معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛ وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.
- إن مفهوم الأمن القومي لدولة إسرائيل يحدد سبل تحقيق الرؤية القومية مثلما صيغت في إعلان الاستقلال: "تكوين وطن قومي لشعب إسرائيل، وضمان وجوده وازدهاره". وتشمل اعتبارات الأمن القومي بالدلالة الموسعة الأمور التالية: 1) أمن خارجي وأمن داخلي؛ 2) علاقات إسرائيل الخارجية ومكانتها الدولية؛ 3) نمو اقتصادي وموارد؛ 4) حكم فعّال - القدرة على اتخاذ قرارات وعلى إنفاذها؛ 5) تماسك ومناعة المجتمع المدني.
- ومع تمسك مفهوم الأمن القومي بالقيم الأساسية، عليه أن يتكيف مع الاتجاهات والمسارات الجارية في بيئة إسرائيل الخارجية والداخلية. منذ تأسيسها تواجه إسرائيل تهديدات أمنية خطيرة، الأمر الذي يعطي الأولوية للأمن وللرد العسكري على التهديدات الخارجية. لكن على الرغم من تبدل البيئة الاستراتيجية، يبدو أن إسرائيل لا تزال أسيرة مفهوم أمنها القومي التقليدي. ويقوم هذا المفهوم على ركائز "الردع" و"الإنذار المبكر" و"الحسم"، التي حددها دافيد بن غوريون في العقد الأول لقيام الدولة. وأضيفت ركيزة "الدفاع" الرابعة بشكل رسمي قبل عشرة أعوام. لم تهتد حكومة إسرائيل بعد إلى الدرب الصحيح المؤدي إلى تحديث المفهوم التقليدي الذي لا يزال متأثراً بالتهديدات العسكرية التي تراجعت بشكل ملحوظ، وإلى جعل هذا المفهوم ملائماً لمواجهة التحديات الحالية والمستقبلية. إن غاية الاستراتيجيا المحدثة الرامية إلى دفع المصالح والأهداف السياسية والأمنية لدولة إسرائيل إلى الأمام، هي التأثير في ما وراء حدود الدولة بواسطة سياسات مبنية على منطق تفعيل الجهود في مجالات متعددة في آن معاً. وهناك أيضا مسائل داخلية مثل التوحد حول هدف واحد والمناعة الاجتماعية والاقتصادية اللذان يشكلان أساساً حيوياً لهذا المفهوم المحدث، لكن يتعذر نقاش ذلك في هذه المقالة لضيق المجال.
تغيّر الفرضيات الأساسية
- في أساس الإدراك بأنه ينبغي بلورة مفهوم أمني قومي محدث، هناك فرضيتان أساسيتان منفصلتان يعكس تضافرهما وضعاً مختلفاً عن الوضع الذي كان سائداً في ما مضى. الأولى هي عدم وجود تهديد عسكري وجودي محدق بإسرائيل بسبب تدعيم قوتها العسكرية وقوة ردعها في وجه جاراتها. إن التهديد العسكري الوجودي من وجهة نظر إسرائيلية المتمثل في تحالف عسكري شامل لجيوش عربية نظامية ضد إسرائيل، كان في أساس مفهوم الأمن القومي للدولة الحديثة العهد. لكن بعد 25 عاماً من الحروب (1948 - 1973)، بدأ مسار تدريجي أثمر اعترافاً إقليمياً واسعاً بوجود دولة إسرائيل - سواء رسمياً بمعاهدات مع كل من مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، أو بحكم الأمر الواقع من جانب معظم الدول العربية. أما الفرضية الثانية فهي ناتجة عن الاضطرابات التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط، وأدت إلى إضعاف كبير لمنظومة الدول القائمة، رافقها صعود "لاعبين آخرين" على خلفية صراعات دينية وعرقية وطائفية كسرت قواعد اللعبة بين الدول في المنطقة. وقد حولت هاتان الفرضيتان إسرائيل إلى عنصر ثانوي في صراعات القوى الحالية في منطقة الشرق الأوسط. وفي المقابل، على الصعيد الداخلي، زادت اتجاهات الانطواء والانعزال في وسط الجمهور الإسرائيلي، ومنشؤها كامن في عدم جدوى محاولات إقامة علاقات طبيعية مع الدول في المنطقة، والإخفاقات المتكررة لمحاولات التوصل إلى تسوية دائمة مع الفلسطينيين، وارتباط أوثق بالعالم الغربي. وتتجلى هذه الاتجاهات بتزايد أهمية الأجندة الاجتماعية والاقتصادية في إسرائيل.
- على ضوء هذا التغيّر في الفرضيات الأساسية، يتبين أن ركائز مفهوم الأمن القومي التقليدية لم تعد كافية لضمان رد متكامل وفاعل على جميع التحديات والتهديدات المستجدة.
- الردع- يهدف الردع إلى تأخير جولات المواجهة قدر المستطاع، وإلى تحديد قواعد اللعبة تحت وفوق عتبة الحرب. بيد أنه في عالم لاعبين "غير دولتيين" تزداد صعوبة تعيين مراكز ثقل من أجل إلحاق الأذى بالأعداء وتهديدهم لفترة طويلة، وصعوبة تقدير نقطة التحول التي يفقد فيها الردع فاعليته، ويصبح من الضروري القيام بعملية [عسكرية] لترميمه.
- الإنذار المبكر- على مر السنين، أصبح المطلوب من أجهزة الاستخبارات أشمل وأكثر تنوعاً من مجرد إنذار بحرب وشيكة، فالمطلوب اليوم هو إنذار استخباراتي استراتيجي بشأن تبدل الاتجاهات في المنطقة (ومن ضمنها فرص إقامة علاقات سلام وتعاون). وفي الوقت ذاته، لا تزال هناك حاجة إلى إنذار عملاني من أجل بناء جهوزية وقدرات، ومن أجل تمكين القوة العملانية من التصدي لمختلف التهديدات - التقليدية وغير التقليدية والإرهابية.
- الحسم- إذا فرضت علينا مواجهة أو حرب ضد لاعبين ليسوا دولاً وليس ضد جيوش نظامية، فلا ينبغي أن تكون الغاية الاستراتيجية السعي إلى حسم المعركة، انطلاقاً من إدراك أنه لا يمكن حرمان هؤلاء اللاعبين من إرادتهم وقدرتهم على مواصلة إلحاق الأذى بإسرائيل. وكذلك عندما تتطور المواجهة مثلما حدث أربع مرات خلال العقد الأخير، فلا يمكن تحقيق انتصار حاسم على الأعداء بوسائل عسكرية فحسب، سواء بسبب تحديد هدف سياسي محدود جداً، أو بسبب مقيدات استخدام القوة المنصوص عليها في القانون الدولي والتي تتأثر بتدني المشروعية الدولية لاستخدام قوة عسكرية في مناطق مأهولة بالسكان. أضف إلى ذلك التخوف من أن تتحمل إسرائيل عبء رعاية سكان الخصم.
- الدفاع- تحول إلى ركيزة [رابعة] ازدادت أهميتها في حقبة المواجهات الحالية مع تحول الجبهة الداخلية إلى جبهة رئيسية بسبب تركيز الأعداء على امتلاك قدرات المساس بالسكان المدنيين وبالعمق الاستراتيجي من خلال الأسلحة ذات المسار المنحني [الصواريخ] على اختلاف أنواعها والهجمات الإرهابية. وبقدر ما تكون طبقات الدفاع سميكة وأكثر فاعلية، تزداد المرونة المتاحة على صعيد صنع القرار - هل ينبغي ومتى ينبغي استخدام الرد العسكري – وإمكانية المحافظة على استمرارية عمل الأجهزة الحيوية في الجبهة الداخلية وضمان عودة سريعة إلى الحياة الطبيعية اليومية.
تدعيم مكانة إسرائيل الإقليمية
- إن الوضع المبين أعلاه يطرح على إسرائيل أسئلة خطيرة بشأن المحافظة على مكانتها الإقليمية ومنع تآكل قوتها وردعها في مواجهة خصومها، بعد أن أضحت المواجهات العسكرية الشاملة بين جيوش نظامية غير واردة نظراً الى تبدل ساحة القتال وموازين القوى الإقليمية. وقد نشأت صعوبة ليس فقط بالنسبة لإمكانية تحقيق مكاسب سياسية من مواجهات عسكرية، وإنما أيضاً فيما يتعلق بتقليل الضرر السياسي والأذى اللاحق بصورة إسرائيل من جراء استخدام القوة العسكرية.
- إن النتائج غير القاطعة لجولات القتال المكثفة في العقد الأخير ضد كل من حزب الله وحركة "حماس" والإرهاب على وجه العموم، وكذلك النتائج اللاحقة وغير المقصودة لهذه الجولات، قادت إسرائيل إلى تطوير مفهوم "المعركة ما بين الحروب"، الرامي إلى المحافظة على الفجوات في القوة وفي الردع بين إسرائيل وأعدائها. و"المعركة ما بين الحروب" أداة مصممة للمحافظة على الردع الإسرائيلي على ثلاثة مستويات: إحباط أو تخريب جهود التعاظم لدى الأعداء؛ إظهار التفوق العسكري لإسرائيل من خلال أنشطة متعددة سرية ومفاجئة؛ إعداد بنية تحتية عملانية يجري تفعيلها عند الضرورة. فضلاً عن ذلك، فهناك مكان حيوي محفوظ لإظهار تصميم إسرائيل على العمل عند الضرورة، والغاية منه تعزيز صدقية الردع تجاه الأعداء. إن "المعركة ما بين الحروب" تقدم رداً معيناً على الفجوة بين حاجات إسرائيل والقيود الاستراتيجية التي تعمل إسرائيل في إطارها. إنها مبنية على ميل إسرائيل إلى تفضيل المكونات العسكرية في قدراتها انطلاقاً من مقولة إن المنطقة التي نعيش فيها لا تفهم سوى لغة القوة. بالإضافة إلى ذلك وفي المجال العسكري، تعتبر حكومة إسرائيل أن لديها منظومة احترافية ذات قدرة تنفيذية أثبتت جدارتها، ومسارات منظمة من التخطيط والتنفيذ والتعلم.
المقاربة المتعددة المجالات: التأثير في البيئة الاستراتيجية
- إن ميل إسرائيل إلى استخدام وسائل عسكرية لا يقدم رداً شاملاً ومناسباً لاحتياجات الحاضر. والاستنتاج الرئيسي النابع من الواقع الآخذ في التشكل هو أن المطلوب مقاربة متعددة المجالات، مركبة ومتطورة، مبنية على إدارة منظومات تجمع بين أدوات سياسية ودبلوماسية و"دبلوماسية عامة" [عمل دعائي]، ووسائل إعلام استراتيجية، وإعلام حديث، وحرب إعلامية، وأدوات اقتصادية، وقضائية، و"سايبر" وما إلى ذلك. إن تجربة الماضي، وفحواها أن التدخل المفرط أدى إلى فشل "صنع ملوك" في لبنان، أو إلى فشل [تجربة] أن تكون لحركة "حماس" اليد العليا، قد أنتج جموداً فكرياً وجد تعبيره في قرار قاطع بعدم التدخل وعدم محاولة صناعة وضع أفضل ما وراء الحدود، باستثناء إحباط تهديدات محدقة. هذا الدرس ملائم لحقبة وسياق مختلفين. وبالذات في الزمن الحالي الذي يتسم بتفكك الأطر القديمة، هناك مجال لممارسة جهود للتأثير في تشكيل البنى الجديدة. والمطلوب هو، من ناحية، بلورة طريقة صحيحة للتدخل لا ترمي إلى فرض مسارات مفتعلة ذات مضار كامنة كبيرة، ومن ناحية أخرى، لا تتجاهل الاتجاهات الرئيسية في الساحة.
- إن الغاية التي ينبغي العمل بموجبها هي تحقيق أقصى قدر من التأثير في البيئة الاستراتيجية المحيطة من طريق استخدام أدوات متنوعة على مستويات متعددة. وعلى سبيل المثال: 1) الوصول مباشرة إلى سكان الخصم من خلال "الدبلوماسية العامة" باستعمال وسائط الإعلام الحديثة، وتقديم مساعدة إنسانية [لأفراد] وصولا إلى مستوى [تقديمها لـ] مجتمعات محلية؛ 2) استخدام وسائل [قوة] ناعمة مثل حرب معلوماتية، وعتلات اقتصادية، ووسائل قانونية، وأدوات تخريب سياسية، وترتيبات تتعلق بالمياه والطاقة، ومساعدة أمنية وتكنولوجية، ومبادرات من القطاع الخاص والمدني؛ 3) تعاون مع جهات فاعلة لديها مصالح متداخلة مع مصالح إسرائيل- حالياً الأمر بارز في علاقات وتعاون إسرائيل مع الأردن ومصر وحتى مع أجهزة أمن السلطة الفلسطينية. ويمكن توسيع هذا الإطار ليشمل دولاً عربية براغماتية عبر التوصل إلى تفاهمـات بشأن مصالح مشتركة، حتى أبعــد مــن المجال الأمني؛ 4) حرب "سايبر"، لتعطيل قدرات الأعداء والتأثير في قدراتهــم؛ 5) بناء منظومة قانونية ودعائية غايتها تقليص عزلة إسرائيل في المحافل الدولية، وتخفيف الضرر اللاحق بمشروعيتها، وتخفيف القيود والعقوبات ضدها ولا سيما عندما تدعو الضرورة إلى استخدام القوة لغرض الدفاع عن النفس.
- إن المقاربة المتعددة المجالات تتطلب سيطرة منظومية تشمل تخطيط جميع الجهود وتنسيقها وتزامنها الفعال بهدف تعظيم التأثير الإسرائيلي في المنطقة وخفض التهديدات، وفي المقابل توفير الفرص وتعزيزها. وتتيح الإدارة المنظومية استخدام وسائل عسكرية – ذات قدرات دقيقة وملحوظة على إلحاق الأذى بقدرات العدو - فضلاً عن وسائل ناعمة، مستخدمة بطريقة ذكية ومنسقة. إن تفعيلاً منظومياً متعدد المجالات من شأنه أن يدفع قدماً غاية سياسية متمثلة في تدعيم موقع ومكانة إسرائيل كعنصر رئيسي في منطقة الشرق الأوسط، من دون المساس بصورتها الردعية كصاحبة قدرات أذى ملحوظة، جنباً إلى جنب مع تقديم صورة إيجابية متمثلة في إسهامها في بناء وتنمية ومساعدة المحيط الإقليمي.
- إن المبادئ الحيوية التي من شأنها أن تساعد في بلورة مقاربة متعددة المجالات تتتمثل في الحفاظ على مرونة فكرية وفي تطوير مسارات تعلم خاصة بصانعي القرار، بهدف الاستجابة للتغيرات المتكررة والفرص الناشئة، مع الحرص على اجتناب "تضخيم" المخاطر والتهديدات التي قد تحبط أي مبادرة سياسية أو مدنية. ومن شأن التفكير والأداء بموجب مقاربة متعددة المجالات أن يسهم في نهاية المطاف في تطوير ردود عملية أكثر في مواجهة التحديات المستجدة. ولكي يتجسد مفهوم التأثير المتعدد المجالات، ينبغي تطبيق مسارات تعلم وغرسها ومأسستها، وينبغي بلورة مسارات وهيكلية تنظيمية ملائمة، وتعيين مدير منظومة (مشغل) متعدد المجالات، خاضع مباشرة لسلطة رئيس الحكومة.