات الكردية لخوض القتال في العراق. وينطوي هذا العمل على أهمية كبيرة بالنسبة لنسيج الولاءات والتحالفات الاستراتيجية التي ستنشأ في الشرق الأوسط "في اليوم التالي [للتخلص من "الدولة الإسلامية"]. أما الخطر الكامن في هذه الحملة فهو العرفان بالجميل من جانب الشعب العراقي، وخاصة الأكراد، تجاه إيران و"حزب الله" على المساعدة التي قدماها وأتاحت الصمود أمام هجمة "الدولة الإسلامية". ويبدو أن حالة اللا يقين والضبابية التي تخيم على الشرق الأوسط هي أشد خطورة من كل ما عرفناه خلال العقدين المنصرمين. فهذا الواقع، الذي يحتل فيه الصراع مع "الدولة الإسلامية" حيزاً مركزياً، ليس سهلاً بالنسبة لصناع القرار في العالم. ومع ذلك، فإن من شأن احتدام التوترات وتصاعد العنف بين الأطراف المختلفة في المنطقة أن يدفعا المجتمع الدولي إلى اللحظة الزمنية التي يتحتم عليه فيها اتخاذ قرار بشأن السبل التي سيعتمدها لمواجهة التحديات الناشئة في المنطقة.
- لا تزال الولايات المتحدة - رغم تراجع قوتها ومكانتها، كما يبدو في نظر العالم ـالدولة العظمى القائدة والأقوى. والأسئلة الصعبة المتوالدة من التحدي الذي يفرضه صعود "الدولة الإسلامية" والتحدي المرتبط بالمشروع النووي الإيراني مطروحة على طاولة الإدارة الأمريكية. ويتعين على الولايات المتحدة اعتماد سياسة حازمة بغية تعزيز التحالف الذي تقوده وتعميق عزم الدول الأعضاء فيه على دحر "الدولة الإسلامية"، إلى جانب مواصلة الجهود الرامية إلى تحقيق اتفاق مع إيران حول مشروعها النووي لا يُشتم منه خضوع لإرادتها لمجرد الرغبة في تعاونها ومشاركتها في المعركة ضد "الدولة الإسلامية".
إسقاطات مستقبلية
- تنجم عن الهزة التي تعصف بالشرق الأوسط حالة من عدم اليقين تجاه المستقبل. فثمة أنظمة وحكام لا يعرفون ما إذا كانوا سيتجاوزن هذه الأزمة بسلام أو مَن هم جيرانهم المستقبليون وكيف سيتم ترسيم الحدود. وحتى في الدول التي لم تمسّ الأزمة استقرارها الداخلي حتى الآن، ثمة تخوفات من نشوء أزمات داخلية في المستقبل، أو من انتقال الهزات لدى جيرانها إلى عقر دارها. وفي مثل هذه الظروف، يصبح من الصعب على الحكومات تخطيط خطواتها المستقبلية واتخاذ قرارات بعيدة المدى يمكن أن تتأثر بالوضع السائد في المنطقة.
- لا تلوح في الأفق نهاية قريبة للأزمة الراهنة، بل قد تستمر لسنوات عديدة قادمة. وقد شهدت الأوضاع، خلال السنة الأخيرة، تدهوراً خطيراً في أربع من دول المنطقة على الأقل - بينها دولتان مركزيتان هما العراق وسورية - ولم تنشأ فيها، بعد، ظروف تقود نحو استقرارها. في وضع يتميز بانعدام أية قاعدة للتوافق حول تسوية سياسية في سورية والعراق، وبالصراع العنيف بين الشيعة والسنّة، وبتطلع الأكراد ومجموعات إثنية أخرى إلى الاستقلال، وبتعاظم قوة التنظيمات الإرهابية الجهادية والمليشيات المسلحة التي تنشط ليس في العراق وسورية فحسب، بل في مصر أيضاً، وبالقتال بين القبائل المختلفة في ليبيا واليمن، فيما تفتقر المنطقة إلى طرف مركزي قادر على قيادة العالم العربي وإيصاله إلى شاطئ الأمان والاستقرار، علاوة على تدخل إيران في دول مختلفة - في مثل هذا الوضع، تبدو فرص انتهاء الأزمة قريباً ضئيلة جداً.
- وقد زاد ظهور تنظيم "الدولة الإسلامية" المفاجئ هذا الوضع تعقيداً وخطورة. فهو تنظيم إرهابي من التنظيمات الأكثر تهديداً التي ظهرت في أي وقت، نظراً للمساحة الواسعة التي يسيطر عليها في قلب الشرق الأوسط ونظراً لما أغدقته عليه نجاحاته من مصادر مالية وفيرة ودفق من المتطوعين، من الشرق الأوسط وخارجه، الذين سحرتهم طروحاته وغاياته. ولا يزال التحرك الدولي، بقيادة الولايات المتحدة لكبح هذا التنظيم ودحره في بداياته ولم يحقق أي إنجاز جدي حتى الآن. وتتحدث تقديرات الإدارة الأميركية عن الحاجة إلى نحو ثلاث سنوات من أجل تحقيق هدف هذا التحرك - كبح تنظيم "الدولة الإسلامية" والقضاء عليه. لكن، قد يتبين أن هذه التقديرات أقل من الحقيقة بكثير. فالهجمات الجوية التي اقتصر عليها رد الولايات المتحدة حتى الآن قد تكون موجعة لـ"الدولة الإسلامية"، لكن من المشكوك فيه أن تحقق الهدف وحدها. وفي كل الأحوال، يحتاج لجم "الدولة الإسلامية"، أيضاً، إلى بذل جهود سياسية ـاقتصادية - اجتماعية حثيثة، موازية، بغية عزله والفصل بينه وبين قاعدة الدعم السنيّة التي يستند إليها. ويتطلب تحقيق هذا الهدف وقتاً طويلاً، وتغييراً في التوجه نحو القيادة السنية في العراق، ورسم أفق جديد قابل للتحقق أمام السنّة في سورية. ومن شأن مَواطن الضعف لدى "الدولة الإسلامية" أن تؤدي، في نهاية المطاف، إلى تقليص قوته، غير أن الجهد ينبغي أن يكون متواصلاً وطويل النّفَس، وعلى أية حال، فإن التنظيم لن يختفي تماماً، كما يبدو.
- لقد أدى اتساع ظاهرة الدول الفاشلة في الشرق الأوسط إلى تقديرات تقول باحتمال انهيار الترتيبات التي وضعتها اتفاقية سايكس - بيكو قبل نحو مائة عام ورُسمت، في إطارها، حدود الدول في هذه المنطقة. وكان احتمال انهيار هذه الترتيبات قد طُرح قبل عقد من الزمن، في الأساس بخصوص العراق، على خلفية ما شهده من تفكك إثر نجاح الأكراد في إنشاء إقليم مستقل لهم في شمال العراق في أعقاب حرب الخليج الأولى، وبعد أن اتضح أن الشيعة والسنّة عاجزون عن تحقيق مصالحة وطنية تتيح لكلتا الطائفتين العيش المشترك معاً. فقد اصطدمت فكرة المصالحة الوطنية بمصاعب عسيرة نجمت عن اختلاط مجموعتين مذهبيتين مختلفتين، فضلاً عن صعوبات في تقسيم الثروات الاقتصادية، وعقبات أمام تشكيل القوات العسكرية وتفكيك المليشيات المذهبية المسلحة ودرجة عالية من الكراهية والارتياب المتبادلين. ونتيجة لهذا كله، لم تتخذ بعد، لا في العراق ولا في سورية، أية إجراءات حقيقية لتقسيم الدولة أو لبدء الحوار بهذا الصدد، وثمة شك في ما إذا كان الطرفان قادرين على بلوغ ذلك في المستقبل القريب. أما الإمكانية الأساسية التي يلوح في الأفق احتمال تحققها في المستقبل فهي تطور الحكم الذاتي الكردي إلى كيان مستقل، بيد أن هذه أيضا تصطدم بصعوبات ومعارضة، سواء في داخل العراق أو من دول مجاورة، مما يجعل التقدم في هذا الاتجاه بطيئاً، كما يبدو.
- لا تعيش إسرائيل في معزل عن إسقاطات الأزمة الإقليمية ومفاعيلها. إن مجرد انشغال دول عربية عديدة بمشكلاتها الداخلية هو ظرف مريح لإسرائيل. وقد عاد تضعضع الأوضاع في العراق وسورية بفوائد جدية على إسرائيل، إذ تبددت قدرات العراق العسكرية وليس في وسع القليل الذي تبقى منها تشكيل أي تهديد على إسرائيل، كما لحقت بقدرات الجيش السوري أضرار جسيمة. وقاد تدهور الوضع الأمني في شبه جزيرة سيناء إلى تحسين مستوى التنسيق الأمني بين مصر وإسرائيل، كما ساهم في تعزيز استقرار علاقات السلام بين الدولتين، وخاصة بعد إقصاء "الإخوان المسلمين" وصعود السيسي إلى سدة الحكم في مصر. ويضاف إلى هذا كله، أيضاً، تعزيز العلاقات الأمنية بين إسرائيل والأردن، من خلال إدراك العائلة الهاشمية أن إسرائيل هي الوحيدة التي ستقف إلى جانب الأردن في حال تعرضه إلى أي تهديد أو خطر خارجي حقيقي.
- وتظهر، في هذا السياق، مسألة تأثير الوضع في سورية وبقاء نظام الأسد على أمن إسرائيل ومصالحها. إسرائيل ليست طرفاً في الصراع الداخلي في سورية ولا مصلحة لها بالتدخل فيه أكثر من العمل على منع انزلاقه إلى داخل إسرائيل ووقف نقل الأسلحة المتطورة من سورية إلى حزب الله. وقد استطاعت إسرائيل بناء قوة ردع جدية تجاه سورية، وخاصة فيما يتعلق بمرتفعات الجولان على الأقل، وتُحجم سورية منذ سنوات عن أي عمل استفزازي ضد إسرائيل انطلاقاً من تلك الحدود، بل ارتدعت أيضا عن أي رد في الحالات التي قامت فيها إسرائيل بضرب أهداف سورية.
- وفي المقابل، يخلق الوضع الذي نشأ في سورية منذ العام 2011 تهديدات جديدة على إسرائيل، وخاصة جرّاء انزلاق الصراع الداخلي في سورية إلى داخل المناطق الإسرائيلية في بعض الأحيان - سواء كان الأمر متعمدا أو عرضياً - وجرّاء احتمال تفاقم هذه الظاهرة. هذا الوضع ليس مرغوباً فيه بالنسبة إلى إسرائيل، لأن بعض التنظيمات التي تنشط في سورية، وبضمنها حزب الله، تتحرش بإسرائيل من حين إلى آخر، بينما لا تملك إسرائيل عنواناً واضحاً تستطيع من خلاله ردع هذه التنظيمات عن مواصلة تحرشاتها. والحادث الذي أصابت فيه إسرائيل مجموعة من مقاتلي حزب الله وقادة من الجيش الإيراني في منطقة القنيطرة في نهاية كانون الثاني 2015، ورد حزب الله بعد أسبوع في منطقة "هار دوف"، يفتحان الباب أمام اتساع دائرة الصراع بين حزب الله وإسرائيل، وربما أمام مواجهة مستقبلية بينها وبين إيران أيضاً.
- وعلاوة على ذلك، يخلق ظهور "الدولة الإسلامية" والتنظيمات الجهادية الأخرى تهديدات ومخاطر مختلفة على إسرائيل في المدى الأبعد، نظراً لاعتبار هذه التنظيمات إسرائيل عدواً وهدفاً للمواجهة من الدرجة الأولى. ورغم أن هذه التنظيمات تضع المواجهة مع إسرائيل في مرتبة متدنية من سلم أولوياتها في المرحلة الراهنة، على خلفية تركيز كل اهتمامها وقدراتها في المواجهة الحادة مع قوى دولية ومحلية، إلا أنها قد تحاول، في مرحلة لاحقة لدى تفرغها من تلك المواجهة، المسّ بإسرائيل وتوجيه عمليات ضدها، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وقد يحصل هذا بواسطة توجيه عمليات إرهابية ضد أهداف إسرائيلية من جهة سورية أو لبنان أو سيناء، وضد أهداف يهودية في أنحاء مختلفة من العالم، فضلاً عن محاولة التسلل إلى الحلبة الفلسطينية، ومحاولة زعزعة الاستقرار والنظام في الأردن، الذي يشكل بقاؤه مصلحة استراتيجية عليا بالنسبة لإسرائيل. وفي الوقت ذاته، قد يخلق التهديد الذي يشكله تنظيم "الدولة الإسلامية" على دول المنطقة فرصاً جدية لتوثيق وتعميق التعاون بين إسرائيل ودول عربية معتدلة بغية لجم إيران والتنظيمات الجهادية. ومن شأن تعاون كهذا أن يشكل قاعدة متينة لتحسين العلاقات في مجالات أخرى، مثل الاقتصاد والمياه والتكنولوجيا.
[1] تولى تركيز كتابة هذا الفصل إفرايم كام، الذي وضع المقدمة والتلخيص والجزء الذي يتطرق إلى دول شرق أوسطية لم يتم التطرق إليها في الفصول الأخرى. مارك هيلر كتب الجزء الذي يبحث في خلفية التقلبات في العالم العربي. يورام شفايتسر كتب الجزء الذي يتمحور حول اللاعبين الخارجيين. بنيديتا بيرتي كتبت الجزء الذي يبحث في الحرب الأهلية في سورية، بينما كتب أودي ديكل الفصل الذي يبحث في التحالف ضد "الدولة الإسلامية".
المصدر: تقويم استراتيجي لإسرائيل 2014 – 2015
عنات كورتس وشلومو بروم، محرران. تل أبيب، معهد أبحاث الأمن القومي، 2015، ص 77 – 97.
- ترجمه عن العبرية: سليم سلامة (الجليل)