حرب غزة صيف 2014: إعادة تقييم عملية "الجرف الصامد"
المصدر
مركز بيغن-السادات للدراسات الاستراتيجية

تأسس في سنة 1993 على يد الدكتور توماس هيكت، وهو من زعماء اليهود في كندا، وكان تابعاً لجامعة بار إيلان، وأُطلق عليه هذا الاسم تخليداً لذكرى اتفاق السلام الإسرائيلي -المصري الذي وقّعه مناحيم بيغن وأنور السادات. يعالج مسائل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني والصراعات في المنطقة والعالم. يميل نحو وجهة نظر اليمين في إسرائيل. كما أصدر المركز مئات الدراسات والكتب باللغتين العبرية والإنكليزية.

شنّت إسرائيل في 8 تموز/يوليو 2014، ردّاً على إطلاق وابل من القذائف الصاروخية والصواريخ من قطاع غزة ضد تجمعاتهاالسكانية، غارات جوية وضربات مدفعية مكثفة ضد تنظيم [حركة] "حماس" الإسلامي الإرهابي الذي يسيطر على القطاع منذ العام 2007. ولما فشلت هذه الغارات في وقف إطلاق الصواريخ، اجتاحت قوات الجيش الإسرائيلي القطاع بأعداد كبيرة في 17 تموز/يوليو. وبعد ثلاثة أسابيع من القتال الضاري، انسحب الجيش الإسرائيلي إلى الحدود الدولية، لكنه واصل حملة الغارات الجوية حتى دخول وقف النار حيز التنفيذ في 26 آب/أغسطس.

كانت عملية "الجرف الصامد" وهو الاسم الذي أطلقه [الجيش الإسرائيلي] على هذه الحملة، حرب إسرائيل الثالثة ضد حركة "حماس" في غضون خمسة أعوام. لكن، خلافاً للمواجهتين السابقتين، لم تكن نتيجتها حاسمة. ولئن مُنيت حركة "حماس" بخسائر بشرية فادحة وتراجعت قدراتها العسكرية على نحو خطير، إلا أنها قاومت بعناد خصماً متفوقاً وتمكّنت من إخضاع أغلبية سكان إسرائيل إلى ضربات صاروخية متواصلة طيلة سبعة أسابيع كاملة. ولما أعلن كلا الجانبين الانتصار، وانزلقت العلاقات الفلسطينية - الإسرائيلية إلى دوامة، فإن حرباً رابعة في قطاع غزة ليست إلا مسألة وقت.

انزلاق إلى حرب

إن الذي أطلق شرارة النزاع كان خطف وقتل ثلاثة مراهقين يهود كانوا في الضفة الغربية على أيدي مجموعة إرهابيين تابعين لحركة "حماس" في 12/6/2014.[1] ولما باشرت إسرائيل توقيف مئات المشبوهين واستجوابهم، شنت حركة "حماس" هجوماً مكثفاً بالقذائف الصاروخية وقذائف الهاون من قطاع غزة باتجاه تجمعات إسرائيل السكانية: وإذا كان الفلسطينيون قد أطلقوا من قطاع غزة ما يقارب 200 صاروخ وقذيفة مدفعية على مدار العام ونصف المنصرم، فقد أطلقوا ما يقارب 232 خلال الأسابيع الثلاثة التي تلت الاختطاف.[2] ردّت إسرائيل بضربات جوية دقيقة استهدفت فرق بطاريات إطلاق الصواريخ أملاً في وقف سريع للهجمات الصاروخية، إلا أن النتيجة كانت تصعيد القتال من قبل حركة "حماس"، مما لم يترك أمام الإسرائيليين سوى خيار شن حملة عسكرية شاملة.

لكن على مستوى أعمق، فقد جاء هذا الانفجار نتيجة طبيعية للأزمة المالية الحادة والعزلة السياسية المتزايدة لحركة "حماس". رسمياً، أغلقت الحدود بين قطاع غزة ومصر منذ استيلاء الحركة على قطاع غزة عام 2007. لكن، بشكل غير رسمي، كان يتم نقل البضائع إلى قطاع غزة عبر أنفاق متعددة محفورة تحت الأرض على الجانبين المصري والغزاوي لمدينة رفح الحدودية. وبلغت التجارة المزدهرة ذروتها مع وصول جماعة "الإخوان المسلمين" المصريةإلى الحكم، المنظّمة الأم لحركة "حماس". وتحوّلت شبه جزيرة سيناء مع الثورة في مصر وصعود الموجة الإسلامية في العالم العربي، إلى منطقة خارجة عن سلطة الدولة، تستخدم في عمليات تهريب متزايدة، وقاعدة للتدريب والاحتفاظ بترسانات أسلحة بعيداً عن عيون إسرائيل الساهرة.[3]

كانت عودة النظام العسكري بقيادة الفريق أول عبد الفتاح السيسي وانتخابه اللاحق رئيساً للجمهورية، أمراً مفجعاً بالنسبة لحركة "حماس". فقد اعتبر النظام المصري الجديد الحركة حليفاً لجماعة "الإخوان" المكروهة ولسائر المجموعات الإسلامية التي تتعدى على القوات العسكرية المصرية في شبه جزيرة سيناء. وفي صيف العام 2013، تمثّل الرد الانتقامي للسيسي بإغلاق أنفاق التهريب لحركة "حماس"، مما خفّض إلى النصف تقريباً مداخيل الحركة السنوية.[4] أضف إلى ذلك أن مساعدات إيران إلى حركة "حماس" خُفّضت بشكل جذري نتيجة دعم الحركة للثوار الإسلاميين السنّة المناوئين لنظام الأسد المدعوم من طهران.[5]

وتبعاً لذلك، بدأت حركة "حماس"، منذ أواخر العام 2013، تجد صعوبة في دفع الرواتب وفي تمويل الخدمات العامة لسكان قطاع غزة. وحاولت حلّ هذه المشكلة من خلال المصالحة مع حركة "فتح". وفي نيسان/أبريل 2014، شكّلت [مع حركة "فتح"] حكومة وحدة وطنية برئاسة "فتح" على أمل أن يؤدي هذا الترتيب إلى تأمين رواتب موظفي قطاع غزة الحكوميين.[6] بيد أن الحكومة [الفلسطينية] التي تسيطر عليها حركة "فتح"، وفي سعيها للاستفادة من تقدّمها النسبي لإضعاف حركة "حماس" أكثر في الصراع السياسي الفلسطيني الداخلي، قامت بتأمين رواتب الموظفين "غير الحمساويين" فقط. وفي ظل هذه الظروف المشتائمة، شعرت قيادة حركة "حماس" بأنها مجبرة على استخدام القوة ضد إسرائيل لتعزيز مكانة الحركة على الصعيد القومي وتدعيم وضعيّتها الاستراتيجية.

من وجهة النظر الإسرائيلية، يمكن تقسيم عملية "الجرف الصامد" إلى ثلاث مراحل. تمثلت الأولى بضربات جوّية دقيقة (8-17 تموز/يوليو)، في حين شملت الثانية التوغل البرّي داخل قطاع غزة (17 تموز/يوليو- 4 آب/أغسطس)، والغاية منهاضرب قدرات حركة حماس وتدمير شبكتها الواسعة من الأنفاق الهجومية. وبعد إعلان الجيش الإسرائيلي عن تحقيق هذه الأهداف، ومن ضمنها تدمير 32 نفقاً، انسحب الجيش إلى الحدود الدولية، وواصل تنفيذ ضربات جوّية، بينما كان يتفاوض على وقف إطلاق النار عبر وسطاء مصريين.

درست الحكومة الإسرائيلية اجتياح قطاع غزة على نطاق شامل، لكنها رفضت هذه الفكرة تجنباً لوقوع خسائر بشرية عسكرية إسرائيلية ومدنية فلسطينية على السواء، ونظراً الى غياب استراتيجيا خروج واضحة.[7] وحيث ان حركة "حماس" فطنت إلى هذه الحقيقة، شعرت بأنها تستطيع الإفلات من عاقبة أفعالها، فاستمرت في ضرب تجمعات سكانية إسرائيلية. وفي 26 آب/أغسطس، بدأت حركة "حماس" تشعر بالضغط على ما يبدو، فوافقت على وقف إطلاق النار لمدة شهر من دون شروط مسبقة، ولا تزال هذه الهدنة ثابتة حتى كتابة هذا المقال. وفي ما اعتبر تنازلاً صغيراً، وافقت إسرائيل على توسيع منطقة الصيد البحرية المسموح لصيادي قطاع غزة بالعمل فيها.

دروس عسكرية
قبل عملية "الجرف الصامد"، كان الجيش الإسرائيلي مضطراً لاتخاذ بضع قرارات متعلقة ببنية قوته المستقبلية نتيجة تقليص الميزانية. بالفعل، كان الجيش الإسرائيلي يعتبر أن عليه أن يختار واحداً من خيارين: تعزيز نقاط ضعفه النسبية (قدرة المناورة الهجومية للقوات البرية)، أو على العكس، زيادة مكامن قوته النسبية (القوة النارية standoff fire، الأسلحة دقيقة التوجيه، الاستخبارات، السايبر، والقوات الخاصة). واختار الجيش الإسرائيلي على ما يبدو مسار العمل الثاني، مع أن نتائجه ومضاعفاته بالنسبة لقواته البرية النظامية [الموضوعة في الخدمة الفعلية] والاحتياط قد تكون ملحوظة: تقليص خطط التزود بناقلات جند مدرعة من طراز "نَمِر" (Namer APC)؛ إرجاء مشاريع تطوير وإنتاج دبابات ميركافا-5؛ إغلاق وحدات مدرعة ومدفعية وجوية؛ وخفض ساعات التدريب بشكل مقلق. وقد تجد القوات البرية نفسها بمأزق شديد مثلما حدث قبيل حرب لبنان عام 2006.[8]

إن الفرضية التي استند إليها هذا القرار هي أن القدرات الفريدة للقوات البرية قد تصبح أقل ملاءمة لغرض القضاء على تهديدات مستقبلية، وبالتالي، لم تعد ضرورية بهكذا أعداد كبيرة. بدلاً من ذلك، تقرّر أن النيران الدقيقة والبعيدة المدى، وغارات القوات الخاصة الموجهة من خلال استخبارات دقيقة يمكنها أن تدمر بسرعة قدرات العدو. بيد أن هذا الأمر يفترض استطاعةَ توقّع طبيعة هذه التهديدات، مثل: تنبؤ أن الجيش الإسرائيلي لن يواجه عدواً متناظراً (جيشاً نظامياً، حرباً شاملة). فالجيوش الخصمة موجودة حقاً، بيد أن المخطّطين في الجيش الإسرائيلي افترضوا أنها لن تُستخدم.[9] إن استشراف المستقبل صعب دائماً، لكن المخطّطين العسكريين الإسرائيليين تخيّلوا تكرار سيناريوعمليات سابقة حين كان تفوّق إسرائيل الجوّي يضْغَط على أعداءٍ بحثاً عن سبلٍ لإنهاء النزاع المسلح. لكن عملية "الجرف الصامد" لم تكن على مستوى هذه التوقعات، فقد تبيّن أن القتال البري أشرس مما كان متوقعاً.

وفي عملية "الرصاص المصهور" (كانون الأول/ديسمبر 2008- كانون الثاني/يناير 2009)، وعندما توغّلت قوات برية إسرائيلية في قطاع غزة، لاذت قوات "حماس" البرية بالفرار. أما هذه المرة، فقد قاتلت بضراوة لحماية شبكة الأنفاق. وتكبدت القوات الإسرائيلية الباحثة عن الأنفاق داخل قطاع غزة ما يقارب 700 إصابة - 45 من بينها إصابات قاتلة- مع أن عدد الإصابات في وسط المقاتلين الفلسطينيين كان أعلى بشكل لافت.[10] وبينما كان الإسرائيليون يبحثون عن الأنفاق، شنت حركة "حماس" ثلاث غارات داخل إسرائيل عبر أنفاق غير مكتشفة حتى ذاك الحين. سقط معظم المهاجمين قتلى، لكن الجيش الإسرائيلي تكبّد عدداً من الإصابات. لم توقف المعركة البرية إطلاق قذائف وصواريخ فلسطينية، لكنها قلّصت عددها بصورة كبيرة.[11] كما نفّذت حركة "حماس" عمليتين بَرْمائيّتين في أيام الحرب، لكنهما كُشفتا، وقُتل جميع من شارك فيهما.

يجري الجيش الإسرائيلي حالياً دراسة للعملية بهدف تحسين بنية قوته وجهوزيته، واضعاً نصب عينيه المستقبل وجبهات أُخرى. وتقوم فرق تابعة للجيش الإسرائيلي بإجراء تحقيقات على المستويات العملانية والتكتيكية. وكُلّف كل فريق استقصاء بالتحقيق في مجال محدَّد من العمليات، مثل: الاستخبارات، القيادة والتحكم، المواجهة والمساندة بالمدفعية، إدارة المخزون، وما إلى ذلك.[12] مع العلم بأن بعض هذه المجالات [والدروس] قد تهمّ جيوشاً غربية أخرى ملتحمةً مع أعداءٍ مشابهين في منطقة الشرق الأوسط. إن حركة "حماس" تنظيم حسن القيادة، والتجهيز، والتدريب. ومع أنه ليس متطوّراً مثل قدوته "حزب الله"، يبقى أنه أكثر قدرة من العديد من المجموعات الجهادية الأخرى في منطقة الشرق الأوسط.

هناك درسان مهمان هما أن العمليات الجوية والقوة النارية (standoff fire) ليست كافيةً لحسم المعركة، وأن القتال البري [الميداني] ضروريٌّ ضد أعداء قادرين على التكيّف مثل حركة "حماس". ويتطلب القتال البري قدرات متميّزة في العمليات المشتركةوالمشتركة التي تتطلب مشاركة عدة أذرع من الجيش، والقدرة على المناورة الهجومية، والحماية. وقد ثبت بلا أدنى شك، فائدةُ الدبابات الثقيلة وناقلات الجند المدرعة، المحصّنة جيداً. وخاضت أنظمةُ الحماية الفاعلة المركّبة على العربات المدرّعة، مثل نظام "تروفي" (Trophy)، معمودية النار وأثبتت قدرتها على خفض عدد الإصابات في المناطق المشْبَعة بصواريخ مضادة للدروع. وتبعاً لذلك، رجع الجيش الإسرائيلي عن قراره القاضي بتقليص برنامج ناقلات الجند المدرعة، برنامج "نَمِر" (Namer APC)، وهو يقوم حالياً بتعديل أولويات الميزانية من أجل شراء المزيد من الوحدات.[13] وجاء قرار شراء المزيد من ناقلات الجند المدرعة الثقيلة على حساب اقتناء طائرة في-22 أوسبري (V-22 Osprey) الأميركية التي تعمل بتقنية المراوح القابلة لتغيير الاتجاه (tilt rotor) [تجمع بين القدرة على الإقلاع والهبوط العمودي مثل طائرات الهليكوبتر وسرعة التحليق العالية]، المصمّمة لنقل القوات الخاصة إلى عمق أرض العدو.[14]

وأشارت دروس أخرى إلى ضرورة تنفيذ عمليات مشتركة في مناطق مدينية كثيفة السكان تحوي شبكات أنفاق متطورة وممرات تحت الأرض.[15] وهناك درس آخر متمثل في أهمية أنظمة القيادة والتحكم الرقمية التكتيكية، ونشر الاستخبارات التكتيكية بفاعلية.

ففي حرب لبنان عام 2006، عانى عدد من الوحدات من شُحّ في المعلومات الاستخبارية التكتيكية؛ أما في قطاع غزة، فقد اشتكى قادة وحدات أحياناً من أنهم أُغرقوا بمعلومات أكثر من اللازم، وهذا يُعزى جزئياً إلى إدماج أنظمة اتصالات ومعلومات مستحدثة. ويسعى الجيش الإسرائيلي في الوقت الحاضر إلى تحقيق التوازن المطلوب. أما مجالات التشخيص الأخرى فهي إدارة وسائل الإعلام ومشكلة الحرب القانونية(السعي إل تحقيق أهداف استراتيجية من خلال مناورات قانونية هجومية). وهناك درس مستخلص قد بدأ العمل به: يستخدم الجيش الإسرائيلي حالياً فرق استقصاء تضم ضباطاً كباراً من الاحتياط للتحقيق في حوادث محددة أو في مجالات باعثة على القلق، ويحيل بسرعة التقارير إلى قيادة الجيش للاستجابة، أو لتغيير مسار عمل معين، مثل: استخدام المدفعية في مناطق مأهولة.[16]

وهناك دروس مهمة تتعلق بسبل استخدام التكنولوجيات والعقيدة القتالية من أجل الكشف عن الأنفاق وتدميرها. الكثير مما طُبّق خلال عملية 2014 كان مستحدثاً وستجري الآن مأسسة هذه التطبيقات. وكشفت العملية أيضاً مشكلات على صعيد مخزون بعض الأسلحة. وتبعاً لذلك، قرر الجيش الإسرائيلي زيادة ترساناته والبحث عن طرق متطورة لإدارة معدلات إطلاق النار خلال هكذا عمليات.[17]

أما منظومة "القبة الحديدية" الدفاعية المضادة للصواريخ، فقد نجحت في اختبار الصمود الأهم حتى الوقت الحاضر. فعلى الرغم من إطلاق آلاف القذائف الصاروخية والصواريخ ضد المراكز السكانية، سقط قتيلان مدنيان إسرائيليان فقط. وفي الإجمال، دمّرت المنظومة 90% من القذائف الصاروخية والصواريخ المهاجمة.[18] لكن منظومة "القبة الحديدية" لم تستطع حماية البلدات القريبة من حدود قطاع غزة، والتي عانت الأمرين من نيران قذائف الهاون التي لم تنقطع. ومع ذلك، فإن الفاعلية المثبتة لبطاريات "القبة الحديدية" التي اعترضت معظم القذائف الصاروخية المهاجمة، أتاحت استمرار جلّ الحياة اليومية والنشاط الاقتصادي الاعتياديين. أما النجاح الأبرز للهجمات الصاروخية فكان تعليق جزئيّ للرحلات الجوّية الدولية إلى إسرائيل طيلة يومين بعد سقوط صاروخ في محيط مطار بن غوريون.

سُجّلت أيضاً خلال الحرب أولى محاولات حركة "حماس" لاختراق المجال الجوّي الإسرائيلي بواسطة طائرة بلا طيار تم اعتراضها بصاروخ "باتريوت".[19] ومما لا شك فيه أنه ستجري في المستقبل محاولات أخرى لاستخدام طائرات بلا طيار. ومن هنا يخطط الجيش الإسرائيلي للتزوّد ببطاريات إضافية من "القبة الحديدية"، ولتطوير تكنولوجيات تساعد على التصدي لنيران قذائف الهاون.[20]

تحديات أكبر في المستقبل

على الرغم من أهمية هذه الدروس، هناك حدود بديهية لاستخلاص دروس من هذه العملية. فإن حركة "حماس" هي أضعف أعداء إسرائيل، وفي حال حرب على جبهة أو أكثر، أو ضد عدو أقوى، قد يجد الجيش الإسرائيلي أنه كان مستفيداً من مزايا خاصة في قطاع غزة.[21]

فالقتال في قطاع غزة كان ضد عدو صغير، ومحصوراً ضمن حدود مساحة مزدحمة وضيقة. كما كان العدو معزولاً إلى حد كبير، ومحروماً من المساعدة الخارجية إبان القتال. وسخّرت إسرائيل كل قوتها الجوّية ضد هذا القطاع الصغير من الأرض، وأرسلت تشكيلات كبيرة من القوات البرية في توغل محدود. لم تكن هذه مناورة هجومية حقيقة، وإنما تقدّم بسيط إلى الأمام على امتداد خطوط الجبهة. وفي الواقع فقد كان العدو يتوقع هذه الخطوة وجهّز تحصينات دفاعية، لكن في الوقت الذي كان الالتحام ضارياً بين وحدات صغيرة، لم تكن هذه الحملة حرباً شاملة.

ولم تطرأ أي تعقيدات لوجستية لأن القتال كان يدور على مقربة من قواعد تزوّد إسرائيلية. ولم تكن هناك مشكلة في إخلاء المصابين من خطوط الجبهة إلى المراكز الطبية داخل إسرائيل. والمساندة النارية كانت متوافرة لأن وحدات القتال كانت دائماً ضمن مرمى وحدات المدفعية المنتشرة مسبقاً. كان العدو جامداً في مكانه إلى حد كبير، وكان يفتقر إلى تجهيزات متطورة، مثل: أنظمة الاتصالات، صواريخ الدفاع الجوي، وقدرات هجومية مضادة للدبابات، مثل تلك التي يمتلكها حزب الله.

اختبر جنود الجيش الإسرائيلي، على مستوى المفرزة والسرية، قتالاً شرساً ومكثفاً. وعلى نقيض حرب 2008/2009، لم تُفاجأ حركة "حماس"، بل كانت جاهزةً للقتال، وللدفاع عن أرضها. علاوة على ذلك، شكّلت طبيعةُ أرضٍ مدينية، مكتظة وصعبة، تحدياتٍ جديةً على الصعيد التكتيكي- لكونها مناطق مبنية مزدحمة، مجهزة بأنفاق محفورة بشكل ممتاز. وخلفت هذه المواصفات فوضى، وصعّبت على قادة الجيش الإسرائيلي توجيه قواتهم.

أما دفاعات حركة "حماس"فقد شملت عبوات ناسفة مرتجلة (improvised explosive devices)، وشراك مفخخة، وألغاما، وبنادق قنص، ومفرزات من الهاون والصواريخ المضادة للدبابات. وفي 2008/2009، واجهت وحدات الجيش الإسرائيلي حالات مشابهة، وبحسب ما أفاد قائد لواء المظليين: "كانت هناك عبوات ناسفة، وأنفاق، وشراك مفخخة في كل مكان. كانت شوارع بأكملها مغطاة بأسلاك مربوطة بعبوات ناسفة".[22]

وقد جرى تطبيق بعض الدروس المستفادة من عمليات سابقة ضمن مناطق مدينية في الضفة الغربية ولبنان، مثل: استخدام فرق الكلاب (وحدة "عوكيتس") المشتركة مع مفرزات تفكيك الألغام والمتفجرات، ووحدات النخبة في سلاح المشاة، من أجل إخلاء الطريق.

أحد الجوانب الإيجابية للعملية كان عودة الجيش الإسرائيلي إلى تقليد القيادة في الصفوف الأمامية، وإلى شعار "اتبعني". خلال مواجهة إسرائيل - حزب الله في 2006، انتُقد الجيش الإسرائيلي على ممارسته لما سمي "ثقافة شاشة البلازما"، أي، الثقة المفرطة في أنظمة القيادة والتحكم الرقمية، وأسلوب القيادة المتمثّل بجلوس القادة في مقرات القيادة العامة بدلاً من القتال في المقدمة على الجبهة.[23] وفي حرب 2008/2009، كان قد بدأ قادة وحدات الجيش الإسرائيلي في إظهار سلوك مختلف. لكن الاختبار الحقيقي جرى في العام 2014 عندما أظهر قادة الجيش الإسرائيلي أن الجيش تخلى عن عاداته السيئة الماضية ورجع إلى تقاليده في القيادة المشرفة. وبطبيعة الحال، كان الثمن هو أن نسبة الإصابات في صفوف القادة وصلت إلى درجة عالية.[24]

لكن ينبغي الحفاظ على النسبية في الأمور. فالجيش الإسرائيلي فاق حركة "حماس" عدداً، بنسبة 3 إلى 1 وكان يستفيد من مساندة نيران المدفعية والمعلومات الاستخبارية. وبالتالي فإن التحدي لم يكن يتمثل في إنجاز المهمة، بل في الوقت المستغرق لإنجازها وفي الثمن على صعيد الخسائر البشرية. وكان هناك تحد آخر يؤرق القادة هو تكرار سيناريو خطف جندي، على شاكلة قضية خطف الرقيب جلعاد شاليط. بالفعل، لم تدخر حركة "حماس" جهداً للتخطيط لهذه الغاية. وفي خضم المعركة، تمكّنت الحركة من انتزاع رفات جنديين إسرائيليين لكن محاولاتها لأسر جندي على قيد الحياة باءت بالفشل.

قياساً لجولات سابقة من القتال المكثف بين إسرائيل وحركة "حماس"، كان هذا القتال أكثر إيلاماً للجانبين لأن عدد الإصابات وحجم الأضرار كانا أعلى بشكل ملحوظ. بل أكثر من ذلك، عجزت إسرائيل عن توجيه ضربة قاضية حاسمة. في المقابل، ورغبة منها في تجنب سقوط عدد كبير جداً من الضحايا المدنيين الفلسطينيين، ونظراً لكونها محمية من الآثار المباشرة لوابلات الصواريخ الفلسطينية بمنظومة "القبة الحديدية" وبنظام إنذار فعال وملاجئ عديدة، اعتمد الإسرائيليون استراتيجيا استنزاف تدريجي لبنى حركة "حماس" التحتية العسكرية. بيد أن الاستنزاف له ثمن. فبدلاً من عملية عسكرية قصيرة، استغرق القتال خمسين يوماً. لكن العمليات التي تستمر لفترات طويلة من الزمن هي ضد عقيدة إسرائيل الأمنية، وضد التخطيط العسكري على حد سواء. وعموماً، فإن الجيش الإسرائيلي مُعدّ لتنفيذ عمليات سريعة وحاسمة، نظرياً على الأقل.[25]

ويبقى أن عدد الإصابات هو مسألة كبرى في البروباغندا الإعلامية بين الخصوم، ولذا ينبغي التعامل بحذر مع الأرقام. وبحسب حركة "حماس"، أسفر القتال عن سقوط 2200 قتيل و11000 جريح في قطاع غزة. وزعمت الحركة أن أكثر من 75% من القتلى هم من المدنيين. وعلى عكس ذلك، زعمت إسرائيل أن نحو نصف عدد القتلى مقاتلون، وأن العديد من الإصابات القاتلة في صفوف المدنيين سببها أن حركة "حماس" عرّضت حياة سكان غير مقاتلين لنيران إسرائيلية عن قصد وتصميم، مستخدمةً إياهم كدروع بشرية.[26] وفرّ مئات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين من مناطق القتال، ودُمرت آلاف الأبنية - وتحديداً في منطقة التوغل البري. واستُنزفت ترسانة حركة "حماس" الصاروخية بشكل جذري، ودُمّرت أنفاقها الهجومية وبعض أنفاقها الدفاعية. وتشير تقديرات مصادر إسرائيلية إلى أن 15% على الأقل من المقاتلين في صفوف حركة "حماس" قُتلوا أو جُرحوا، ومن بينهم عدد من القياديين. وفي الجانب الإسرائيلي، قُتل 14 مدنياً و67 جندياً، وجُرح ما يقارب 400 مدني و705 جنود. كما دُمّر عدد قليل من الأبنية، ولحقت بمئات معدودة من الأبنية الأخرى أضرار سطحية في أكثر الأحيان.

خلال العقدين الأخيرين، أدارت إسرائيل عدداً من العمليات العسكرية التي اعتمدت فيها غالباً أو حصرياً على القوة النارية (standoff firepower). والعملية ما قبل الأخيرة، أي عملية "عمود السحاب" في تشرين الثاني/نوفمبر 2012، حققت أهدافها السياسية. لكن نجاح العملية يعود جزئياً إلى التحضير الذي كان بادياً للعيان، لغزو بري كان له أثر ردعيّ. علاوة على ذلك، إن الشِقّ المتعلق بالضربات الجوّية من العملية لم يكن موفقاً دائماً؛ فقد دُمّرت معظم منصات إطلاق الصواريخ بعيدة المدى، لكن على الرغم من ذلك أطلقت حركة "حماس" 1500 قذيفة صاروخية وصاروخ ضد إسرائيل. ولولا نجاح منظومة "القبة الحديدية" المدهش، وحده هجوم بري أو استسلام سياسي كان باستطاعته وقف الصواريخ. وفي مواجهة عدو صغير محصور في قطاع غزة، كان الجمع بين "القبة الحديدية" والضربات الجوية كافياً في الماضي لإحداث نتيجة إيجابية.

لكن هناك فروق مهمة بين مواجهة 2014 الأخيرة والعمليات السابقة، أوّلها هو السياق الإقليمي الأوسع والوضع السياسي لحركة "حماس"، فإن العزلة السياسية للحركة وأزمتها المالية دفعتاها إلى مواجهة عسكرية على طريقة "كل شيء أو لا شيء"، أملاً في الخروج من ضائقتها عبر التسبب بأزمة دولية، وتالياً، الإبقاء على سيطرتها على قطاع غزة. واستراتيجياً، أَمْلَت استماتة "حماس" توقيت بدء وإنهاء الأعمال العدائية على نحوٍ مُعارِض لمصالح إسرائيل. وكان لهذا الأمر أيضاً مضاعفات عملانية.[27]
في جميع العمليات السابقة – حرب لبنان 2006، حرب غزة 2008/2009، وحرب تشرين الثاني/نوفمبر 2012 - فرض الجيش الإسرائيلي نقطة انطلاق وتاريخ انتهاء العمليات على السواء، بعد أن خطّط ونفّذ ضربات جوّية مبنيّة على معلومات استخبارية دقيقة فاجأت العدو.[28] وسمح عنصر المفاجأة للجيش الإسرائيلي بقتل عدد من العناصر وتدمير معدات قبل أن يتمكن الفلسطينيون من استخدامها أو إخفائها، مما قلّص قدرة قوّتهم النارية على التحمل. أما هذه المرة، فالمبادرة كانت في يد الجانب الفلسطيني.

كانت "حماس" قد استعدت وفقاً لذلك، فكانت ضربات الجيش الإسرائيلي البدئية أقل إنتاجية. وعزّز هذا الوضع جهوزية "حماس" لقتال طويل الأمد. فعلى ما يبدو، توقعت إسرائيل تكراراً لنمط عملية الدرع الواقي في الضفة الغربية عام 2002: تبادل إطلاق النار بحيث يكون عدد الإصابات الإسرائيلية في حده الأدنى؛ ويكون عدد الإصابات الفلسطينية أعلى بدرجة كبيرة، وعاجلاً أم آجلاً، يقرر الفلسطينيون أنهم سجلوا موقفاً بصمودهم فيتوقفون لمعالجة جروحهم. وكمسكّن للألم، تقدّم إسرائيل بعض التنازلات الصغرى، مثل زيادة مساحة منطقة الصيد.[29] بيد أن الأحداث في عام 2014 جرت بصورة مختلفة عما كان متوقعاً.

وهناك فرق آخر بين هذه العملية وسابقاتها، يتمثل في الدور المركزي الذي لعبه نظام الأنفاق الهجومية من قطاع غزة إلى داخل إسرائيل. فقد برهنت حركة "حماس" أنها عدو قادرٌ جيداً على التكيّف في مواجهة التفوّق التكنولوجي الإسرائيلي. فقد أدركت "حماس"، خلال حرب تشرين الثاني/نوفمبر 2012، أن إسرائيل طوّرت رداً دفاعياً فعّالاً ضد القذائف والصواريخ التي تستهدف التجمعات السكانية الإسرائيلية. ولما كانت "حماس" محاصرة أرضاً وجواً، طوّرت عقيدة قتال تحت الأرض. وبقيامها بذلك، أمكنها أن تعتمد على المعرفة المتراكمة سابقاً من نظام أنفاق التهريب بين مصر وقطاع غزة من أجل بناء شبكة معقدة من أنفاق للاتصال وأنفاق هجومية تصل إلى داخل إسرائيل.[30]

من المسلَّم به أن حزب الله يراقب ويتعلم دروسه الخاصة من عملية قطاع غزة لعام 2014. ويدرك التنظيم الإسلامي اللبناني أن أنظمة إسرائيل الدفاعية المضادة للصواريخ فعّالةٌ. لكن الدولة اليهودية لم تجد حتى الساعة رداً حاسماً على تهديد الأنفاق. فعلى الرغم من صعوبة بناء أنفاق في شمال إسرائيل من جراء ظروف جيوفيزيائية متعددة، استطاع حزب الله بمساندة إيرانية إنشاء شبكة أنفاق خاصة به على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية،[31] وقد يكون تشجع بفعل الأثر السيكولوجي الهائل للأنفاق على معنويات الجمهور الإسرائيلي. فقد تبجّح أخيراً زعيم حزب الله حسن نصر الله قائلاً إن قواته سوف تغزو أراضي إسرائيل في المواجهة القادمة، وهو تهديد يرتكز على الأرجح على شبكة الحزب من الأنفاق الهجومية لتنفيذ هكذا عملية جريئة.[32] وتبعاً لذلك، في الأعوام القليلة القادمة، سوف يتعيّن على الجيش الإسرائيلي أن يجتهد في العمل لتطوير عقيدة قتالية وتكنولوجيا فعّالتين، هجوميتين ودفاعيتين في آن معاً، للتصدي لتهديد الأنفاق.

فرض تهديد الأنفاق على الجيش الإسرائيلي شنّ هجوم بري، على عكس عملية 2012 السابقة التي اقتصرت على تنفيذ غارات جوية. وفضلاً عن ذلك، برهنت الأنفاق أن العدو يتكيّف ويبحث عن طرق جديدة لتحييد تفوّق الغرب التكنولوجي. وهكذا تأكدت مرة أخرى الحاجة إلى قوات برية متمكّنة وعالية الجودة، تردع العدو عن أن يشكّل تهديداً.

ظاهرياً، يبدو أن غاية إسرائيل السياسية الرئيسية من وقف النار قد تحقّقت. وفي حين بقيت الأسباب الحقيقية التي دفعت حركة "حماس" إلى قبول هدنة طويلة الأمد والمحافظة عليها بالفعل غير معروفة، هناك دلائل على أن استراتيجيا الاستنزاف الإسرائيلية مؤثرة. فالضغط الدولي الذي كان متوقعاً أن يمارَس على إسرائيل لم يحدث، وبعض الأنظمة العربية – وليس فقط مصر - كانت تبدو مؤيدة لإسرائيل أكثر من تأييدها لحركة "حماس".

وعلى الرغم من أن الردع مفهوم محيّر يصعب تقييمه، يبدو إجمالاً أنه أمام تحديات جديدة محتملة لإسرائيل في هذه المنطقة، فقد استطاعت إسرائيل المحافظة على وضعيتها الردعية. ولم تتردّد في استخدام القوة؛ كان أداء قواتها العسكرية جيداً على المستوى التكتيكي، واستطاعت حَرْف واعتراض هجمات "حماس". أثبت الجمهور الإسرائيلي نضوجه؛ رضي بسقوط خسائر بشرية وبالصعوبات اليومية، وبرهن المجتمع الإسرائيلي عن مرونة وتصميم. وإن كان لا بد من شيء، فقد رفضت الحكومة نداءات لعملية برية أوسع في قطاع غزة. ومع أن الاقتصاد الإسرائيلي كابد بشكل ظاهر، ولكنه لم يتضرّر بشكل مؤثر.

لكن، على الجبهتين الدبلوماسية والإعلامية العلنية، خسرت إسرائيل مجدّداً. وبرغم الانتقاد الدولي لاستخدام حركة "حماس" [المدنيين] دروعاً بشرية، فإنه قد قوبلت أفعال إسرائيل أيضاً بانتقاد مرير وتحقيقات عَدَائية تجريها الأمم المتحدة حول عدد الضحايا الفلسطينيين وحجم الأضرار التي لحقت بالبنى التحتية المدنية لقطاع غزة.[33] وهناك جانب مقلق إضافي من منظور إسرائيلي، متمثل في الخلافات الحادة مع الإدارة الأميركية، المتمحورة حول مواضيع عديدة.[34]

من ناحية أخرى، كانت مصر هي العنصر الفاعل الرئيسي الذي أفضت إجراءاته بشأن إغلاق الأنفاق إلى استعجال الحرب، وكانت القاهرة هي المستفيد الرئيسي من الحرب بلا أدنى شك. ومع تقدم النزاع، واصل المصريون اكتشاف وتدمير عشرات الأنفاق.

تضعضعت حركة "حماس" في الوقت الذي رُفضت بخشونة محاولات أميركية وأوروبية للتدخل دبلوماسياً. وبالإضافة إلى ذلك، فإن محاولات واشنطن لإشراك تركيا وقطر، خصمي مصر الإقليميين، في المفاوضات، قد باءت بالفشل كذلك. كما أن الرفض المصري لتقديم أية تنازلات لحركة "حماس" هو الذي مكّن إسرائيل تدريجياً من إجبار النظام ["حماس"] على قبول وقف إطلاق نار من دون مردود ملموس.لذا فقدبقيت مفاتيح الحل السياسي في يد القاهرة، ولهذا السبب الوجيه، وفي الوقت الذي كانت حركة "حماس" تقاتل إسرائيل، كانت معظم مطالب "حماس" موجّهةً في الواقع إلى مصر. واعتباراً من هذه العملية، واصلت القاهرة إظهار عزمها على إبقاء "حماس" تحت السيطرة.[35] وطالما بقي النظام المصري الحالي، فإنه سيحافظ على الأرجح على سياسة معادية لهذا التنظيم الإسلامي، وبإمكان إسرائيل أن تتوقع تعاون القاهرة في أي مواجهة مستقبلية مع "حماس". وللمفارقة، مع ذلك، فإن تزايد ضغط مصري باضطراد على حركة "حماس" من شأنه أن يحشر التنظيم في زاوية ويعجّل في المواجهة العنيفة القادمة مع إسرائيل.

خاتمة
إن النتائج السياسية لعملية "الجرف الصامد" غير واضحة. فعلى حسب ما تسفر عنه المفاوضات، من الممكن أن يكسب كلا الجانبين شيئاً ما. وفي هذه المرحلة، حققت إسرائيل أهم أهدافها: توجيه ضربة ساحقة لحركة "حماس"، تدمير أنفاق الإرهاب الهجومية، الإبقاء على القيود المفروضة على القطاع، وأهم من كل ذلك، الحفاظ على الهدوء على حدودها.

لقد وُصفت استراتيجيا إسرائيل خلال العقدين الأخيرين على أنها "جزّ العشب" [تكسير قدرات "حماس" دورياً]، وتندرج حملة 2014 في نمط قتال منخفض الوتيرة تتخلّله جولات متفرقة من التصعيد المكثف.[36] وتهدف عمليات إسرائيل إلى الحطّ من قدرات العدو بما فيه الكفاية لردعه عن استئناف أعمال عدائية أطول مدة ممكنة، إلى جانب الهدف طويل الأجل المتمثل في تحقيق ردع تراكمي يؤدي إلى توقف الهجمات الصاروخية.[37]

حتى تنجح عملية "جزّ العشب"، عليها أن تلحق بالعدو مستوى معيناً من الأذى. ولكن، كما تجلّى إبان عملية "الجرف الصامد"، يعتمد مستوى الأذى الذي يكون تنظيمٌ معين مستعداً لتحمّله في أي وقت محدّد، على مجموعة واسعة من العوامل. فالذي كان من الصعب احتماله من قبل الفلسطينيين في الضفة الغربية عام 2002 أصبح في حدود ما هو محتمل في قطاع غزة عام 2014، لأن السياق السياسي تغيّر. وتبعاً لذلك، فإن فهم السياق المحدَّد هو في غاية الأهمية بالنسبة لمخطِّطين استراتيجيين.

وتبقى خيارات إسرائيل في قطاع غزة تتأرجح بين السيئ والأسوأ، فإن البدائل لحكم "حماس" هي إما فوضى، أو [سيطرة] مجموعة أو ائتلاف مجموعات إسلامية ليست أقل تشدداً، وهذه نتائج غير مستحبة. والاستنتاج المحزن لكن البديهي هو أنه برغم ضراوة القتال والاهتمام الدولي الذي استقطبه، فقليلٌ من أساسيات النزاع قد تغيّر. وليس هناك من شك يذكر مع الأسف، في أنه من الضروري على إسرائيل أن تبدأ بتحضير حملة قطاع غزة المقبلة.

 

شر هذا البحث على الموقع الإلكتروني لـ"منتدى الشرق الأوسط" (Middle East Forum)، اليهودي الأميركي:

http://www.meforum.org/5084/rethinking-operation-preotective-edge

[1] شبكة سي أن أن (CNN) الإخبارية، 23 آب/أغسطس 2014.

[2] جهاز الأمن العام (الشاباك): معطيات وتقارير عن الإرهاب؛ "التقرير الشهري: ملامح الاعتداءات خلال شهر حزيران/يونيو 2014"؛ و"التقرير الشهري:ملامح الاعتداءات خلال شهر تموز/يوليو 2014".

[3] يورام شفايتزر، شلومو بروم، شاني افيتا، "الإرهاب يضرب مجدداً في مصر"، معهد دراسات الأمن القومي، تل أبيب: مباط عال، 4 شباط/فبراير 2014.

[4] إريك تريغير، "مصر السيسي وحرب غزة"؛ معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، واشنطن، 14 تموز/ يوليو 2014؛ والموقع الإلكتروني ليديعوت أحرونوت (YNET News)، تل أبيب، 27 تموز/ يوليو 2014.

[5] هيليل فريش، "حكومة الوحدة الفلسطينية الواهية"، أوراق بحثية (Perspective Papers)، عدد 251، مركز بيغن - السادات للدراسات الاستراتيجية، جامعة بار - إيلان، رمات غان، 26 حزيران/يونيو 2014.

[6] المصدر نفسه.

[7] "هآرتس"، 6 آب/أغسطس 2014.

[8] عمير رابوبورت، "كتان فيحخام: جيش صغير وذكي"، معاريف (NRG News)، تل أبيب، 18 أيار/مايو 2013؛ عيدو هيخت وإيتان شامير، "إهمال القوات البرية للجيش الإسرائيلي: خطر على أمن إسرائيل"، مركز بيغن - السادات للدراسات الاستراتيجية، أوراق بحثية، عدد 225، 4 كانون الأول/ديسمبر 2013.

[9] الجنرال بيني غنتس، رئيس هيئة الأركان العامة، الجيش الإسرائيلي، عرض تقديمي، "رؤية للعام 2020: أخطار وفرص لإسرائيل"، مؤتمر مركز بيغن - السادات للدراسات الاستراتيجية، رمات غان، 13 تشرين الأول/أكتوبر 2013.

[10] وكالة "والا - نيوز" الإخبارية، 26 تموز/يوليو 2014.

[11] جهاز الأمن العام (الشاباك): "التقرير الشهري: ملامح الاعتداءات خلال شهر تموز/يوليو 2014".

[12] الجنرال تامير هايمان، التدريب والعقيدة العسكرية للجيش الإسرائيلي في القيادة العامة، "عملية الجرف الصامد: دروس عسكرية وسياسية"، عرض تقديمي، مركز بيغن - السادات للدراسات الاستراتيجية، 29 أيلول/سبتمبر 2014.

[13] وكالة يديعوت أحرونوت الإخبارية (YNET News)، 22 أيلول/سبتمبر 2014.

[14] "تايمز أوف إسرائيل"، 30 تشرين الأول/أكتوبر 2014.

[15] الجنرال تامير هايمان، مصدر سبق ذكره.

[16] المصدر نفسه.

[17] عمير رابوبورت، "الحملة العسكرية"، عرض تقديمي، مركز بيغن - السادات للدراسات الاستراتيجية، 29 أيلول/سبتمبر 2014.

[18] عوزي روبين، "أداء منظومة الدفاع الجوي"، عرض تقديمي، مركز بيغن - السادات للدراسات الاستراتيجية، رمات غان، 29 أيلول/سبتمبر 2014.

[19] المصدر نفسه.

[20] المصدر نفسه.

[21] يعقوب أميدرور، "لا تحاربوا قياساً لآخر حرب"، مركز بيغن - السادات للدراسات الاستراتيجية، رمات غان، أوراق بحثية، عدد 273، 20 تشرين الأول/أكتوبر 2014.

[22] هائِرتسي ليفي، مقتطف عن كلامه في "يديعوت أحرونوت" (تل أبيب)، 23 كانون الثاني/يناير 2009.

[23] تقرير لجنة فينوغراد: "نتائج التحقيق في أداء الجيش إبان حرب لبنان الثانية"، القدس، نيسان/ أبريل 2007، ص. 402.

[24] "تايمز أوف إسرائيل"، 28 آب/أغسطس 2014.

[25] عمير رابوبورت، "الحملة العسكرية"، مصدر سبق ذكره.

[26] ريتشارد بيهار، "الانتفاضة الإعلامية: رياضيات سيئة، حقائق قبيحة حول "نيويورك تايمز" خلال حرب إسرائيل - حماس"، فوربس (Forbes)، 21 آب/أغسطس 201.

[27] رون تيرا، "عملية الجرف الصامد: غايات، سبل ووسائل، والسياق المحدد"، Infinity Journal، أيلول/سبتمبر، ص. 3.

[28] إفرايم عنبار وإيتان شامير، "جزّ العشب: استراتيجيا إسرائيل لنزاع مستعص وطويل الأمد"، Journal of Strategic Studies، كانون الأول/ديسمبر 2013، ص. 85.

[29] يونايتد بريس انترناشونال (UPI)، 18 آب/أغسطس 2014.

[30] عيدو هيخت، "قطاع غزة: كيف نمت شبكة أنفاق حركة "حماس""، وكالة بي.بي.سي. الإخبارية - الشرق الأوسط، 22 تموز/يوليو 2014.

[31] كالكاليست [نشرة اقتصادية] تل أبيب، 8 نيسان/أبريل 2014.

[32] بينيديتا بيرتي ويورام شفايتزر، "حزب الله وحرب إسرائيل المقبلة: خبرة من سورية إلى قطاع غزة"، عدكان استراتيجي Strategic Assessment، تشرين الأول/أكتوبر 2014.

[33] ريتشارد بيهار، "الانتفاضة الإعلامية"، مصدر سبق ذكره.

[34] جوناتان راينولد، "وثيقة وقف إطلاق النار من إعداد جون كيري وقطر: ماذا تقول حول الاستراتيجيا الأميركية في منطقة الشرق الأوسط"، مركز بيغن - السادات للدراسات الاستراتيجية، أوراق بحثية، عدد 261، 3 آب/أغسطس 2014.

[35] المونيتور (Al-Monitor)، واشنطن، 8 أيلول/سبتمبر 2014.

[36] إفرايم عنبار وإيتان شامير، "جزّ العشب"، مصدر سبق ذكره.

[37] دورون ألموغ، "الردع التراكمي والحرب على الإرهاب"، Parameters، شتاء 2004/2005؛ توماس ريد، "ردع يتخطى الدولة: التجربة الإسرائيلية"، Contemporary Security Policy نيسان/أبريل 2012.