خلفية
- خرجت إسرائيل من لبنان سنة 2000 من دون التنسيق مع الحكومة اللبنانية على شروط إخلاء الشريط الأمني في جنوب الدولة، لكنها فعلت ذلك بالتنسيق مع الأمم المتحدة: حدد مندوبو الأمين العام للأمم المتحدة "الخط الأزرق" فاصلاً بين إسرائيل ولبنان - لأنه من أجل ترسيم الحدود النهائية مطلوب موافقة الدولتين - وعلى هذا الأساس اعتبرت الأمم المتحدة في بيان لها أن إسرائيل انسحبت من جميع أراضي لبنان، باستثناء قرية الغجر.
- استغل حزب الله الانسحاب السريع للجيش الإسرائيلي والفراغ الناشئ في جنوب لبنان للقيام بعدد من الخطوات: تعميم رواية الانتصار القائلة بأن إسرائيل لم تنجح في مواجهة عمليات "المقاومة" التي قام بها الحزب واندحرت أمامها؛ السيطرة عملياً على المناطق التي أخلتها إسرائيل في جنوب لبنان، والتمركز فيها، وتحول الحزب إلى سيد المنطقة مع القيام بعمليات استفزازية ضد إسرائيل؛ تعزيز نفوذه داخل المؤسسة السياسية في لبنان؛ بناء القوة العسكرية للحزب بمساعدة سورية وإيران، والتزود بمنظومات صواريخ أرض- أرض وقذائف أرض - أرض متوسطة المدى (تصل إلى 250 كيلومتراً)، وبمنظومات صواريخ متطورة مضادة للدبابات والطائرات، وطائرات من دون طيار للاستخبارات وللهجوم، وبصواريخ بر - بحر؛ إقامة بنية تحتية لإطلاق الصواريخ وللاختباء ولأجهزة الاستخبارات والتحكم؛ اعادة تنظيم العقيدة الاستراتيجية عبر الاعتماد على القدرة النارية لجيش نظامي وعقيدة عمليات حرب العصابات، بالإضافة إلى إعادة تنظيم بنية القيادة والتحكم؛ تقديم مساعدة مباشرة وغير مباشرة إلى تنظيمات الإرهاب الفلسطينية في التخطيط لهجمات وفي التمويل والتسليح.
- بموازاة خطوات البنية التحتية وبناء القوة والتموضع السياسي في لبنان، واصل حزب الله نشاطه الإرهابي الذي كانت ذروته خطف ثلاثة جنود إسرائيليين في منطقة مزارع شبعا في تشرين الأول/أكتوبر 2000 (في وقت كانت إسرائيل تواجه الانتفاضة الثانية في الساحة الفلسطينية)، وبعد ذلك حدثت عدة محاولات فاشلة لخطف جنود إسرائيليين في منطقة الحدود في العامين 2005 و2006.
- في أيلول/سبتمبر 2004 اتخذ مجلس الأمن في الأمم المتحدة القرار 1559 الذي طالب القوات السورية بمغادرة الأراضي اللبنانية وحل الميليشيات المسلحة في الدولة بالإضافة إلى توسيع سيطرة ومسؤولية الحكومة اللبنانية في جنوب لبنان. بعد اتخاذ القرار جرى حدثان مهمان في الساحة اللبنانية: اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري (شباط/فبراير 2005)، و"ثورة الأرز" التي أدت إلى إنهاء الوجود العسكري السوري في لبنان (نيسان/أبريل 2005).
- هذه كانت خلفية أحداث 12 تموز/يوليو، ذلك اليوم الذي نجح فيه حزب الله في مفاجأة دورية للجيش الإسرائيلي كانت تمر بالقرب من الحدود مع لبنان داخل أراضي إسرائيل، وخطف جنديين وقتل ثلاثة وجرح ثلاثة آخرين. وترافقت عملية الخطف مع اطلاق صواريخ أرض - أرض على المستوطنات في شمال إسرائيل. جاء هذا بعد مرور شهر على خطف الجندي غلعاد شاليط على الحدود مع قطاع غزة. وكان تقدير زعيم حزب الله حسن نصر الله أن رد إسرائيل على حادثة الحدود سيكون معتدلاً في ضوء تحول اهتمام الجيش الإسرائيلي نحو قطاع غزة، وغياب رد مهم من جانب إسرائيل على خطف جنودها سنة 2000 ومحاولات الخطف التي حدثت في 2005-2006، وثقة حزب الله الكبيرة (نصر الله شخصياً) في قدرته على توقع ردود إسرائيل على كل حدث. [1]
الهدف الاستراتيجي
- خلال سنوات الانتفاضة الثانية والمواجهات مع الارهاب الفلسطيني، اختارت إسرائيل عدم الانجرار إلى وضع قتال يدور على جبهتين: الفلسطينية والشمالية - وقدرت أن في إمكانها احتواء الأحداث في مواجهة حزب الله. وفي الوقت عينه راقبت إسرائيل بقلق تعاظم القوة العسكرية للحزب بالسلاح وتزايد ثقته بنفسه. وفي هذه الأثناء سيطر حزب الله على جنوب لبنان وتحدى الجيش الإسرائيلي يومياً من خلال عرقلته وتيرة الأعمال المدنية التي تجري بالقرب من الحدود وزيادة محاولاته من أجل خطف جنود إسرائيليين، سواء لاستخدامهم كورقة مقايضة أو من أجل إذلال إسرائيل.[2]
- بعد نجاح الجيش الإسرائيلي في التغلب على الإرهاب الفلسطيني في عملية "الجدار الواقي" [2002]، وبعد أن أدركت إسرائيل أن عليها أن تضع حداً للاستفزازات المتواصلة لحزب الله، تفرغت لمعالجة الجبهة الشمالية. عندما وقعت حادثة الخطف في جنوب لبنان في تموز/يوليو 2006، التي جاءت وفي الخلفية حادثة الخطف في قطاع غزة، لم تستطع حكومة إسرائيل ضبط النفس وقررت مع قادة الجيش الإسرائيلي أنه يتعين عليها هذه المرة أن ترد بصورة صارمة.
- جاء الرد العسكري على حادثة الخطف في جنوب لبنان تلقائياً تقريباً من دون إجراء تقدير للوضع الاستراتيجي، ومن دون نقاش ما الذي تريد إسرائيل تحقيقه.[3]
- في الجلسة التي عقدتها الحكومة يوم الخطف تقرر عملياً خوض الحرب من دون تعريف العملية بأنها حرب، ومن دون اجراء التوضيح الضروري المتعلق بأهداف الحرب وفرص تحقيق هذه الأهداف.
- لو تصرفت الحكومة كما ينبغي لكان يتعين عليها دراسة خيارين أساسيين بما يتلاءم مع تحديد المشكلة الاستراتيجية:
الخيار الأول ينجم عن تحديد المشكلة الاستراتيجية بأنها تآكل في الردع. وتجلى هذا التآكل عملياً عبر استعداد حزب الله لتكرار مهاجمة إسرائيل. وجرّاء ذلك هناك حاجة إلى ترميم الردع. ومن أجل تحقيق هذا الغرض كان المطلوب تنفيذ عملية انتقامية شديدة جداً في لبنان تستمر عدة أيام، وتستند إلى قدرة هجوم ونيران بصورة أساسية من سلاح الجو. وذلك من أجل تدفيع حزب الله ثمناً باهظاً، وفي الوقت عينه التسبب بضرر ودمار للبنان نفسه المسؤول عما يجري على أراضيه، وضرورة تدفيعه ثمن الحماية التي يمنحها لتنظيم إرهابي. لم يكن في إمكان عملية إسرائيلية من هذا النوع إعادة المخطوفين ولا إزالة الخطر من جانب حزب الله، لكنها كانت تنطوي على فرص ترميم ردع إسرائيل من خلال تدفيع الطرف الثاني الثمن، ومنعه من مواصلة هجماته على إسرائيل.
الخيار الثاني ينجم عن تحديد المشكلة الاستراتيجية بأنها مشكلة تعاظم قوة حزب الله كتنظيم عسكري قوي ولاعب مسيطر في الجبهة الشمالية قادر على مهاجمة مواطني إسرائيل في أي لحظة يشاء. والقوة التي راكمها حزب الله غيرت تدريجياً موازين القوى بينه وبين إسرائيل كما غيرت اعتباراته السياسية، وأدت بالتالي إلى تآكل الردع الإسرائيلي. وبناء على ذلك كان المطلوب خطة استراتيجية تؤدي إلى تغيير الوضع من أساسه وتغيير موازين القوى. والوسيلة لتحقيق ذلك توجيه ضربة قاسية إلى قدرات حزب الله من خلال التركيز على قدراته على مهاجمة إسرائيل بواسطة سلاح صاروخي ذي مسار منحن، وإبعاد قوات الحزب عن الحدود مع إسرائيل. - ويتطلب تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي استخدام قوة هائلة والقيام بمناورة برية في عمق الأراضي اللبنانية، على الأقل حتى خط نهر الليطاني (الذي لدى حزب الله إلى الجنوب منه الكثير من الأرصدة).
- مع حجم قوات يبلغ ثلاث فرق وحتى أربع، فإن عملية برية من هذا النوع كانت ستستمر على الأقل ستة أسابيع، وتنطوي بالطبع على ثمن وخطر كبيرين، بما في ذلك خسائر في الأرواح واحتمال تورط مستمر على أراضي لبنان. وكان المطلوب تقدير هذه العوامل ودراستها خلال عملية اتخاذ القرار.
- وكما هو معروف جرى النقاش في الحكومة من دون دراسة عميقة للخيارات المختلفة ولانعكاساتها. وانتهى النقاش بقرار الطلب من الجيش البدء بهجمات لسلاح الجو رداً على حادثة الخطف. على افتراض أن القرارات ستتخذ لاحقاً بما يتلاءم مع التطورات. وفي نقاش إضافي في المجلس الوزاري المصغر عرض الجيش على الحكومة اقتراح هدف استراتيجي ووضع نهائي يهدف إلى تغيير الأمور من أساسها. ووصف الوضع النهائي المقترح الواقع المطلوب في نهاية القتال كالتالي: إبعاد حزب الله عن الحدود الإسرائيلية- اللبنانية؛ إلحاق ضرر كبير بقدرة التنظيم (خاصة بمنظومته الصاروخية أرض- أرض المتوسطة والبعيدة المدى)؛ المس بمكانة حزب الله في لبنان وبصورته في العالم العربي؛ ترميم الردع الإسرائيلي في مواجهة التنظيم وسائر اللاعبين الإقليميين، وتحسين شروط تطبيق قرار مجلس الأمن 1559 بشأن كل ما يتعلق بانتشار الجيش اللبناني في جنوب لبنان، وبدء عملية نزع سلاح الميليشيات، وممارسة الحكومة اللبنانية مسؤوليتها السياسية؛ زيادة التدخل الدولي في لبنان من أجل تطبيق قرارات مجلس الأمن؛ وتوفير الشروط لإعادة الجنود المخطوفين ومنع عمليات خطف في المستقبل.
- لقد كان المنطق وراء وضع الأهداف بعيدة المدى الرغبة في تغيير الوضع الاستراتيجي الذي تطور على الحدود الإسرائيلية – اللبنانية في السنوات الست التي أعقبت خروج القوات الإسرائيلية من الشريط الأمني. ووافق المجلس الوزاري المصغر على هذا الهدف، لكن في جلسة الحكومة رُفض اتخاذ قرار تنفيذ العنصر الأساسي من أجل تحقيقه - مناورة برية في عمق جنوب لبنان. والسبب الأساسي لذلك كان خوف المستوى السياسي والمستوى العسكري الرفيع من تكبد خسائر يمكن أن تصل بحسب التقديرات الى ما بين 300 إلى 500 جندي.[4] وهكذا نشأت ثغرة بين الهدف الاستراتيجي وخطة العمل العسكرية التي هدفها تحقيق هذا الهدف.
- الفكرة الاستراتيجية التي طبقت عملياً في حرب لبنان الثانية ركزت على المس بقدرات حزب الله، وقبل كل شيء تدمير منظومة إطلاق الصواريخ البعيدة والمتوسطة المدى التابعة للتنظيم، وهذا جرى بفضل معلومات استخبارات نوعية وقدرات هجومية دقيقة؛ إلحاق ضرر شديد ببقية عناصر القدرة العسكرية لحزب الله (قدرات إطلاق أخرى، اغتيال مركز لكبار مسؤوليه، تدمير قيادات ومراكز ومخازن لوجستية تم تحديدها، وتدمير بنى تحتية وتحصينات بالقرب من الحدود، والمس بالبنى التحتية المدنية التي تخدم منظومة الإطلاق التابعة للتنظيم)؛ تعزيز الردع من خلال الإصرار وقوة الهجمات الجوية؛ المس بصورة حزب الله بصفته "المدافع عن لبنان" وإبراز كونه عاملاً يسبب دمار الدولة؛ ومن خلال تنفيذ عمليات خاصة خلف المنظومات الاستراتيجية الخلفية لحزب الله؛ واعتراض وإحباط عمليات انتقال العتاد العسكري من إيران ومن سورية عبر سورية إلى حزب الله؛ فرض حصار بحري وجوي لمنع تقديم المساعدة إلى حزب الله، وإبراز مسؤولية حكومة لبنان عما يحدث في الدولة.
- الهدف الاستراتيجي والفكرة الاستراتيجية جرى بلورتهما أثناء القتال ولم يترافقا بتقدير منهجي للوضع لتحديد المشكلة والهدف ووضع طريقة لاستخدام القوة من أجل تنفيذ هذا الهدف. وحتى بعد وضع أهداف بعيدة المدى، لم تعلن القيادة العليا ولا الحكومة رسمياً الانتقال إلى وضعية حرب، وفرضت الحكومة قيوداً على الجيش الإسرائيلي في استخدامه للقوة، ومنعت بصورة خاصة المس مباشرة وعن قصد بالبنية التحتية للدولة اللبنانية (بسبب تعهد من رئيس الحكومة أولمرت للرئيس بوش كان الهدف منه اعطاء الولايات المتحدة هامشاً للعمل الدبلوماسي من أجل تسوية سياسية).
- بالتزامن مع الجهود العسكرية أُنشى جهاز عمل على تقديم مساعدة إنسانية للسكان اللبنانيين غير المتورطين بالقتال، كما اتخذت خطوات سياسية بواسطة الولايات المتحدة. وجرت هذه الخطوات بهدف دفع الحكومة اللبنانية إلى تحمل مسؤوليتها وفرض سيادتها على جنوب الدولة حتى الحدود مع إسرائيل، وبهدف دفع المجتمع الدولي إلى فرض حظر على السلاح إلى لبنان غير الموجه إلى الجيش الرسمي.
- مرت الحرب عملياً بثلاث مراحل يمكن القول عنها الآن إنها نشأت من دون تخطيط مسبق، ومن خلال تطور الأحداث وعلى خلفية حقيقة مواصلة حزب الله طوال الحرب إطلاق الصواريخ باستمرار في اتجاه إسرائيل (المجموع نحو 400 صاروخ متوسط المدى ونحو 2500 صاروخ قصير المدى[5]):
- في المرحلة الأولى التي استمرت ثمانية أيام، ركز الجيش الإسرائيلي على تحييد القدرات الاستراتيجية لحزب الله من خلال هجوم منهجي على صواريخه البعيدة المدى، وتدمير مربع سيطرته وقيادات التنظيم في قلب بيروت (الضاحية) ومنع وصول المساعدة إلى التنظيم من سورية وإيران.
- في المرحلة الثانية، التي استمرت ثلاثة أسابيع، كان التركيز على تعميق انجاز إبعاد حزب الله عن الحدود، ومواصلة اصطياد منظومة الصواريخ التابعة للتنظيم بأنواعها المختلفة.
- في المرحلة الثالثة تواصل تعميق الضغط على حزب الله، وأثناء ذلك نُفذت مناورة برية في جنوب لبنان حتى خط نهر الليطاني، بهدف تدمير البنية التحتية للحزب في المنطقة، ودفع وحداته العملياتية بعيداً عن الحدود، ووقف إطلاق الصواريخ القصيرة المدى وتوفير الظروف للدفع قدماً بمصالح دولة إسرائيل عندما يتم اتخاذ قرار في مجلس الأمن وفق المعايير التي اقترحتها الولايات المتحدة. وقد أصدر المستوى السياسي توجيهاته لتنفيذ المناورة البرية في عمق جنوب لبنان قبل يوم من الموعد المنتظر لقرار مجلس الأمن، وذلك على ما يبدو انطلاقاً من التصور بأن قراراً يؤدي إلى إنهاء القتال سيضمن عدم انجرار إسرائيل إلى عملية برية طويلة في لبنان.
- يظهر من وصف المراحل الثلاث أن المرحلة الثانية استغرقت وقتاً طويلاً ولم تؤد إلى زيادة الضغط على حزب الله وإلى الشروط الملائمة لإنهاء القتال، وأن إسرائيل لاقت صعوبة في بلورة استراتيجية خروج وآلية لإنهاء المعركة، بينما هي تنتظر قرار مجلس الأمن، والساعة السياسية تمر ببطء شديد. وقد تكررت هذه الظاهرة أيضاً في المواجهات مع "حماس" حين طمحت إسرائيل إلى تقصير أمد المعركة، لكنها في الوقت عينه واجهت صعوبة في اختيار التوقيت والتحرك الملائمين لذلك، وفي المقابل سعت إلى زيادة الإنجاز العسكري إلى أقصى حد من أجل حاجات سياسية.
- لقد كان ضرورياً إجراء تقدير متواصل للوضع منذ بدء المواجهة مع حزب الله، والإشارة إلى التوقيت الصحيح لإنهاء القتال في مرحلة جرى خلالها استنفاد استخدام القوة العسكرية وتحقيق معظم الأهداف السياسية. وقد وصلت الهجمات الجوية والمجهود الناري المقابل إلى وضع استنفاد لقدراتهما بعد أسبوع من القتال - الفترة الزمنية التي تضررت خلالها بشدة منظومة الإطلاق الاستراتيجية لحزب الله ودُمر المركز العصبي الأساسي للتنظيم في مربع الضاحية. وبالإضافة إلى ذلك كانت قيادة الحزب خلال هذه الفترة في حالة صدمة بسبب قوة الرد الإسرائيلي، وخسارة الحزب قدراته الاستراتيجية، وبسبب الشرعية التي منحها المجتمع الدولي وحتى العالم العربي لإسرائيل. وقد اعترف نصر الله بأنه كان مستعداً لإنهاء القتال بعد أسبوع من القتال، خاصة وأن إنجازه المركزي – خطف الجنود – كان بيده منذ بداية الحرب.
- لهذه الأسباب طرحت الوحدة الاستراتيجية في شعبة التخطيط في الجيش توصية لاستراتيجية خروج بعد أسبوع من القتال، لكن المستوى العسكري الرفيع وكذلك المستوى السياسي رفضا التوصية.[6]
الفجوات بين الهدف الاستراتيجي والتنفيذ
- نظراً إلى أنه من الصعب فحص انجازات الحرب خلال حدوثها، نشأ في الكثير من الحالات، وبخاصة في عمليات الرد، انطباع بأنه من الأفضل مواصلة القتال من أجل تعميق الإنجاز العسكري وتحويله إلى إنجاز سياسي. وهذا ما حدث في حرب لبنان الثانية عندما لم يجر تقدير تطورات وضع حزب الله بصورة صحيحة، ولا التبصّر في الإنجازات وما طرأ عليها من تحولات. وأتاح التلكؤ الإسرائيلي لحزب الله تجاوز مرحلة الصدمة والتأقلم مع خطة عمل الجيش الإسرائيلي ومراكمة الإنجازات. جرى ذلك من خلال مواصلة إطلاق الصواريخ على إسرائيل، واثبات عدم قدرة الجيش على إسكات منظومة إطلاقها، ومواصلة حزب الله تكبيد إسرائيل خسائر في عمق أراضيها وعلى الجبهة.
- تعكس المواجهة بين دولة مثل إسرائيل وتنظيم لا - دولتي مثل حزب الله وضعاً أساسياً من عدم التناظر: فالتنظيم الإرهابي لا يتحمل تبعة مسؤوليات سياسية، ويستخدم السكان المدنيين كمجال للاختباء وكدروع بشرية، و"كطعام للمدافع" في دعايته، ويوجه عملياته لمهاجمة مواطني إسرائيل. ويوجد بعد آخر لعدم التناظر يبرز في أهداف الحرب: بالنسبة إلى حزب الله جرى تفسير عدم استسلامه لإسرائيل بأنه انتصار، بينما بالنسبة لإسرائيل، الوضع النهائي الذي لم تتغلب فيه بوضوح على تنظيم إرهابي اعتبر هزيمة. ساهم في ذلك أيضاً نظام إسرائيلي مفتوح ونقدي كشف الثغرات في اتخاذ القرارات والأضرار التي لحقت بالمدنيين وبالجنود وبالجبهة الداخلية، والفجوات بين الجهوزية في الجيش الإسرائيلي والاستخدام المتأخر والمتعثر للمناورة البرية. ومن دون صورة انتصار واضح لإسرائيل، أتاحت الصورة الضبابية لنتائج الحرب التي قدمها حزب الله إلى الجمهور في لبنان له ولزعيمه الإعلان عن "نصر إلهي"، بينما غرق الجانب الإسرائيلي بالانتقادات الداخلية ولجان الفحص والتحقيق في الفشل. ومع مرور السنوات اعترف حزب الله تدريجياً بالخطأ الذي ارتكبه، وبالأثمان التي دفعها ("مشروع إعادة إعمار ما دُمّر" انتهى بعد سبع سنوات)، وامتنع عملياً عن المبادرة إلى مهاجمة إسرائيل من حدود لبنان (أيضاً بسبب الظروف التي نشأت في سورية).
- ما هي أخطاء إسرائيل في إدارة الحرب؟ أولاً: لم يكن هناك إدراك بأن الرد الإسرائيلي السريع وتوجيه ضربة قاسية إلى قدرات حزب الله الاستراتيجية سيؤديان إلى حرب، ولم يعرّف الوضع بأنه حرب. إن الامتناع عن تعريف العملية العسكرية بأنها حرب نابع أيضاً من عائق نفسي وسياسي، لأن إعلان الحرب يخلق توقعات عالية. لهذا السبب، فإن جزءاً كبيراً من المؤسستين السياسية والعسكرية، بما في ذلك الجبهة الداخلية، لم ينتقل إلى حالة الطوارئ والعمل كما تتطلب حالة الحرب. بالإضافة إلى ذلك، تقرر بصورة متأخرة استدعاء الاحتياط، وعندما بدأ ذلك جرت عملية التعبئة ببطء. ولم يجر إعداد قوات الاحتياط كما ينبغي خلال مرحلة الانتظار قبل المناورة البرية، على الرغم أنها بدأت فقط بعد شهر من بدء الحرب. علاوة على ذلك، لم يكن هناك استعداد للتعرض لمخاطر استخدام القوة كما تفرضه حالة الحرب.
- ثانياً: طوال سنوات تركز اهتمام الجيش الإسرائيلي على المواجهات المتواصلة في الساحة الفلسطينية، وقلل ذلك من جهوزيته في الساحة الشمالية ولم يتدرب على مواجهة عسكرية شديدة القوة مع حزب الله. وأخطأ عندما اعتبر أن التجربة العملياتية التي راكمها في محاربة الإرهاب الفلسطيني تؤهله بصورة كافية للمواجهة مع حزب الله. وظهر هذا المس بالجهوزية في وضع مخازن الطوارئ التابعة لفرق الاحتياطيين، وفي قدرات القيادة على التحكم في قيادات الفرق التي خسرت أهليتها لخوض الحرب.
- ثالثاً: لم يكن لدى الجيش الإسرائيلي الرد الملائم على استمرار إطلاق الصواريخ القصيرة المدى، ولا ضد البنى التحتية التي أنشأها حزب الله تحت الأرض، والتي اختبأ وصمد فيها مطلقو الصواريخ. وقد أدى هذا الأمر إلى تلاشي الإنجاز المميز المتمثل في إسكات منظومة الإطلاق الاستراتيجي للحزب وتدمير نحو 90% من منصات إطلاق الصواريخ المتوسطة المدى تلاشت جرّاء عدم القدرة على القضاء على إطلاق الصواريخ القصيرة المدى.
- رابعاً: عشية الحرب وافقت هيئة الأركان العليا للجيش على عقيدة عمل محدثة للجيش، لكن كانت هناك تحفظات كثيرة في الجيش ولذلك لم تدمج على مستوى القوات في الميدان. ونتيجة لذلك نشأت بلبلة على صعيد العقيدة العسكرية بين مستوى هيئة الأركان العامة والقادة الميدانيين في ما يتعلق بأسلوب استخدام القوات.
الدروس الأساسية التي ينبغي على الجيش
استخلاصها من حرب لبنان الثانية
- إن المواجهة غير المتناظرة لا تتمثل فقط في طريقة استخدام القوات، بل تتمثل أيضاً في أهداف الحرب. في حرب لبنان الثانية عرّف العدو غير - الدولتي مرحلة الانتصار باستمرار صموده وبكونه لم يُقهر على يد الجيش الإسرائيلي (الأمر الذي تجلى خاصة في استمرار إطلاق الصواريخ على الجبهة الخلفية المدنية في إسرائيل).
- وفي المقابل، تحقيق أهداف إسرائيل السياسية في هذه الحرب فرض على الجيش إيجاد وقائع واضحة على الأرض لا يمكن أن يتلاعب العدو بها. وكان السبيل إلى ذلك تكبيد العدو خسائر فادحة، أحياناً من خلال تنفيذ مناورة برية في عمق أراضيه، وتخفيض كبير لقدرته على المس بالجبهة الخلفية المدنية والاستراتيجية لإسرائيل.
- كان يتعين على الجيش ان يكون مستعداً لأنواع واسعة من المواجهات، والرد الملائم لنوع معين من المواجهات لا ينسجم بالضرورة مع أنواع أخرى من المواجهات. وهكذا، فإن القدرات والكفاءة التي اكتسبت في المواجهات المحدودة والمستمرة في الساحة الفلسطينية لم توفّر الكفاءة والجهوزية لمواجهات عسكرية مع عدو مثل حزب الله. وهذا الوضع يفرض استخدام قوة أكبر بكثير ضد التنظيم.
- من المهم إجراء تقدير شامل للوضع قبل المواجهة وعند بدئها وخلالها من أجل فحص المشكلة الاستراتيجية التي تتجاوز الحدث الأمني، وصياغة توجيهات سياسية وهدف استراتيجي، وبلورة الفكرة الاستراتيجية لتحقيق الهدف، وفحص عدد من الخيارات لعمل عسكري - سياسي يتلاءم مع الأهداف والأغراض السياسية، والتعمق في دراسة نتائج وانعكاسات الخيار الذي جرى اختياره قبل المضي به.
- وهناك بعد آخر هو المعركة السياسية التي لا يمكن أن تتحقق إنجازات كبيرة فيها من دون إنجازات واضحة في ساحة القتال. ومن أجل النجاح في المعركة السياسية مطلوب خمسة مكونات أساسية:
- شرعية دولية، أي عدم اتهام إسرائيل بأنها سبب لنشوب الحرب
- إنجازات واضحة في ساحة القتال، أي انتصار قادر على أن يفرض على العدو شروط إسرائيل لوقف إطلاق النار.
- استنفاد الإمكانية الإقليمية والدولية من أجل الدفع قدماً بأهدافنا السياسية.
- التنسيق الكامل مع الولايات المتحدة في ما يتعلق بأهداف الحرب وسبل تحقيقها، الأمر الذي يفرض أخذ المصالح الأميركية في الاعتبار.
- احترام قوانين الحرب، مع تقليص الضرر غير المقصود، والامتناع قدر المستطاع عن المس بالأبرياء في جانب العدو.
- ثمة نقطة إيجابية يجب تبنيها من حرب لبنان الثانية هي التضافر بين المساعي العسكرية والسياسية والقانونية والإنسانية التي جرت بقيادة رئيس طاقم ديوان رئيس الحكومة. إن النظرة المتعددة المجالات ضرورية في مرحلة المواجهات الحالية والمطلوب بذل الكثير من أجل تحسينها وتطويرها.[7]
خلاصة
- على الرغم من القرارات الإشكالية والإخفاقات في إعداد الجيش الإسرائيلي وفي استخدام القوة في حرب لبنان الثانية، فإن الفوارق الكبيرة في القوة بينه وبين حزب الله تركت التنظيم اللبناني مصاباً بشدة، وأجبرته على تغيير طريقة عمله وسلوكه الاستراتيجي إزاء إسرائيل. وغرق الحزب في السنوات التي أعقبت الحرب، في الحرب الأهلية في سورية، وبذلك نالت إسرائيل عشر سنوات من الهدوء على حدودها الشمالية.
- إن النقطة الأكثر أهمية هي ضرورة عدم خوض معركة عسكرية من أجل تحسين نتائج وصورة معركة سابقة، ويجب فحص كل معركة عسكرية بما يتلاءم مع السياق الاستراتيجي الخاص والمتغير وتوجيه استخدام القوة بما يتلاءم مع أهداف استراتيجية تضعها حكومة إسرائيل.
- ممنوع أن يؤثر الانطباع بـ"تضييع" الفرصة وعدم استنفادها لتوجيه ضربة قاسية إلى حزب الله في حرب لبنان الثانية، على الهدف الاستراتيجي لمعركة عسكرية مستقبلية في مواجهة التنظيم. ويمكن القول إنه في الوضع الاستراتيجي الحالي، ثمة معقولية عالية بأن مثل هذه الحرب غير مرغوب بها.
[1] - جدعون ألون، وآساف أوني، واللواء بن يوآف شترين، "نصر الله : لو عرفنا ما سيؤدي إليه خطف الجنديين ما منا فعلنا ذلك"، "هآرتس"، 26/8/2006،
[2] - يمكن العثور على دلائل على الاجواء السائدة في حزب الله في خطاب حسن نصر الله في 26 أيار/مايو "خيوط العنكبوت"
“Sayyed Speech in Full on 26 May 2000 – Resistance and Liberation Day”, Al-Maaref Islamic Net, May 21, 2013, http://english.almaaref.org.essaydetails.php?eid=3886&cid=286
[3] - من أجل المزيد من المعلومات في هذا الشأن انظر: غيورا أيلاند، "حرب لبنان الثانية- دروس على المستوى الاستراتيجي"، تسفا فاستراتيجيا، المجلد الأول، عدد 2 (تشرين الأول/أكتوبر 2009)، من صفحة 7 إلى صفحة 18.
[4] -يتسحاق بن يسرائيل، "معركة الصواريخ الأولى"، ورقة عمل مقدمة إلى كلية الحكم والسياسات، جامعة تل أبيب، أيار/مايو 2007، من ص 12-25.
[5] - المصدر نفسه.
[6] - عوفر شيلح ويوآف ليمور، " أسرى في لبنان"، (تل أبيب: يديعوت أحرونوت ومكتبة حمد، 2007) من صفحة 17-23.
[7] - أودي دِكيل، وعومر عيناف، الحاجة إلى تحديث عقيدة الأمن القومي: استراتيجية تأثير متعدة المجالات، "مباط عال"، العدد 733، 13/8/2015. [يمكن الاطلاع على نص المقال مترجماً ضمن ملاحق عسكرية استراتيجية لنشرة مقتطفات من الصحف العبرية تاريخ 13/8/2015. انظر.
http://www.palestine-studies.org/sites/default/files/malaheq/Dekel-Inaf.pdf