معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛ وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.
تحلل المقالة التالية الخطوط العريضة، السياسية والعسكرية، للمواجهة العسكرية المستقبلية بين إسرائيل و"حزب الله" وتصف التوتر القائم بين مستويين من التحليل: بين المعطيات الأساسية، السياسية والعسكرية، وبين السياق الخاص الذي قد يؤدي إلى التصعيد. تكشف المعطيات الأساسية أن الإنجازات الاستراتيجية الحقيقية التي قد يحققها الطرفان في مثل هذه المواجهة ضئيلة وأنهما سيدفعان، في مواجهة واسعة، ثمنا باهظا. ما هي الاعتبارات الجدية التي تمنع اندلاع المواجهة والتي تدفع، في حال اندلاعها، نحو إبقائها محدودة. غير أنّ ثمة مخاطر وتهديدات استثنائية تتراكم وتتطور في السياق الحالي: إنتاج صواريخ دقيقة التصويب في لبنان ونشر مستقبلي لوسائل قتالية نوعية إيرانية في سورية. في السياق الخاص المتعلق بمواجهة هذه التهديدات والمخاطر، يتعين على إسرائيل وضع وتحديد خطوط حمراء والوقوف عندها، نظرا لأن تجنب مخاطرة المواجهة راهناً قد يجبي من إسرائيل ثمناً غير محتمل في المستقبل. إطار المواجهة في الفترة الراهنة قد يشمل الحلبة السورية ويُقحم روسيا فيها.
مقدمة
تعالج هذه المقالة، ضمن ما تعالجه، النقاط التالية:
- الأولى: الوزن الكبير الذي ينبغي إيلاؤه للسياق المميز الذي قد تندلع المواجهة من صلب مكوّناته، خلافاً للاتكاء على تبصّرات "عمومية" وعلى تنفيذ "أوتوماتيكي" لخطط الطوارئ؛
- الثانية: السؤال حول ما إذا كان ينبغي تحديد أهداف للمواجهة تكون ذات طابع سياسي و"إيجابي/ فاعل" (أي، محاولة تصميم الواقع السياسي بواسطة مواجهة عسكرية) أو تحديدها بناء على اعتبارات الواقعية ومحدودية القوة، والاكتفاء بأهداف ذات طابع عسكري و"سالب" (مثل: تقليص وتقييد تعاظم "حزب الله" واستعداداته)؛
- الثالثة: ثلاثة عناصر جديدة تبلور، إلى حد بعيد، الحلبة الراهنة: تعاظم قوة "حزب الله" بامتلاكه أسلحة عالية الدقة، تعمّق وجود إيران وحزب الله العسكري في سورية وطمس الحدود بين لبنان، سورية وإيران، ودخول روسيا إلى سورية؛
- الرابعة: تتميز الحلبة الراهنة بارتقاء التحدي الذي تضعه إيران وحزب الله أمام إسرائيل درجة أخرى، من خلال، ضمن أشياء أخرى،عملية التعاظم العسكري الإيراني على الأراضي السورية وإنشاء بنى تحتية لإنتاج أسلحة دقيقة على الأراضي اللبنانية. يمكن تفسير هذه الصورة بكونها جهوداً تبذلها إيران وحزب الله سعياً إلى تحقيق توازن استراتيجي مقابل إسرائيل في سياقات محددة، بل وربما امتلاك القدرة على توجيه ضربة توقع أضراراً جدية في منظومات حيوية (عسكرية ومدنية) في داخل إسرائيل. وتزيد هذه السيرورات من احتمال الدخول إلى دائرة من التصعيد تؤدي إلى اندلاع الحرب في نهاية المطاف. إسرائيل معرضة للإصابة وللضرر بدرجة كبيرة من جراء الأسلحة العالية الدقة نظراً لكونها دولة غربية متقدمة، من جهة، ولكونها صغيرة ذات بنى ومنشآت تحتية قليلة الوفرة ومركّزة في مناطق جغرافية محدودة من جهة أخرى. من هذه النقاط المذكورة يتضح أن على إسرائيل وضع خطوط حمراء، من ضمنها ما يتعلق بتعاظم قوة حزب الله العسكرية وامتلاكه أسلحة متطورة، وخصوصاً إنتاج صواريخ عالية الدقة على الأراضي اللبنانية، إلى جانب احتمال نشر إيران مستقبلاً منظومات أسلحة نوعية على الأراضي السورية (مثل، صواريخ أرض - جو متطورة، صواريخ مضادة للسفن وصواريخ أرض - أرض عالية الدقة) وأن تكون مستعدة [إسرائيل] للتقدم تدريجياً في مسيرة التصعيد - كلما دعت الحاجة - لمنع هذا التعاظم؛
- الخامسة: في مفاهيم القتال وبناء القوة العسكرية الحالية لدى إسرائيل وحزب الله على حد سواء، هناك علاقة وثيقة بين عمق الضرر المحتمل أن يلحق بحزب الله وبين الثمن المحتمل أن تدفعه إسرائيل مقابل ذلك الضرر. عملياً، هناك معادلة متناسقة بين عمق الضرر في كلا الجانبين في حال وقوع المواجهة. وتشكل هذه العلاقة اعتباراً مركزياً في تفضيل المواجهة "المحدودة" (تحقيق أهداف محدودة بأثمان محدودة) على المواجهة الشاملة، غير أنها تلزم الجيش الإسرائيلي أيضاً بتطوير قدرات تتيح له إضعاف العلاقة بين عمق الضربة ضد حزب الله وبين الثمن الذي ستدفعه إسرائيل مقابل هذا الضرر، وذلك في مجالات مثل المفهوم العملياتي، بناء القوة والاستخبارات.
ما بين التحليل القاعدي والسياق الخاص (غير المعروف) للمواجهة المحتملة
- يمكن تحليل أية مواجهة عسكرية على مستويين: الأول، المستوى "القاعدي" - المعطيات الأساسية للمعركة ذات الصلة، وهي معطيات تتغير بوتيرة بطيئة. الثاني، السياق الخاص الذي تندلع فيه المواجهة (مثل: من هو الطرف الذي بادر إلى شن المعركة، ما الذي يحاول تحقيقه وفي أية ظروف؟)، علماً بأن السياقات دينامية ومتغيرة. السياق الذي ستندلع فيه المواجهة المستقبلية مع حزب الله ليس واضحاً وليس معروفاً اليوم، ولذا يبقى التحليل محدوداً بطبيعة الحال. ومع ذلك، بالإمكان البحث اليوم في المعطيات الأساسية، سواء في تشكيلة السياقات المحتملة (لكن الجزئية) للمواجهة المستقبلية، أو في أهمية تقصي السياق الخاص لدى انفجار المواجهة. ويمكن الادعاء، بالطبع، بأن لا فائدة من تحليل "لمكونات" في المستوى القاعدي، ما لم يتضح السياق. ذلك مهم، لأن مثل هذا التحليل من شأنه أن يؤدي إلى نشوء معرفة ولغة مشتركتين، سواء بين القيادات العسكرية أو بين القيادة السياسية والعسكرية.
- يشكل التغاير بين عمليتي "عمود سحاب" و"الجرف الصامد" (الحربان العدوانيتان التي شنتهما إسرائيل على قطاع غزة الفلسطيني: الأولى، من 14 حتى 21 تشرين الثاني 2012؛ والثانية، من 8 تموز حتى 26 آب 2014) نموذجاً على مدى أهمية تحديد السياق في كل من المواجهتين المذكورتين اللتين جرتا ضد العدو ذاته، في الحلبة ذاتها، وبفارق زمني يقل عن سنتين. تجوز الإشارة، مثلاً، إلى حقيقة أنه بينما كانت حركة "الإخوان المسلمون" هي التي حكمت مصر إبان عملية "عمود سحاب"، كان نظام السيسي هو الذي حكم مصر إبان عملية "الجرف الصامد". عملية "عمود سحاب" دارت حول صياغة قواعد اللعبة للوضع الروتيني اللاحق للعملية وحول مسائل اقتصادية ثانوية نسبياً (مثل الصيد وفلاحة الأراضي الملاصقة للحدود) بينما ركّزت عملية "الجرف الصامد" على عزل حركة "حماس" والمقومات الاقتصادية لوجودها. وقد اتضحت دلالات وتداعيات عزل "حماس" وضائقتها الاقتصادية بصورة تدريجية عشية ربيع - صيف العام 2014. وربما كان من الصعب على التحليلات التي أجريت قبل ذلك بوقت طويل اكتشاف السياق الخاص الذي ستندلع فيه المواجهة في "الجرف الصامد". ومن هنا الأهمية الفائقة التي ينبغي إيلاؤها للسياقات المتغيرة وإلى الحاجة إلى استيضاح السياق الخاص قبل اتخاذ قرارات بشأن تصميم المواجهة.
- لا يمكن الآن معرفة السياق الخاص الذي ستندلع فيه المواجهة المقبلة مع "حزب الله"، إلاّ إن التمعن في الفترة الأخيرة يكشف حصول تغيرات سريعة في السياقات التي من شأنها أن تولّد احتمالات للتصعيد: من تعاظم "الحزب الله" بواسطة خطوط الإمداد عبر الأراضي السورية، إلى تعاظم الحزب في داخل لبنان (بما في ذلك إنتاج أسلحة نوعية على أراضيه) والاستعدادات التي يقوم بها كل من الحزب وإيران في سورية. السياقات تتغير ما بين لامبالاة روسية وما بين تحفظ تجاه عمليات تُنسب إلى إسرائيل، وما بين لامبالاة تجاه تشدد النظام السوري وعدوانيته حيال تقارير تتحدث عن خروقات إسرائيلية للسيادة السورية. ويؤثر السياق المتغير في مدى الثقة بالنفس والجرأة لدى أعضاء "المحور" (إيران وحزب الله وحلفائهما) وفي مدى تورط هذا المحور في جبهات أخرى، مما يصعّب عليه - أو بالعكس: يسهّل عليه - فتح جبهة إضافية أخرى مع إسرائيل. كما يتأثر، بالتغيير الحاصل في مدى الشرعية الدولية التي يحظى بها النظام العلوي وحزب الله وإيران، من جرّاء تطورات الحرب الأهلية في سورية والتطور في الموضوع النووي الإيراني.
- "حزب الله" هو تنظيم ذو هوية مركّبة، بكونه ذراعاً إيرانية، من جهة، وممثلاً أصيلاً للشيعة في لبنان يتمتع بإرادة مستقلة، من جهة أخرى. بالإمكان اعتباره ذراعاً إيرانية في سياقات معيّنة، و"صاحب أسهم" مركزياً في الدولة اللبنانية في سياقات أخرى. كما يُشتق السياق الخاص أيضاً من مستوى الثقة أو التحدي الذي يواجهه "حزب الله" في الساحة السياسية الداخلية في لبنان. وقد تندلع المواجهة مع إسرائيل في سياق خطأ في الحسابات والتقديرات، أو خلل في الاتصال الاستراتيجي، أو دوّامة من التصعيد خارجة عن السيطرة. وقد تقع المواجهة المقبلة، بالطبع، في سياق خاص آخر ليس من الممكن توقعه، لكن سيكون من الضروري فهمه في زمنه الحقيقي. وفي أي سياق خاص، ستسعى الأطراف المختلفة إلى تحقيق أهداف وأوضاع نهائية مشتقة من السياق ذاته، إلى حد كبير. ومن هنا، تستوجب مهمة بلورة السياسة وتصميم الاستراتيجية والمعركة العسكرية تكيّفاً مع السياق وتلاؤماً معه (وليس فقط اتخاذ قرارات وفق تحليل عام للمستوى القاعدي أو تفعيل "أوتوماتيكي" لخطة طوارئ عسكرية).
السياق الحالي
- يتبدل السياق الخاص باستمرار. ليس من الممكن معرفة السياق الخاص للمواجهة المقبلة، وربما تكون مهمة سبر أغواره المهمة الأكثر أهمية والأكثر إلحاحاً للتنفيذ فور نشوب المواجهة. لدى كتابة هذه السطور، ثمة ثلاث أمور تصوغ الدينامية الميدانية في الساحة، لكن من الواضح أن هذه الأمور ليست هي التي تحدد، بالضرورة، السياق الخاص لدى اندلاع المواجهة.
- الأمر الأول هو عملية تعاظم "حزب الله" بامتلاكه أسلحة دقيقة وأسلحة جرى تحسين مستوى دقتها.[1] في مقابلة أجرتها صحيفة كويتية[2] مع نائب قائد قوات "الحرس الثوري" الإيرانية، صرّح بأن إيران أنشأت في لبنان مصانع لإنتاج أسلحة نوعية. وقد أكد رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي ("أمان") أيضاً أن إيران تقيم في لبنان بنى ومنشآت تحتية لإنتاج أسلحة دقيقة التصويب.[3] هذه الأسلحة الدقيقة التصويب تشكل درجة جديدة، أعلى، من التهديد النوعي بسبب قدرتها على تشويش، بل تعطيل، منظومات مدنية وعسكرية معينة لفترات زمنية طويلة، وإلحاق أضرار تُقدَّر بمليارات الدولارات. فهي ليست "المزيد من الشيء ذاته" في الحديث عن أسلحة غير دقيقة، بل قد تصل إلى حد تشكيل تهديد غير محتمل بالنسبة إلى إسرائيل. صحيح أن إسرائيل تعكف دائماً على تطوير رد هجومي ودفاعي لتهديد الأسلحة الدقيقة، غير أن هذا الرد ليس مُحكماً تماماً، بل ستمرّ نسبة معينة من الصواريخ عبره أيضاً.
- ينبغي التوضيح أن إسرائيل تتميز بدرجة من الاستثنائية، بمعانٍ معينة، في كونها أكثر عرضة للتأذي جراء السلاح الدقيق، نظراً لكونها دولة غربية تمتلك بنى ومنشآت تحتية متطورة، من جهة، وكونها صغيرة المساحة ذات بنى ومنشآت تحتية حيوية قليلة الوفرة نسبياً ومركّزة في مساحات جغرافية ضيقة، من جهة أخرى. فإذا ما أخذنا مجال إنتاج الكهرباء، مثلاً، سنكتشف أن من أصل طاقة إسرائيل الإنتاجية في مجال الكهرباء، والتي تبلغ 17,6 ألف ميغاواط، يتم إنتاج 28% منها في موقعين اثنين فقط (تعمل فيهما عشر وحدات إنتاج - تُربينات وما شابه). في منشآت إنتاج الكهرباء الست الكبرى في إسرائيل (بما فيها تلك الخاصة) يتم إنتاج 51% من طاقة إنتاج الكهرباء القومية (بواسطة 26 وحدة إنتاج فقط).[4] وعلى هذا، فحتى التهديد الذي يشكله عدد قليل من الصواريخ الدقيقة التصويب التي قد تخترق الخطوط الدفاعية الإسرائيلية وتصيب منظومات حيوية، مثل قطاع إنتاج الكهرباء، قد يكون تهديداً غير مسبوق. وتبدو الصورة مماثلة في منظومات حيوية أخرى أيضاً، مثل منظومة إدارة شبكة الكهرباء القطرية؛ استلام الغاز الطبيعي ونقله إلى الشواطئ؛ تحلية المياه (خمس منشآت فقط[5] توفر نحو نصف كمية مياه الشرب في إسرائيل) وغيرها الكثير، سواء في القطاع المدني أو في القطاع العسكري (الذي لن نفصّله هنا).
- أفادت تقارير أجنبية بأن إسرائيل قد نجحت في تقليص كميات الأسلحة عالية الدقة المنقولة إلى حزب الله عبر سورية، بصورة جدية، وفي وضع عراقيل مختلفة أمام الجهات التي تقوم بذلك. لكن إسرائيل تمتنع، وفق قواعد اللعبة الحالية، عن مهاجمة لبنان، إذ يتناقض ظاهرياً ضرب منشآت إنتاج السلاح النوعي على الأراضي اللبنانية مع هذه القواعد. وعلى هذا، يشكل إنتاج الأسلحة الدقيقة التصويب على الأراضي اللبنانية، من وجهة نظر إسرائيل، ثغرة خطيرة في قواعد اللعبة الحالية. وهذا ما يحتم على إسرائيل رسم خط أحمر فيما يتعلق بتعاظم "حزب الله" العسكري وامتلاكه أسلحة عالية الدقة، مع التشديد على مسألة إنتاجها في لبنان، ويحتم أن تكون على جهوزية للتقدم في مسار التصعيد - وفق ما تقتضيه الحاجة - بغية منع هذا التعاظم وإحباطه. وبالنظر إلى معطيات الأساس في البيئة السياسية والعسكرية، قد يتقبل "حزب الله" وإيران هذا الخط الأحمر الإسرائيلي الجديد في أعقاب تصعيد سياسي أو عسكري متبادل، لكن قبل بلوغه حدّ الحرب الواسعة. إنما وبالنظر إلى خصوصية التهديد المترتب على الأسلحة الدقيقة، قد تضطر إسرائيل إلى أن تكون مستعدة للتصعيد حتى نحو حرب شاملة، بغية منع هذا التعاظم العسكري ويتعين طرح دلالات هذا التهديد وإسقاطاته على الرأي العام وفي الحوار مع الحكومات ذات العلاقة، بغية كسب الشرعية اللازمة للوسائل والإجراءات الوقائية.
- علاوة على ذلك، تشكل القدرات الحالية التي يمتلكها "حزب الله" في مجال الأسلحة المطوّرة وعالية الدقة درجة جديدة أعلى من التهديد، إذ تمنحه - إلى جانب قدراته المعروفة في مجال الاستنزاف - قدرة كبيرة على توجيه ضربة نوعية. قد يكون التصدي لنيران "حزب الله" النوعية المميز الأساس للمواجهة المقبلة - قبل المواجهة (بكونها "ذريعة الحرب")؛ خلال المواجهة (كمميز عملياني)، وفي أعقابها (الهدف الاستراتيجي والوضع الذي يحتاج إلى تسوية، في نهاية المواجهة) - ولتعزيز الرغبة القائمة أصلاً في تقصير مدة المواجهة، بقدر ما يكون الأمر عملياً وقابلاً للتطبيق.
- الأمر الثاني الذي يميز السياق الحالي هو دخول عناصر عسكرية إيرانية إلى سورية. إن نشر قوات عسكرية إيرانية على الأراضي السورية (وخاصة، التعاظم المحتمل مستقبلاً في منظومات غنية ومتنوعة القدرات، مثل منظومات الدفاع الجوي المتطورة (S-300 ومثيلاتها) والصواريخ المضادة للسفن، والصواريخ الدقيقة التصويب) يمكن أن يشكل درجة جديدة من التهديد النوعي وتعميق عدم التناسق في الاصطدام المتبادل بين إيران وإسرائيل. ولهذا، يتعين على إسرائيل النظر في إمكانية تحديد خط أحمر بالنسبة للتعاظم الإيراني في سورية، وإن تم تحديده، أن تكون مستعدة للتقدم في مسار التصعيد، كلما اقتضت الحاجة، بهدف منع هذا التعاظم وإحباطه.
- قد يفرض التعاظم الإيراني في سورية على إسرائيل التعامل مع الحلبتين السورية واللبنانية كوحدة واحدة. وسوف تضطر إسرائيل، أيضاً، إلى النظر في ما إذا كانت ستواصل الرد على النشاط الإيراني من خلال ضرب المُرسلين والوكلاء، وبتفعيل قوات سرية في الأساس ضد هؤلاء، أو بالتحرك ضد إيران مباشرة.
- قد تمثل سيرورتا التعاظم المذكورتان في قوة إيران و"حزب الله" - في سورية وفي إنتاج السلاح النوعي في لبنان - مدخلاً إلى عهد جديد في مستوى التحدي الذي يضعه "المحور" امام إسرائيل. وقد تبدوان كأنهما محاولة من طرف إيران و"حزب الله" لاستحداث معادلة استراتيجية موازية مقابل إسرائيل، إن لم يكن أكثر من ذلك ـبلوغ مستوى من القدرات النارية التي يمكنها إلحاق أضرار جسيمة بمنظومات حيوية، مدنية وعسكرية، في إسرائيل. وبالفعل، قد يكون الوقف الموقت والجزئي للمشروع النووي الإيراني هو الذي ولّد الطاقة الكامنة لما يبدو أنه محاولة لبلوغ التوازن الاستراتيجي مقابل إسرائيل في سياقات أخرى (كتعويض عن وقف المشروع النووي، إلى حد ما)، وهو ما يخلق دينامية تصعيدية. إنهما سيرورتا تعاظم تضع المنظومة الإقليمية برمّتها على مفترق طرق وتزيد من احتمالات وقوع الحرب.
- إذا ما أحجمت إسرائيل عن إحباط سيرورتي التعاظم المذكورتين واصطدمت، في المواجهة المستقبلية، بسلاح نوعي إيراني على الأراضي السورية وبسلاح دقيق التصويب بين يدي "حزب الله"، سيشكل الأمر انعطافة في معطيات الأساس وتحولاً في فرضيات الأساس التي تقوم عليها خطة المواجهة.
- الموضوع الثالث الذي قد يؤثر في السياق الخاص هو التدخل العسكري الروسي في سورية[6] والعلاقات الروسية المركّبة مع النظام العلوي ومع إيران[7] ومع حزب الله. يكتسب هذا التدخل أهمية خاصة لأن المواجهة في الجبهة الشمالية قد تشمل الساحة السورية أو قد تمتد إليها، لأسباب مختلفة. إيران و"حزب الله" ينشران قوات عسكرية في سورية قد تتحرك ضد إسرائيل في حال وقوع المواجهة في لبنان. وإسرائيل ذاتها قد تبادر إلى شن عملية عسكرية ضد قوات إيران أو حزب الله في سورية، وذلك في سياق السعي إلى إيجاد قواعد جديدة للعبة تحدّ من إمكانية نشر قوات كهذه (مثلاً، منع الوجود الإيراني في هضبة الجولان السورية، أو منع نشر أسلحة نوعية إيرانية مثل صواريخ أرض - جو S-300 في سورية). وكلما تعمق وتوثق التعاون العملي بين أعضاء "المحور" أكثر، وكلما عزز أنشطته العملانية في سورية، كلما ارتفع احتمال تعريف المحور كلّه (وليس "حزب الله" فقط) كطرف عدو في سياق المواجهة المستقبلية، وستكون المواجهة، بالتالي، متعددة الجبهات والساحات. في مواجهة متعددة الساحات كهذه تشمل سورية أيضاً قد تخرج إسرائيل من معادلة التناسق في عمق وفداحة الضرر لدى كلا الطرفين. وهي معادلة قائمة في المواجهة المحدودة على نطاق لبنان فقط. ستدفع إسرائيل جراء هذه المواجهة ثمناً مشابهاً، لكن الضرر الذي ستلحقه بالطرف الثاني لن يُقاس بمصطلحات جباية الثمن منه فقط، بل بمصطلحات تغيير الواقع الاستراتيجي أيضاً (وهذا عملياً يبدو أقل في لبنان). خلافاً للحالة اللبنانية، تمتلك إسرائيل القدرة على توجيه ضربات جدية للقوات التي تحمي النظام العلوي، وتهديده مباشرة. غير أن اتساع المواجهة وامتدادها إلى سورية، بل والقتال الواسع في لبنان بما ينعكس على الداخل السوري، قد يعيقان المحاولات الروسية لتسوية الأوضاع في سورية.
- بناء على ذلك، قد تلجأ روسيا، من ناحية، إلى محاولة تقييد حرية الحركة الإسرائيلية في المجال السياسي والاستراتيجي، بل والعملياني أيضاً. لكن روسيا، من ناحية أخرى، هي عامل مستجد يؤثر على سلوك الأطراف كلها، على ضبطها وانتشارها، وعلى شروط التسوية المحتملة في سورية ومميزاتها، وعلى الآليات المحتملة لإنهاء المواجهة. الدور الروسي المستجد في المنطقة قد يلزم إسرائيل، من جهة، لكنه قد يتيح لها، من جهة أخرى، تحقيق مكاسب سياسية واستراتيجية من خلال تفعيل محدود للقوة، متصاعد وتدريجي ومضبوط، مصحوباً بحوار سياسي مع روسيا والولايات المتحدة. وقد يكون هذا المخطط، في سياقات معينة، الفكرة المركزية والمؤسِّسة لمفهوم المواجهة بين إسرائيل والجبهة الشمالية.
- في الحروب الست السابقة التي خاضتها إسرائيل (من "عملية تصفية الحساب" حتى "عملية الجرف الصامد") كان أداؤها متماثلاً،[8] تقريباً، وبدرجات متفاوتة من النجاح. وأيضاً حين ارتكبت أخطاء، كان ثمنها محتملاً بالمفهوم الاستراتيجي. غير أن دخول السلاح المطورة دقّة تصويبه ودخول روسيا، قد يحدثان تغييراً جذرياً في مميزات المواجهة المقبلة، ولن تكون هذه مجرد المواجهة "السابعة في السلسلة". ربما لن تستطيع إسرائيل السماح لنفسها بالانتظار والتلكؤ في اتخاذ القرارات كما حصل في السابق، لأن ثمن الأخطاء سيكون أكثر فداحة بكثير جداً.
الهدف السياسي - الاستراتيجي من المواجهة
- يكمن أساس التأطير السياسي - الاستراتيجي للمواجهة المقبلة في القرار المتعلق بالسياق ـمن هو العدو وما هي المكاسب التي ترغب إسرائيل في انتزاعها منه في المواجهة؟ من البديهي أن العدو هو "حزب الله"، لكن إسرائيل تستطيع تحديد العدو بأنه دولة لبنان بأسرها أيضاً، والمبرّر لذلك يصبح أقوى كلما ازدادت مركزية "أسهم" حزب الله في لبنان.[9] ويمكن تحديد محور إيران ـحزب الله، وربما النظام العلوي أيضاً، بأنه العدو، والمبرّر لذلك يصبح أقوى كلما وسّع المحور الشيعي من تطلعات ومساعي تعزيز قدراته في سورية، وذلك أيضاً من أجل الخروج من معادلة الضرر المتبادل في مواجهة تقتصر على لبنان وحده فقط.
- ويمكن، في ظروف معينة، تحديد "مُرسل إليه" لمواجهة ليست مع عدو، وخاصة حينما ترمي المواجهة العسكرية إلى التأثير أيضاً في سيرورات دولية، مثل تسوية الأزمة السورية أو إعادة إصلاح وإعمار لبنان في أعقاب المواجهة. قد يكون مثل هذا "المُرسل إليه" دولة عظمى. إن أحد الأطراف المجهولة في المعادلة، في السياق الفوري على الأقل، هو الغموض الذي يكتنف مواقف إدارة الرئيس دونالد ترامب في حال وقوع المواجهة في هذه المنطقة. ومثل هذا التأثير في السيرورات سيحكمه مدى ما تكون هذه المواقف قد تبلورت فعلياً ومدى القدرة على إلغاء، أو تقليص، التقييدات التي ستحاول روسيا وضعها بالتنسيق مع الولايات المتحدة.
- إلى جانب الانفتاح على السياق المستقبلي الغامض، يكشف التحليل العام للمستوى القاعدي محدوديات رسم الإطار السياسي – الاستراتيجي المحتمل، بما في ذلك هوية العدو وأهداف المعركة.
- ينبغي الإقرار بأنه سيكون من الصعب على الدولة اللبنانية التأثير في سلوك "حزب الله". المنطق الأساسي في مهاجمتها ينبع من تحولها إلى "رصيد" بيد "حزب الله" وأيضاً من الحاجة إلى تفعيل آليات الإنهاء، كما من محاولة التأثير في سيرورات الإصلاح وإعادة الإعمار في أعقاب المواجهة، وليس من محاولة دفع لبنان إلى لجم "حزب الله". ثمة أهمية لعرض مطالب على الدولة اللبنانية، في نطاق التحركات الدبلوماسية العلنية، وخاصة كلما عمق "حزب الله" من تدخله في الجيش اللبناني، وذلك بغية اكتساب الشرعية الدولية اللازمة للمسّ بالدولة اللبنانية.
- يكشف فهم المستوى القاعدي والإقرار بمحدودية القوة وبمحدودية الجدوى أن ثمة قوساً محدوداً من الرغبات "الإيجابية" القابلة للتطبيق التي يمكن لإسرائيل توخي تحقيقها من المحور ومن لبنان. من الواضح أن للحرب أهدافاً سياسية دائماً، لكن من الصعب، في سياقات كثيرة، تحديد هدف سياسي يكون جدياً من جهة، وقابلاً للتحقيق بثمن معقول، من جهة أخرى. ومن هنا عدم جدوى مواجهة عسكرية كهذه. فالرغبات الحقيقية الأساسية هي "سالبة" (وعسكرية) - إبطاء وتقليص التعاظم العسكري، تقليص نشر القوات والأسلحة ومنع عمليات عدوانية يقوم بها الطرف الآخر ولا يمكن احتمالها عادة (أي، صياغة قواعد اللعبة).
- يمكن بالطبع اقتراح هدف القضاء على "حزب الله" وتغيير الخارطة السياسية الداخلية في لبنان، لكن من المشكوك فيه أن يكون هذا هدفاً واقعياً وقابلاً للتحقيق، وبالتأكيد لا يمكن تحقيقه بأثمان محتملة. حتى في حالة إنهاء مواجهة عسكرية مكثفة وطويلة الأمد، ستبقى الطائفة الشيعية عاملاً هاماً في لبنان، يمثلها "حزب الله"؛ وسيبقى "حزب الله" تنظيماً مسلحاً ومعادياً؛ وستبقى إيران حريصة على ترميم قوته العسكرية ولن تقل قوته القتالية بعد الترميم، بمعان معينة على الأقل، عما كانت عليه قبل اندلاع المواجهة. ومع ذلك، قد يكون هنالك هدفان "إيجابيان" اثنان قابلان للتحقيق: الأول، قطع الصلة الجغرافية - المادية بين الحيّز العلوي في سورية والشيعي في لبنان، أو تشويشها على الأقل، بما يؤدي بالتالي إلى تصعيب تواصل هذا المحور وتقليص حرية تحركه. الثاني، قد يكون بالإمكان التأثير، بأدوات سياسية، على هوية الجهة التي ستتولى ترميم لبنان وإعادة إعماره في أعقاب المواجهة. لكن المصلحة الإسرائيلية في أن تتولى جهة مثل المملكة السعودية مهمة ترميم لبنان وإعادة إعماره، بقدر ما يكون هذا وارداً، لا تبرر المبادرة إلى شن الحرب، بل قد تكون مجرد نتيجة ثانوية مرغوبة لمواجهة تنشب في سياق آخر.
- وأيضاً معظم رغبات "حزب الله" الفورية والحقيقية التي يسعى إلى تحقيقها من إسرائيل هي "سالبة": منع التدخل الإسرائيلي في مساعي التعاظم والاستعداد (بالنسبة إلى إيران ـمنع محاولات إسرائيلية لكبح التغلغل الإيراني في المنطقة، وردع إسرائيل بالطبع عن شن أية عملية ضد إيران، في سياق المشروع النووي الإيراني على سبيل المثال). يتطلع "حزب الله"، ظاهرياً، إلى إبادة إسرائيل، أو الحصول على مزارع شبعا على الأقل، لكن هذه ليست رغبات قابلة للتحقق. أما في المستويات الأعمق، فلدى المحور الشيعي أحياناً مصلحة في رسم خط لمواجهة إسلامية - إسرائيلية وتولّي قيادة "المقاومة"، بما يمكّنه من تمويه وتغييب الصراع الشيعي – السنّي. لكن هذه المصلحة أيضاً قد تبلغ درجة الرغبة في مواجهة مكثفة وفورية في حالات استثنائية قصوى فقط.
- من هنا، هناك في مستوى المعطيات الأساسية رغبات "إيجابية"، حيوية وقابلة للتحقيق لدى كلا الطرفين. لكن هذه الرغبات محدودة ومتفاوتة (مثلاً، لا يوجد "رصيد" ثمين يرغب كلا الطرفان في الفوز به، كما كان حال سيناء وقناة السويس بالنسبة لإسرائيل ومصر في العام 1973). ولهذا، لدى الطرفين تساؤلات حول جدوى الثمن المتوقع في حال نشوب مواجهة مكثفة وشرسة. ويشكل هذا عامل استقرار وكبح في غاية الأهمية.
- تُشتق الأهداف الإسرائيلية في المواجهة المستقبلية، أولاً وقبل أي شيء، مما ستحاول تحقيقه في السياق الخاص الذي ستندلع فيه المواجهة (على سبيل المثال، فقط منع تعاظم حزب الله العسكري وامتلاكه أسلحة متطورة وذات قدرات معيّنة، أو منع نشر منظومات سلاح إيرانية نوعية في سورية). لكن نظرة إلى معطيات الأساس تكشف جملة من الأهداف العامة التي قد تكون ذات أهمية في معظم السياقات: تأجيل المواجهة المقبلة؛ صياغة قواعد اللعبة للوضع الروتيني اللاحق للمواجهة؛ تعميق وتعزيز الردع، سواء حيال "حزب الله" أو حيال أطراف ثالثة أخرى؛ ضرب جاذبية النمط الحربي المعتمد لدى "حزب الله" (حرب قذائف وصواريخ يتم إطلاقها من مخابئها الموزعة بين السكان المدنيين)؛ تحجيم الاسقاطات السياسية السلبية الناجمة عن المواجهة، إقليمياً ودولياً؛ خلق الظروف المواتية لتقليص التدخل الإيراني في ترميم لبنان وإعادة إعماره، وفرض قيود جديدة قابلة للتطبيق على حرية الحركة والتواصل الجغرافي في محور إيران - العلويين - حزب الله.
تحديات أمام الخطة العسكرية
- تُشتق الاستراتيجيا العسكرية، وتالياً الخطة المنظومية، من السياق الخاص الذي ستندلع فيه المواجهة بالطبع، ومن تحديد هوية العدو، ومن المكاسب التي ترغب إسرائيل في جنيها من المواجهة، ومن تحديد آليات الإنهاء، ومن تضافر الجهود السياسية المعتمدة.
- لكن، بافتراض (غير مؤكد) أن المواجهة المقبلة في الجبهة الشمالية ستدور أساساً ضد "حزب الله"، وعلى الأراضي اللبنانية تحديداً، فإن التحليل العام للمستوى القاعديّ يوصل إلى مدرَكات عملية في سياقات عديدة. فمثلاً، فحص تشكيلة القوة ومنهج الأداء لدى كلا الطرفين يكشف عن وجود ارتباط قوي، في الوقت الراهن، بين عمق الضرر الذي سيلحق بـ "حزب الله" وبين الثمن العسكري والمدني الذي ستدفعه إسرائيل مقابل هذا الضرر. ثمة، إذن، تناسق معين في الثمن وفي الضرر في كلا الجانبين في حال وقوع المواجهة بينهما. وفي المواجهة الشاملة سيكون الضرر المتبادل كبيراً جداً.
- تؤكد إسرائيل أحياناً في وثائقها المفاهيمية،[10] على ضرورة تجسيد التفوق العسكري من خلال إلحاق الهزيمة بالعدو وتحقيق نصر حاسم. انتصار حاسم معناه إلغاء قدرة العدو على، أو رغبته في، القتال ضدنا وفق خطته الموضوعة سلفاً. قوة "حزب الله" مبنية، بصورة متعمدة، على أساس نموذج منظومة هجومية غنية إلى جانب منظومة دفاعات أرضية، فيما المنظومتان موزعتان ومكونتان من "خلايا قتالية" مستقلة ذاتياً، مخفية - خصوصاً في المناطق المأهولة - ومنتشرة في عمق الأراضي اللبنانية. هذا النموذج مُعدّ لتصعيب مهمة إخضاع التنظيم. ومن المشكوك فيه ما إذا كانت قد نضجت القدرة على تنفيذ عملية "سريعة وذكية" تسلب "حزب الله" رغبته في القتال أو قدرته عليه، ولذا فإن إخضاعه مرهون بتدمير تشكيلات قتالية عديدة جداً في مناطق واسعة (غالبيتها مناطق مأهولة بالسكان). وهي مهمة ممكنة وقابلة للتنفيذ لكنها تتطلب وقتاً طويلاً من القتال ومنوطة بثمن باهظ، عسكرياً وسياسياً ومدنياً، كما تنطوي على مخاطر كبيرة.
- يعني هذا أنه ينبغي توجيه جهود الجيش الإسرائيلي الأساسية إلى مجالات الاستخبارات، وبناء القوة، والتخطيط العملاني بغية إضعاف الرابطة ما بين فداحة الضرر اللاحق بـ"حزب الله" وبين الثمن المدني والعسكري الذي سيكون على إسرائيل دفعه مقابل هذا الضرر. ينبغي للجهود العسكرية أن توظف في تطوير القدرة على تعميق الضربات والأضرار التي ستلحق بـ"حزب الله"، مقابل تقليص الأثمان الإسرائيلية إلى درجة محتملة تقع ضمن دائرة التوقعات التي يضعها صناع القرار الإسرائيليون، وكل ذلك خلال فترة زمنية محددة وقصيرة. وثمة تحدّ آخر أمام الجهود العسكرية يتمثل في القدرة على مواجهة القدرات النوعية التي راكمها "حزب الله" منذ سنة 2006، ابتداء من القدرة على الاجتياح البري، مروراً بالطائرات بدون طيار، والصواريخ الموجَّهة عن بعد، والصواريخ المضادة للسفن، وصواريخ أرض – جو، وانتهاء بالوسائل المختلفة في مجال الحرب السيبرانية.
- ويكشف تحليل المعطيات الأساسية أنه حتى المواجهة الواسعة النطاق لن تحقق لإسرائيل أو لحزب الله إنجازاً "إيجابياً" ثميناً ولن تغير الواقع بصورة دراماتيكية (إلاّ إذا كان سياق المواجهة الخاص يملي خلاف ذلك)، ولذا فمن المحتمل أن تكون لدى كلا الطرفين مصلحة مشتركة في خفض ثمن المواجهة. ويمكن الافتراض أيضاً بأن إيران في أية مواجهة ستقوم بترميم قدرات "حزب الله" وإعادة تأهيله بعد انتهاء المواجهة بوقت كاف، بحيث يحافظ "حزب الله" على مكانته السياسية وعلى جزء، على الأقل، من قدراته القتالية.
- ربما يبرر السياق الخاص الذي ستندلع فيه المواجهة عملية عسكرية واسعة تهدف إلى إخضاع "حزب الله". لكن على الأقل، يبين التحليل العام جملة من الأمور: ثمة درجة من التناسق في الضرر المتبادل لكلا الطرفين في حال وقوع المواجهة؛ إخضاع "حزب الله" مرهون بتدمير واسع النطاق لتشكيلات قتالية مختلفة يمتلكها، وبدفع ثمن يتناسب مع حجم الضرر والتدمير؛ ثمة صعوبة في تحديد الإنجاز السياسي "الإيجابي" والثمين الذي يمكن تحقيقه من خلال مواجهة عسكرية كهذه، وخاصة مع الافتراض بأن إيران ستعود إلى ترميم قدرات "حزب الله" وتأهيله، ولو جزئياً على الأقل، بعد فترة زمنية من انتهاء المواجهة. وعليه، فإن الاستنتاج هو أن ثمة فائدة محدودة فقط من وضع مخطط لمواجهة واسعة النطاق، ومن الأصح الاكتفاء بمخطط محدود، أي: الاكتفاء بجهود توظف لتحقيق مكاسب محدودة، بأثمان ومخاطر محدودة. وبقدر ما يكون الأمر عملياً، قابلاً للتنفيذ وتحت السيطرة، يجدر النظر في، وتفضيل، مخططات لمواجهة محدودة، قبل اتخاذ قرار باعتماد مخطط لمواجهة واسعة النطاق. ينبغي أن يكون الخيار الأمثل بشأن مخطط المواجهة وثمنه المتوقع مرتبطاً بالهدف وبالسياق الخاص، وليس بالمكاسب القصوى المراد تحقيقها.
- وجد الجيش الإسرائيلي صعوبة ملحوظة في فرض نهايات سريعة لعدد من الحروب والمواجهات العسكرية الأخيرة ("عملية الجرف الصامد" هي المثال الأخير والأبرز)، وعلى القيادة السياسية أن تطالب القيادة العسكرية في مرحلة النقاش السابق للمواجهة بشرح وتفسير كيف يمكنه أن يوجد الظروف والشروط اللازمة لإنهاء المواجهة. وعلى المخططين العسكريين أن يفسروا، بشكل خاص، سبب اعتقادهم بأن توجيه الضربات النارية (القصف من بعد) القاسية، أو تنفيذ الهجوم البري وفق مخططهم، يمكن أن يوجدا شروطاً مناسبة لفرض نهاية للمواجهة، في الوقت الذي قد يرغب فيه "حزب الله" بمواصلة القتال (هذا السؤال يصبح أقل أهمية وذا صلة في حال كان الطرفان معنيين بإنهاء المواجهة سريعاً).
- يمكن الافتراض، كنقطة انطلاق للتحليل، بأن إسرائيل تحقق الحد الأقصى من المكاسب بالضربات النارية التي توجهها خلال فترة زمنية قصيرة منذ بدء المواجهة، وعندئذ ستكون في وضعية الحد الأقصى من الفجوة بين مكاسبها وبين المكاسب المضادة التي يمكن أن يحققها "حزب الله" (رغم أن فرضية العمل هذه قابلة للتغير كلما حصل "حزب الله" على وسائل وقدرات قتالية متطورة وأكثر دقة في التصويب، مما قد يؤهله لتحقيق درجة أعلى من التناسب في نوعية الضربات النارية، مستقبلاً). وخلافاً للضربات النارية، يحتاج الهجوم البري (المناورة) إلى وقت طويل. وفي حالات عديدة، لا يسهم هجوم محدود النطاق، في تحقيق أهداف المواجهة، بينما يتطلّب الهجوم البري الواسع وقتاً طويلاً، وموارد وفيرة، وأثماناً كبيرة ومخاطر جدية. ومع ذلك، قد تكون للهجوم البري المحدود جدوى وقيمة ما في سياقات محددة، مثل منع تمركز "حزب الله" وإيران في هضبة الجولان السورية، وتحريك آليات إنهاء المواجهة، أو التأثير في قدرة "المحور" على استخدام المعابر بين لبنان وسورية.
- ويمكن أيضاً، الافتراض كنقطة انطلاق أخرى للتحليل، بأن ثمة علاقة مباشرة بين المدة التي تستغرقها المواجهة العسكرية وبين الثمن المدني والعسكري الذي ستدفعه إسرائيل. فاستمرار المواجهة، أو إضافة الهجوم البري إلى الضربات النارية عن بعد، قد يؤدي إلى تقليص الفجوة في ميزان إنجازات كل من الطرفين. ولهذا، لدى فحص إمكانية إضافة مراحل أخرى للمواجهة العسكرية، مثل الهجوم البري الواسع أو مزيد من الوقت للخطة العسكرية الأصلية، ينبغي على المخطِّط العسكري أن يثبت أن زيادة الوقت والجهد لهما ما يبررهما من حيث الكلفة - الثمن، والسياق الخاص، وتحقيق الهدف الاستراتيجي.
- كان بمقدور إسرائيل، خلال حرب لبنان الثانية (2006) إزالة جزء كبير من التهديد المحدق بها، الذي نشأ في معظمه من القذائف قصيرة المدى، بواسطة هجوم بري منظم في جنوب لبنان. لم تفعل إسرائيل ذلك سنة 2006، وكجزء من العبر والدروس، تم التشديد على الحاجة إلى الهجوم البري وتعزيز القدرات ذات الصلة. لكن منذ سنة 2006، تغيرت مميزات التهديد ومركباته، والهجوم البري الذي كان ملائماً آنذاك قد لا يعود بالفائدة المرجوة ذاتها، بمعنى إزالة التهديد على الأقل. ثمة حاجة، إذن، إلى تأكيد وتحديد الهدف الدقيق من الهجوم البري، في ضوء التغيرات التي حصلت في المعطيات الأساسية منذ ذلك الوقت، مع الأخذ في الاعتبار السياق الخاص الذي ستدور فيه المواجهة المقبلة.
- يجب أن تشمل الخطة العسكرية عدداً من نقاط التوقف المحتملة، التي ينبغي عندها فحص ما إذا كان بالإمكان إنهاء المواجهة مع تحقيق الهدف المطلوب، دونما حاجة إلى استكمال المراحل التالية الأخرى من الخطة. ومن المهم فحص ما إذا كانت هنالك مصلحة متبادلة لإسرائيل و"حزب الله" في الحدّ من المواجهة وعدم الوصول إلى حرب شاملة، ما يعني أنه ينبغي الانتباه إلى سلوك "حزب الله"، وإلى مخططه العملاني، وإلى تصريحاته. ويجب على الخطة العسكرية أن تشمل أيضاً خياراً بديلاً يتمثل في مواجهة محدودة الوقت والشدّة، بصورة تبادلية، وتخصيص الوقت والإصغاء اللازمين لفحص هذه الإمكانية.
آليات إنهاء المواجهة
- الرغبة في تقصير أمد المواجهة، وفرضية أن بلوغ الحد الأقصى من التفوق العسكري بالضربات النارية عن بعد ممكن التحقيق في الأيام الأولى من المواجهة، (ولو كفرضية موقتة قد تتغير في المستقبل)، وفرضية أن المواجهة ستنتهي من دون حسم، والوقت اللازم لتفعيل آليات الإنهاء ـهذه كلها تستلزم البدء بتحريك آليات الإنهاء فور تحقيق الهدف الاستراتيجي المركزي. هذا قابل للتطبيق في مرحلة مبكرة من المواجهة في بعض الأحيان، وحتى حين لا تتوفر "صورة انتصار" يمكن عرضها على الجمهور الإسرائيلي. ومن شأن احتمال اتساع المواجهة المقبلة على الجبهة الشمالية وتعدد حلباتها، بحيث تشمل سورية أيضاً، أن يتيح آليات إنهاء جديدة، يمكن البدء بتفعيل بعضها مبكراً وعلى وجه السرعة.
- ينبغي لعملية تشخيص وتحديد آلية الإنهاء ذات الصلة والفعالة في السياق الخاص للمواجهة أن تكون في محور النقاش بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية، قبل اندلاع المواجهة أو فور بدئها كحد أقصى. وينبغي السعي، في حالات كثيرة، إلى وضع نهاية لا تشمل اتفاقاً مكتوباً، سواء بسبب الفترة الزمنية الإضافية اللازمة لمواصلة القتال من أجل التوصل إلى اتفاق مكتوب، أو بسبب الفائدة الضئيلة المترتبة عليه في الواقع (على سبيل المثال: قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 الذي أنهى "حرب لبنان الثانية" ولا يجري تطبيقه على أرض الواقع).
إعداد الرواية مسبقاً: بمنظور عسكري، سياسي وجماهيري
- الشعور بتضييع الفرصة، الذي رافق الحروب الأخيرة، نابع، في جزء كبير منه، من التناقض بين الرسائل التصريحية التي بثتها القيادتان السياسية والعسكرية وبين الخطوات العملية التي اتخذتاها على الأرض. في بعض الحالات، على الأقل، بدت الخطوات العملية الصحيحة كأنها غير صحيحة أو غير ناجحة، نظراً لأن الرواية التي عرضتها إسرائيل لم تكن منسجمة مع خطواتها العملية. على سبيل المثال، عُرضت في أحيان كثيرة توقعات وتقديرات إسرائيلية بتحقيق الحسم في المعركة، على الرغم من أنه لم تُتخذ خطوات عملية تدفع باتجاه تحقيق الحسم أو تضمن حدوثه. ولم تُحسن إسرائيل وقف المعارك في النقطة المُثلى، في بعض الأحيان، جراء غياب رواية سياسية، جماهيرية، وعسكرية أحياناً، تشرح سبب هذا التوقف وغاياته.
- سيكون بالإمكان القول إن المواجهة المقبلة قد تكللت بالنجاح إذا ما حققت إسرائيل أهدافها الاستراتيجية، في السياق الخاص بالطبع، بيد أن التحليل العام للمعطيات الأساسية يوفّر قاعدة متينة للتقدير بأن المواجهة ستُعتَبر ناجحة إذا ما نجحت إسرائيل في قطع ووقف بعض سيرورات التعاظم لدى "حزب الله" وبعض المحاولات الإيرانية للتغلغل في المنطقة، وفق ما يتم تحديده مسبقاً، وفي اكتساب شرعية دولية لمواصلة العمليات الرامية إلى إحباط جهود التعاظم العسكري لدى "حزب الله" في فترة ما بعد المواجهة. وستُعتَبر المواجهة ناجحة إذا ما نجحت إسرائيل في إنهائها في وقت مبكر، بعد إلحاق أضرار جسيمة بـ"حزب الله" ومن خلال تقليص الضرر اللاحق بإسرائيل إلى درجة محتملة، وفق ما يتم تحديده مسبقاً. وستُعتبر المواجهة ناجحة إذا لم يتجاوز الاحتكاك مع روسيا فرضيات العمل الأساسية التي وضعها طاقم التخطيط وأقرها المستوى القيادي. ومع ذلك، يمكن الافتراض بأن المواجهة العسكرية المقبلة أيضاً لن تنتهي بصورة "ممتازة"، وأن إسرائيل لن تكون بالضرورة الطرف الذي يطلق الرصاصة الأخيرة، وأن "حزب الله" لن "يُهزمَ" وسيواصل امتلاك قدرات كبيرة وترويج روايته القائلة بأنه هو الذي "انتصر".
- سيكون ممكناً القول إن المواجهة قد تكللت بالنجاح إذا ما تم تقليص حرية الحركة والتواصل في محور إيران - العلويين - حزب الله إلى حد ما، وإذا ما تم استبعاد إيران عن عملية ترميم لبنان وإعادة إعماره، وإذا ما تعزز الردع الإسرائيلي بصورة كافية تتيح تأجيل المواجهة التالية فترة طويلة. إنها رواية ليست برّاقة ولكنها رشيدة، وينبغي إعدادها مسبقاً. ومن أجل إيجاد حالة من الترابط المنطقي في الجانب الإسرائيلي، ينبغي أن توضع مسبقاً رواية مناسبة في المستويات السياسية الحزبية، والعسكرية والجماهيرية.
* المصدر: عدكان استراتيجي، المجلد 20، العدد 2، تموز 2017، ص 49-61.
- ترجمه عن العبرية: سليم سلامة (حيفا).
- راجع الترجمة: أحمد خليفة.
[1] الفارق بين الاثنين هو في مستوى الخطأ الدائري المحتمل (CEP).
[2] “Kuwaiti Daily: Missile, Arms Factories Built By IRGC In Lebanon Have Recently Been Handed Over To Hizbullah,” Al-Jarida, March 11, 2017, https://goo.gl/BGgtkx
[3] غيلي كوهن، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية يؤكد: حزب الله يقيم في لبنان صناعات عسكرية بمعارف علمية إيرانية، هآرتس، 22 حزيران 2017، انظر.
[6] عاموس يادلين، روسيا في سورية والدلالات بالنسبة لإسرائيل، عدكان استراتيجي، المجلد 19، العدد 2، تموز 2016، انظر.
[7] إفرايم كام، روسيا وإيران: هل يسيران معاً؟، عدكان استراتيجي، المجلد 19، العدد 2، تموز 2016، انظر.
[8] رون تيرا، النظرية الإسرائيلية الثانية للحرب، عدكان استراتيجي، المجلد 19، العدد 2، تموز 2016، https://goo.gl/fiW4Hd
[9] أساف أوريون، "إعلان عقاب: حزب الله ولبنان - اثنان في واحد؟"، مباط عال، العدد 902، 27 شباط/ فبراير 2017، انظر.