معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛ وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.
- يبيّن حساب مركّبات ميزان الأمن القومي الإسرائيلي عشية سنة 2016 ونظرة إلى المستقبل القريب ـمن العام 2017 فصاعداً - أن العوامل المؤثرة إيجاباً على وضع إسرائيل الاستراتيجي لا تزال كما كانت قبل عام واحد: إسرائيل قوية من ناحية عسكرية؛ التهديد العسكري المباشر عليها تضاءل بدرجة كبيرة وهي تجيد تجنب خوض مواجهات وحروبات واسعة النطاق، وخاصة إزاء واقع التراجع المستمر في التهديد المحدق بها من جانب الدول العربية المجاورة؛ الاتفاق النووي الذي تم التوقيع عليه بين الدول العظمى وإيران في صيف العام 2015 أجّل إمكان تحقق التهديد النووي الإيراني المحتمل؛ على خلفية الصراعات في العالم العربي - الصراع السني ضد التطرف الشيعي، إلى جانب الصراع مع تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) وحركة "الإخوان المسلمون" - نشأت رقعة من المصالح المشتركة بين إسرائيل والعالم العربي السنّي. وإضافة إلى ذلك، حصلت تطورات إيجابية في مجال الطاقة يُفترض أن تحسّن وضع الاقتصاد الإسرائيلي ومن شأنها، أيضاً أن تسهم في تحسين علاقاتها مع دول أخرى. وفي المقابل - والحديث هنا أيضاً عن وجهات مستمرة - تحصل تطورات سلبية في بيئة إسرائيل الاستراتيجية: ضعفت مكانة الولايات المتحدة - وصورتها بشكل خاص - في منطقة الشرق الأوسط، وحدث انحسار في أهمية هذه المنطقة في مجمل اعتبارات إدارة الرئيس أوباما (ومن المتوقع أن تعزز إدارة الرئيس ترامب، أيضاً، النزعات الانعزالية). ويشكل استخدام القوة العسكرية الروسية في سورية عنصر تدعيم لإيران وحزب الله، وقد يحدّ من حرية العمل الإسرائيلية؛ استمرار الجمود في العملية السياسية بين إسرائيل والفلسطينيين، فيما يغذي الإحباط والتحريض المتصاعدان في الساحة الفلسطينية، منذ خريف العام 2015، "إرهاب الأفراد، السكاكين والدهس"؛ استمرار التدهور في العلاقات بين إسرائيل وأوروبا، إلى جانب تراخي التضامن الداخلي وتعمّق الشروخ في المجتمع الإسرائيلي. كما بلغت الحملات ضد شرعية قادة الجيش الإسرائيلي ومحاولات جرّ الجيش إلى مواجهة سياسية ذرى سلبية جديدة هذه السنة.
- كان في صلب التوصيات السياسية التي طرحها كاتب هذه السطور في الفصل التلخيصي لكتاب التقييم الاستراتيجي لإسرائيل الذي نُشر قبل سنة (للفترة بين 2015 – 2016) دعوة صنّاع القرارات إلى استثمار القدرات العسكرية، التكنولوجية والاقتصادية الإسرائيلية، وكذلك مكانة إسرائيل المتعززة في المنطقة، كأساس لإطلاق مبادرات ترمي إلى تحسين مكانتها السياسية والدفع بسيرورات نحو تحقيق تسويات سياسية مع الفلسطينيين ودول سنيّة في المنطقة. ومع مرور سنة كاملة على إطلاق تلك الدعوة، وفيما تواصل الحكومة الإسرائيلية التمسك بالسياسة السلبية، الحذرة والمكرِّسة للوضع القائم، لا تزال هذه التوصية المبدئية صالحة وسارية المفعول. ومع ذلك، من المهم الإشارة إلى وجهات تعززت في بيئة إسرائيل الاستراتيجية وتلك التي تبدو اليوم أكثر وضوحاً، بغية زيادة وضوح الإدراك الذي اشتقّت منه التوصيات السياسية، وكذلك التوصيات ذاتها، على حد سواء. وبالإضافة إلى ذلك، فمن شأن دخول رئيس جديد إلى البيت الأبيض، ما تزال سياسته في حكم المجهول إلى حد كبير، أن يؤكد الحاجة إلى التفكير من جديد بالاستراتيجية المحدَّثة المطلوبة لإسرائيل من أجل تعزيز أمنها القومي.
- استمراراً للتشخيصات المركزية حول وضعية إسرائيل الاستراتيجية في نهاية العام 2016، وبنظرة إلى العام 2017، سنقدم عرضاً تفصيلياً لتوصيات يشكل جمعها معاً قاعدة متينة لاستراتيجية عليا، سياسية - أمنية، من شأنها توجيه السياسة الإسرائيلية في مواجهة التحديثات المختلفة الماثلة أمامها مع الأخذ في الاعتبار عوامل التوتر المركزية.
مكوّنات البيئة الاستراتيجية
- الميزان العسكري - القوة العسكرية الإسرائيلية ليست موضع شك أو خلاف؛ حصل تضاؤل كبير في التهديد العسكري التقليدي المحدق بها، قوة الردع الإسرائيلية فعالة وإسرائيل ناجحة في تجنب الحروب والمعارك الضارية والواسعة. وبالرغم من الحروب الأهلية الدائرة على مقربة من الحدود الإسرائيلية، وعدم الاستقرار الإقليمي، وتنامي التنظيمات الإرهابية حول حدودها، وثلاث مواجهات في قطاع غزة منذ العام 2009، فإن إسرائيل اعتمدت سياسة عدم التدخل في الحرب السورية ونجحت في عدم الانجرار إلى حرب واسعة النطاق. التهديد التقليدي من الجيوش النظامية في الدول المجاورة اختفى تقريباً، بفضل السلام المستقر بين إسرائيل ومصر والأردن، وتفكك الجيش السوري، وانشغال أعدائها المركزيين في معارك أخرى، إضافة إلى الصورة الردعية المرتسمة فيما يتعلق بقدراتها العسكرية. ولا تزال إسرائيل القوة العسكرية الأقوى في الشرق الأوسط، والأكثر تطوراً من الناحية التكنولوجية، وذات القدرات الهجومية والدفاعية الأفضل جودة. وفي العام 2016، ظل الردع الإسرائيلي فعالاً حيال التنظيمات الإرهابية شبه الدولتية أيضاً. ومنع السلوك الإسرائيلي الحذر والمحسوب حصول أي تدهور أو تصعيد في مختلف الجبهات. وقد تضافرت مكانة إسرائيل العسكرية - الأمنية المتينة مع الاقتصاد القوي والمستقر نسبياً، ومع قطاع من بين الأكثر تطوراً في العالم كله في مجال الإنترنت والتقنيات العالية، لتشكل معاً مصدر جذب لعلاقات تجارية وعلمية واسعة مع دول عديدة. وهذه كلها تتيح مواصلة التقدم في مسار النمو الاقتصادي والاستقرار الاستراتيجي.
- تراجع مكانة الولايات المتحدة – تستمر مكانة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بالتراجع وثمة غموض يلف ميول الرئيس المنتخب دونالد ترامب - هل ستتعمق نزعة النأي والانعزال، أم نزعة تعزيز مكانة الولايات المتحدة وعظمتها والاستعداد لاستخدام قوة مكثفة ضد خصومها في العالم عامة، وفي الشرق الأوسط خاصة. موقف الرئيس أوباما المتحفظ تجاه التدخل العسكري، إلى جانب خشية بعض الأنظمة غير الديمقراطية من ممارسة الولايات المتحدة الضغط عليها من أجل الدمقرطة، وعدم وقوفها إلى جانبها في مواجهة التهديدات الداخلية، أضرّا بمكانة الولايات المتحدة في المنطقة. ورغم أن إدارة أوباما قد لاءمت سياستها لظروف المنطقة خلال السنوات الأخيرة وعادت إلى تفضيل الاستقرار واعتماد إصلاحات بطيئة وتدريجية على التحولات الحادة والإصلاحات البعيدة المدى، إلا أنه لا يوجد بين القوى السياسية والاجتماعية المختلفة في المنطقة، سواء تلك المؤيدة للإصلاحات الديمقراطية أو المعارضة لها، مَن هو راض عن محاولة هذه الإدارة المشي بين النقاط. وقد استغلت روسيا هذا الوضع كي تعود إلى الشرق الأوسط على قاعدة مساندة حلفائها، دون أية قيود قيميّة أو أيديولوجية. وثمة عامل إضافي آخر يعزز صورة الولايات المتحدة المتخلّية عن الشرق الأوسط يتمثل في تركيزها على آسيا (Pivot to Asia)، الذي يدفع لاعبين إقليميين، من بينهم إسرائيل، إلى البحث عن حلفاء آخرين، دوليين وإقليميين.
- في المقابل، تشكل العلاقات المميزة بين إسرائيل والولايات المتحدة أحد المركّبات الهامة في قوة إسرائيل، العسكرية والردعية. وعليه، فإن صورة الولايات المتحدة الواهنة، إلى جانب التوتر الذي ساد بين إدارة أوباما وحكومة إسرائيل، تنعكس سلباً على إسرائيل أيضاً. الاتصالات بين إسرائيل والولايات المتحدة بشأن اتفاقية المعونات الأمنية للسنوات العشر المقبلة، جسّدت، من جهة، الالتزام الأساسي الراسخ الذي لا يزال قائما في الولايات المتحدة تجاه أمن إسرائيل ويحظى بدعم عابر للأحزاب، ومن المرجح أن لا يحصل أي تغيير في ذلك حتى بعد دخول الرئيس الجديد إلى البيت الأبيض. ومن جهة ثانية، كشفت هذه الاتصالات عمق الشرخ الذي حصل في العلاقات بين البلدين، وخاصة بسبب النهج الذي اعتمدته إسرائيل في إدارة الخلافات السياسية مع الولايات المتحدة في مسألة الاتفاق النووي مع إيران، وكذلك بسبب سياسة الاستيطان الإسرائيلية التي تعتبرها الولايات المتحدة عقبة مركزية في طريق المساعي السياسية [للتوصل إلى حل للنزاع الفلسطيني- الإسرائيلي]. وتتوقع إسرائيل، من ناحية أولى، تحسن العلاقات مع الولايات المتحدة تحت رئاسة ترامب - وهو تغيير سينعكس في ترميم الثقة والتقارب بين قيادتي الدولتين - كما تتوقع، من جهة أخرى، توثيق التنسيق وتعزيزه في القضايا الاستراتيجية.
- احتدام التوتر بين الدول العظمى - بدا خلال العام 2016 أن رياح "الحرب الباردة" عادت لتهب من جديد في الحلبة الدولية. فقد سُجل في هذه السنة ارتفاع كبير في منسوب التوتر بين القوى العظمى - الولايات المتحدة، روسيا، الصين وحتى أوروبا أيضاً. وقد لامس التوتر بين الولايات المتحدة وروسيا حدّ احتمال وقوع مواجهة عسكرية بينهما في أوروبا على خلفية الأزمة في أوكراينا، وفي الشرق الأوسط على خلفية الحرب في سورية، رغم معركتهما المشتركة ضد "داعش". وشكـّل بحر الصين الجنوبي بؤرة أخرى للتوتر المتصاعد، بين الصين والولايات المتحدة هذه المرة. وبينما تتشارك الولايات المتحدة وروسيا في القتال في منطقة الشرق الأوسط بغية تحقيق هدف واحد مشترك - محاربة "داعش" والتنظيمات الجهادية السلفية الأخرى - إلا إن لكل منهما أجندات متناقضة كليةً تقريباً في مجالات أخرى. فروسيا تسعى إلى استعادة موقعها كدولة عظمى لا يمكن تجاهلها، والإبقاء على سيطرتها في سورية، وتعزيز تحالفها مع إيران، واستعادة نفوذها في مصر والعراق وليبيا، بل وتبحث عن موطئ قدم لها في السعودية. وتحاول موسكو وفق منظور عولمي، استثمار التسويات المحتملة في سورية وترجمتها إلى تخفيف في العقوبات التي فرضت عليها في أعقاب احتلال وضم شبه جزيرة القرم وعملياتها في أوكراينا. وفي المقابل، قاد الرئيس أوباما، مستغلاً واقع الاستقلال في مجال الطاقة وفي مسعى للتركيز على شرق آسيا، استراتيجية جديدة تنحسر فيها أهمية الشرق الأوسط عامة، وسورية خاصة، باستمرار. والولايات المتحدة وروسيا، على حد سواء، غير معنيتين بإرسال قوات بحرية للقتال، بل تختاران الاعتماد، بصورة أساسية، على حلفاء محليين مصداقيتهم وكفاءتهم غير مضمونتين، رغم المحاولات الدبلوماسية الحثيثة والتوصل إلى تفاهمات من حين إلى آخر. وفي المحيط الذي يزخر بهذا العدد الكبير من اللاعبين ذوي المصالح المتعارضة، يشتد التوتر بين الدولتين العظميين ويحمل في طياته احتمال التصعيد العسكري بينهما، على نحو لم يسبق له مثيل منذ أجيال عديدة. وفي سورية أيضاً، ليس واضحاً منحى السياسة التي ستعتمدها الولايات المتحدة بقيادة الرئيس المنتخب ترامب - هل ستجد آلية تؤدي إلى وقف إطلاق النار وعقد تسويات انتقالية؛ هل تنجح في بلورة تفاهمات مع روسيا حول مستقبل سورية؛ هل ستعمق التعاون مع روسيا ضد "داعش"؟ أم ستعمد إلى سياسة مغرقة في النأي والانعزال والتراخي، أكثر حتى من تلك التي اعتمدتها إدارة أوباما.
- تعتمد إسرائيل موقفاً سلبياً، حيادياً، حيال العمليات العسكرية التي تنفذها الولايات المتحدة وروسيا في المنطقة. وخلافا لما حصل في الماضي، فهي ليست طرفاً ولا تشارك في الصراعات الدائرة بينهما الآن، بل تبقي على علاقات جيدة مع كلتيهما، ما يشكل تعزيزاً إضافياً لمكانتها الإقليمية المحسَّنة. وبالإضافة إلى ذلك، انزاح الانتباه الدولي وابتعد عنها على خلفية التوتر بين الدول العظمى وأزمات دولية أخرى، من ضمنها التجارب النووية التي أجرتها كوريا الشمالية، وقرار الشعب البريطاني الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ومحاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا. ومع هذا، من شأن التوتر بين الولايات المتحدة وبين روسيا والصين وتقرّب إسرائيل من هاتين الدولتين توليد توتر بينها وبين الولايات المتحدة - حليفتها الأساسية والأكثر أهمية.
- الاتفاق النووي مع إيران - في المدى القصير، إسرائيل لم تتضرر من الاتفاق النووي. خلال السنة الأولى منذ التوقيع عليه، حافظ الطرفان على تطبيق الاتفاق بصورة معقولة، رغم بعض الشكاوى المتبادلة. وقد حقق الاتفاق غايته في المدى القصير بإعادة البرنامج النووي الإيراني إلى الوراء وبإطالة المدة اللازمة لإيران لامتلاك سلاح نووي بسنة واحدة أو أكثر. أما المشكلة الأساسية التي بقيت قائمة فهي أن هناك في إطار الاتفاق موعد لرفع غالبية القيود التي فُرضت على إيران، بحيث يكون في مقدورها العودة بعد 10 - 15 سنة إلى استئناف العمل المكثف في إنشاء البنى التحتية النووية، التي ستكون مشروعة طبقاً للاتفاق، ثم الوصول بالتالي إلى "فترة اختراق" قصيرة جداً لامتلاك القنبلة. إن التوقعات التي ظهرت بشأن زيادة هائلة في قدرات إيران المالية في أعقاب رفع العقوبات، بما يمكّنها من تعزيز قوتها بشكل سريع وتكثيف دعمها لوكلائها بصورة كبيرة لم تتحقق، كما خابت أيضاً الآمال بتحقيق تقدم في علاقات إيران مع الغرب وبإجراء تغييرات إيجابية في أدائها في مجالات مختلفة، وبضمنها نشاطاتها التآمرية في دول أخرى ووضع حقوق الإنسان فيها. فإيران لا تزال تعاني من مشكلات اقتصادية حادة بسبب أسعار النفط المتدنية، واستمرار العقوبات المتصلة بالإرهاب ونشاطها في مجال صواريخ أرض - أرض وانتهاك حقوق الإنسان، وكذلك جراء قصورات وإخفاقات إدارية واقتصادية بنيوية. فالمرشد الأعلى، علي خامنئي، هو الذي يملي السلوكيات الإيرانية، منطلقاً من حرصه وقلقه على مصير النظام الإسلامي، وهو غير معنيّ بعلاقات وثيقة مع الغرب ويقود سياسة التوسع الإيراني في الشرق الأوسط. أمّا الحائل الأساسي أمام مطامع الهيمنة الإيرانية في الإقليم فهو المعارضة السنيّة الشديدة لسياسات إيران في سورية والعراق واليمن.
- تعني هذه الأمور، بالنسبة لإسرائيل، أنه إذا لم يطرأ تحول سلبي دراماتيكي، فمن المتوقع أن تنعم بعقد من الهدوء النسبي في المجال النووي قبل أن تتجدد هذه المشكلة بكل قوتها على عتبة العقد المقبل. كما أن قدرة إيران على المسّ بإسرائيل بواسطة وكلائها أصبحت محدودة، إلى حد ما، جراء انهماكها في صراعات هي بالسنبة إليها أهم بكثير، وخاصة في سورية والعراق.
- ضعف اللاعبين غير الدولتيين واستهدافهم - اللاعبون غير الدولتيين، الذين أصبحوا لاعبين "شبه دولتيين" يدمجون ما بين السيطرة على السكان، وعلى مناطق، ولديهم جيش، ولكنهم أصبحوا جراء ذلك أكثر عرضة للاستهداف وأكثر ارتداعاً. في رأس قائمة هؤلاء اللاعبين، بالطبع، تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، لكن إلى جانبه أيضاً كل من "حزب الله" و"حماس". ويبدو أن هذه التنظيمات أصبحت تعي المحدوديات الناجمة عن ارتقائها إلى مكانة "شبه دولة" – مع موارد محدودة، والتزامات نحو السكان الذين تسيطر عليهم، ودرجة أعلى من الاستهداف والتعرض للضربات بفعل البصمات الرقمية على الوسائل القتالية التي في حوزتها، كما حصل لتنظيمات إرهابية تقليدية عديدة. لقد كانت إحدى نتائج ضعف الدول العربية ظهور لاعبين غير دولتيين في المنطقة، غير أن تحولاً في مسار تعاظم قوتهم حصل في العام 2016 على ضوء تشكل تحالفات دولية وإقليمية استطاعت وقف تقدمهم، بل دحرهم إلى الوراء.
- الضعف الأساسي الذي ألمّ بالتنظيمات الإرهابية "شبه الدولتية" هو ذلك الذي أصاب تنظيم "داعش". فخلال فترة السنتين ونصف السنة التي مرت منذ أصبح تنظيم "الدولة الإسلامية" عامل تهديد مركزي في الحلبة الدولية عامة، والشرق أوسطية خاصة، أشار كاتب هذه السطور غير مرة إلى محدودية قوته ومحدودية قدرته على التسبب بأضرار، بالنظر إلى موازين القوى بين "داعش" والدول العظمى، عالمياً وإقليمياً، التي استفاقت وتجندت لمحاربته. كما أشار، أيضاً، إلى غياب منظومة عسكرية حديثة لدى "داعش"، وإلى كونه يفتقر إلى اقتصاد متطور وقابل للحياة وفي الأساس افتقاره لظهر استراتيجي ذي قوة عظمى. وقد خسر "داعش" خلال العام 2016 أجزاء واسعة من معاقله الإقليمية (مدن مركزية: الرمادي، الفالوجة وتدمر)، فيما شُنَّت في أواخر السنة معركة متعددة القوميات لتحرير مدينة الموصل المركزية من سيطرته، لتتبعها معركة لتحرير عاصمة التنظيم - الرقّة في سورية. وهي معركة تمتاز بعدد كبير جداً من الغارات الجوية التي شنتها الولايات المتحدة وحليفاتها من الدول الغربية، بالتنسيق بين الجيش العراقي والقوات الكردية. وفي سورية، يشارك فيها أيضاً الجيش التركي بالتنسيق مع الجيش السوري الحر، إلى جانب مليشيات شيعية، إضافة إلى الغارات الروسية. وقد ألحق هذا الهجوم الواسع أضرارا فادحة بالتنظيم. ومع ذلك، يشار إلى أنه حتى لو فقد "داعش" المناطق التي يسيطر عليها، فسيبقى تنظيماً يقود حرب عصابات في المناطق السنية، وخاصة إذا ما استولى عليها الجيش العراقي الشيعي والمليشيات الشيعية. كما يُتوقع أن يواصل التنظيم تنفيذ عمليات إرهابية في الساحة الدولية وأن يبقى، أساساً، كفكرة تعيش في شبكات التواصل الاجتماعي وتغذي نزعات وميولاً جهادية في الشرق الأوسط وأفريقيا، مصدرها مشكلات أساسية اجتماعية واقتصادية وحرمان مجموعات إثنية ودينية من المشاركة في السلطة.
- ترى إسرائيل أن اللاعبين غير الدولتيين في المنطقة غارقون في صراعات وجودية وأنهم أقل تفرغا الآن للمواجهة معها -وهي المواجهة التي يعلنون التزامهم بها ظاهرياً، وفق أيديولوجيتهم. القوة التابعة لـ"داعش" في المنطقة الحدودية مع إسرائيل في جنوب هضبة الجولان تلتزم الهدوء تجاه إسرائيل؛ "حزب الله" متورط حتى النخاع في الحرب السورية، يسفك الدماء ويعاني من أزمة مالية ويتعرض لانتقادات شديدة ولاذعة في العالم العربي جراء دعمه نظام الأسد؛ حركة "حماس" منكبّة على إعادة بناء قوتها، بعدما فشلت في تحقيق أهدافها الاستراتيجية وتلقت ضربة قاسية جدا إبان المعركة التي شنتها إسرائيل ضدها في صيف العام 2014 ـ("الجرف الصامد" )، لكنها ملزمة بالاهتمام بالجمهور الذي تحكمه في قطاع غزة وبأخذه في الحسبان، بما في ذلك العواقب المدمرة على مكانتها وقدراتها التي قد تترتب على جولة جديدة من المواجهة بينها وبين إسرائيل. ورغم استمرار "حزب الله" في مساعي التعاظم وتعزيز قدراته العسكرية، حتى أصبح يمثل تهديداً استراتيجياً جدياً لإسرائيل، ورغم استثمار "حماس" موارد كبيرة في ترميم قدراتها العسكرية وتعزيزها، إلا أن وضعية إسرائيل الاستراتيجية عموماً تتيح لها حرية غير مسبوقة في المبادرة إلى عمليات عسكرية هدفها حماية مصالحها الأمنية وتقييد قدرة خصومها على التعاظم النوعي.
- الحرب الأهلية في سورية - الحل ما زال بعيداً، لكن التغيرات المتراكمة في ختام سنة من التدخل الروسي دعماً للأسد تعزز من قوة المحور الراديكالي المعادي لإسرائيل. فقد مكّن التدخل روسيا وإيران و"حزب الله" نظام الأسد من تحويل مجرى المعارك واستعادة سيطرته على مناطق عديدة وواسعة كان قد خسرها إبان الحرب. ومع ذلك، لم يستطع النظام السوري بعد تحقيق انتصار حاسم أو إعادة توحيد سورية كلها ضمن حدودها قبل العام 2011، ولا يبدو أنه سيفلح في ذلك في المستقبل أيضاً. فالمعارضة، بمختلف تنظيماتها، لا تزال تسيطر على مناطق واسعة في سورية.
- السيناريو الأفضل، من وجهة نظر إسرائيل، هو طرد نظام الأسد (إلى جانب طرد إيران وحزب الله من سورية) من جهة، ودحر "داعش" وإنشاء نظام سنّي معتدل في سورية، من جهة أخرى. وهو النموذج الذي يتحقق الآن، بشكل مصغر، في هضبة الجولان، حيث يستطيع الثوار السنّة المعتدلون هناك مواجهة نظام الأسد و"داعش"، على حد سواء. لكن تطبيق مثل هذا السيناريو في سورية كلها الآن ليس وارداً، جرّاء التدخل الروسي والإيراني في عمليات القتال. أما المرجح الآن، فهو واحد من ثلاثة سيناريوهات لا تحبذها إسرائيل. الأول - استمرار الفوضى والحرب الأهلية، مع حالات محتملة من انتقال النيران إلى إسرائيل، سواء كان ذلك متعمداً أم لا. الثاني - استقرار نظام الأسد في المناطق المحاذية لإسرائيل في هضبة الجولان، فيما العلاقات بينه وبين إيران وحزب الله أفضل وأعمق حتى من ذي قبل. والثالث - نشوء كيان سياسي سنّي إسلامي على الحدود الإسرائيلية في هضبة الجولان. ويبدو أن السيناريو الأول - استمرار الحرب الأهلية - هو الأكثر ترجيحاً، رغم ما يُتوقع من تعزز قوة نظام الأسد وسيطرته بفضل الدعم الروسي المكثف له. ومن المهم العودة والتأكيد على أن تعزز قوة المحور الراديكالي الذي تقوده روسيا وإيران في سورية، بالتعاون مع حزب الله، هو تطور استراتيجي سلبي بالنسبة لإسرائيل ويتعين عليها وضع سياسة ترمي إلى إضعافه، رغم الدعم الروسي الذي يحظى به.
- استمرار ضعف العالم العربي – التحول الذي يمرّ به العالم العربي منذ العام 2011 سيستمر، كما يبدو، سنوات عديدة أخرى، وستكون نتيجته المركزية تفاقم ضعف بعض الدول العربية إلى درجة الشلل التام، بل تفكك بعضها (سورية، اليمن وليبيا، بصورة أساسية، والعراق ولبنان أيضاً، بدرجة معينة). أمّا الدول التي لا تزال تحافظ على كياناتها في أطر دولتية فهي مسكونة بهاجس التهديدات على أمنها الداخلي وغالبيتها مشغولة بالمواجهة مع جماعات مسلحة تشكل خطراً على الأنظمة. والنتيجة هي ضعف الدول التي كانت تقود الاستراتيجية الراديكالية ضد إسرائيل وانشغالها، حالياً، بالأخطار الوجودية المحدقة بها، وهذا ما يحتل موقع الصدارة في سلم أولوياتها، مقارنة بالمواجهة مع إسرائيل. الصراع السني - الشيعي والصراع في داخل العالم السني (بين الراديكالية السلفية - الداعشية والإخوان المسلمين وبين التيارات العلمانية) سيبقيان على حالهما، كما هو متوقع، وسيجعلان من الصعب على العالم العربي الانتعاش والتعافي. مشكلات الأساس الاقتصادية - الديمغرافية - الاجتماعية، وبضمنها نقص المياه وأسعار الطاقة المتدنية، ومعدلات البطالة المرتفعة وانعدام الأمل أمام الأجيال الشابة، تشكل، جميعها، عبئاً إضافياً يحد من قدرة العالم العربي على التعافي من أزمته المتواصلة. وستبقى الحروب الأهلية المتعددة، وتدخل اللاعبين، المحليين والخارجيين، تشكل عامل تأثير سلبي على استقرار الدول في المنطقة وفي أوروبا (جراء توافد اللاجئين إليها).
- تواصل السعودية دورها الاستباقي الرائد، الذي يميز سياستها منذ اعتلاء الملك سلمان العرش، إلى جانب الدور المركزي الذي يقوم به ابنه محمد بن سلمان، وزير الدفاع، في قيادة الدولة. وترى القيادة السعودية الجديدة أنها في صراع وجودي ضد المحور الشيعي بقيادة إيران، إلى جانب مواجهة التهديد الجهادي/ السلفي. ومع أن من الصحيح ردّ هذا التهديد، ولو جزئياً على الأقل، إلى الوهابية الراديكالية المتكئة على الرعاية والتمويل السعوديين، إلا أن العربية السعودية نفسها تسعى لأن تقود محوراً من الدول السنية ضد إيران، وهي تبدي في ذلك إصراراً غير مسبوق. فإلى استعدادها القائم دائماً، لتخصيص موارد مالية لدعم تنظيمات متمردة تخدم الصراع ضد المحور الشيعي، في سورية وأماكن أخرى من المنطقة، أضيف الآن استعداد لاستثمار موارد عسكرية كبيرة في تدخل عسكري مباشر. هذا ما بدأ في البحرين، لكنه يبرز على نحو خاص في اليمن، حيث تواصل العربية السعودية معركتها، الجوية بالأساس، ضد المتمردين الحوثيين. ويحظى نشاط السعودية هذا بتأييد ودعم من غالبية الدول الخليجية، وبضمنها دولة الإمارات العربية المتحدة التي أرسلت إلى اليمن قوات بريّة.
- لكن قدرة العربية السعودية على جذب وتجنيد دول سنّيّة أخرى لهذه المعركة تبقى محدودة، حتى بين تلك التي تحصل على مساعدات سعودية كبيرة، مثل مصر وتركيا وغيرهما. فالتقديرات التركية والمصرية بشأن خطورة التهديدات مختلفة عن تقديرات السعودية، ولذا تختلف أولوياتهما الاستراتيجية أيضاً. التهديد الرئيسي، بالنسبة لمصر، هو من "الإخوان المسلمين"، ثم يليهم في سلم التهديدات الجهاديون/ السلفيون. أما بالنسبة لتركيا، التي استكملت الانتقال من جمهورية علمانية إلى دولة تحكمها حركة بروحية "الإخوان المسلمين"، فإن التهديد المركزي هو من الأكراد، يليهم "داعش". وينبغي الانتباه إلى أن توظيف هذه الموارد الهائلة في التدخل الإقليمي وفي محاولة منع أية انعكاسات سلبية على الحلبة الداخلية من جراء التحولات والتقلبات في العالم العربي، إلى جانب تدني أسعار النفط، تنطوي معاً على احتمال نشوء أزمة اقتصادية - اجتماعية في السعودية. مثل هذه الأزمة الداخلية قد تنفجر، أيضاً، على خلفية صراعات الوراثة في القصر الملكي، ومحاولة إجراء إصلاحات في الدولة، وتوتر مع السكان الشيعة في شرق البلاد.
- بالنسبة لإسرائيل، فقد ثبتت متانة اتفاقيات السلام بينها وبين مصر والأردن، على الرغم من كل التقلبات في العالم العربي. فوجود سفارتيهما في تل أبيب هو تعبير عن عامل الاستقرار في المنظومة الإقليمية ودعامة أساسية في وضع إسرائيل الاستراتيجي. وفوق هذا، فإن الحاجة إلى مواجهة التهديد المشترك من العدوين المشتركين، إيران و"داعش"، قد عززت التعاون والعلاقات الاستراتيجية بين إسرائيل وهاتين الدولتين. النظام المصري، الذي يجابه في شبه جزيرة سيناء جماعات إرهابية مسلحة تحولت إلى فرع لـ"الدولة الإسلامية"، فضلاً عن الخلايا الإرهابية التي تنشط في داخل الدولة المصرية، لا يعتبر إسرائيل عدواً، بل حليفاً استراتيجياً هاماً. ومع ذلك، ينبغي الانتباه إلى تدهور الوضع الاقتصادي في مصر، وفتور علاقاتها مع السعودية، ووجود مميزات سياسية – اجتماعية - اقتصادية في الدولة تشبه، إلى حد كبير، تلك التي شكلت خلفية الثورة في العام 2011. أما بالنسبة للعربية السعودية، فقد أدى التغيير الذي حصل في أدائها إلى توسيع قاعدة المصالح المشتركة بينها وبين إسرائيل، وتوثيق الصلات بين الدولتين، بل وربما نشوء استعداد سعودي متزايد لرفع هذه الصلات إلى ما فوق السطح. ومع هذا، يتعين الالتفات إلى أن الرأي العام السعودي، المعادي لإسرائيل، والخشية العميقة من إسقاطات العلاقات مع إسرائيل على الصراع الأيديولوجي ضد إيران و"داعش"، لا يزالان يشكلان عقبة أمام توثيق العلاقات، وخاصة في المستوى العلني بالتأكيد.
- الجمود السياسي في الحلبة الإسرائيلية - الفلسطينية والعنف الفلسطيني - في العام 2016، استمر الجمود التام في العملية السياسية والتدهور الأمني في الحلبة الإسرائيلية - الفلسطينية. وتواصل إسرائيل دفع الثمن بالأرواح البشرية، وبالسياحة والاقتصاد، وبمكانتها الدولية، وعلى الصعيد السياسي الداخلي. صحيح أن موجة "إرهاب الأفراد" التي بدأت في خريف العام 2015 وفي مركزها عمليات الطعن بالسكاكين والدهس، قد هدأت قليلاً، بسبب حالة الإرهاق في المجتمع الفلسطيني والتدابير المضادة الفعالة التي اتخذتها إسرائيل. إلا إن تفجر أعمال العنف مجدداً في خريف العام 2016، بالتزامن مع عيد الأضحى والأعياد العبرية، أثبت أن احتمال التصعيد ودوافعه لا يزالان موجودين، على خلفية الإحباط بين الفلسطينيين جراء انعدام أي أفق سياسي وجراء الوضع الاقتصادي - الاجتماعي المزري. والحكومة ("السلطة الوطنية") الفلسطينية في رام الله، بقيادة محمود عباس، تفقد، باستمرار، بقايا الدعم والتأييد وتعاني من انعدام الشرعية. ويُلاحظ احتدام الصراع الفلسطيني على وراثة السلطة، ويبدو أنه سيسهم بدوره في زيادة تصليب المواقف الفلسطينية.
- تُطرح في الحلبة الدولية، من حين إلى آخر، مبادرات لاستئناف العملية السياسية. في السنة الماضية، طُرحت على جدول الأعمال مبادرات من الحكومة الفرنسية، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وروسيا، غير أنها لم تصمد طويلاً. وفي المقابل، تخشى الحكومة الإسرائيلية من إقدام إدارة الرئيس الأميركي المنتهية ولايته، براك أوباما، على طرح مبادرة خاصة من طرفها خلال الفترة المتبقية حتى مغادرته البيت الأبيض ودخول الرئيس المنتخب، ترامب. مثل هذه المبادرة تسعى إلى صياغة نتائج المفاوضات بواسطة تحديد معايير لاتفاق إسرائيلي - فلسطيني في نص قرار جديد يصدر عن مجلس الأمن الدولي، أو إعلان رئاسي. وإذا ما عُرضت مبادرة كهذه، فستشكل تحدياً جوهرياً أمام حكومة إسرائيل لأن الإدارة الأميركية هي التي ستقودها، وسيكون على حكومة إسرائيل الاستعداد لمنع خطوة كهذه قدر المستطاع، والتأثير على معاييرها في حال إطلاقها.
- يستمر تدهور الوضع الاجتماعي - الاقتصادي في قطاع غزة وتشتد الضائقة في مجالات حيوية، في مقدمتها مجالات المياه والصرف الصحي والطاقة، وقد تتفاقم إلى أزمة إنسانية خطيرة. وقد دفع إدراك هذا التطور المتوقع إلى إحداث تغيير في السياسة الإسرائيلية حيال قطاع غزة، فتبنت توجها أكثر ليبرالية في كل ما يتعلق بحركة البضائع والناس من قطاع غزة وإليه، بيد أن الانفتاح في هذا السياق لا يزال محدوداً بسبب الخشية من تعاظم قوة "حماس" وبناء قوتها العسكرية، ولذا فليس في ذلك ما يغير المسار نحو أزمة خانقة يصبح الطريق منها نحو الانفجار العنيف قصيراً جداً.
- مكانة إسرائيل السياسية تتعرض لاهتزاز مستمر - تتواصل حملة نزع الشرعية عن إسرائيل في الساحة العالمية، وتتجسد أيضاً في حملة حركة المقاطعة، سحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS). صورة إسرائيل لدى الدول الغربية مستمرة في التدهور - وهذا منحى يعزز قدرة المجموعات المعادية لها على الحركة والعمل، وخاصة تلك التي تنشط في مساعي نزع الشرعية الأخلاقية والسياسية عن إسرائيل وتحاول تعميم المقاطعة ضدها في مجالات مختلفة. وقد أسهم في هذا التدهور، أيضاً، تشكيلة الحكومة الإسرائيلية، الأكثر يمينية مما مضى، ومبادرات التشريع غير الديمقراطية التي طُرحت إبان ولايتها، والتوترات المحتدمة حول العلاقة بين الدين والدولة، وادعاءات بشأن ردات الفعل المبالغ فيها على موجة إرهاب السكاكين والدهس، والجمود في العملية السياسية مع الفلسطينيين وتعيين شخصية سياسية يمينية لمنصب وزير الدفاع. وتبدو محاولات الحكومة الإسرائيلية إقامة وتنمية علاقات سياسية مع دول غير ديمقراطية، وفي مقدمتها روسيا والصين، محاولات بائسة ومثيرة للشفقة، ليس فقط بسبب طابع الأنظمة في هذه الدول وحقيقة أن لها مصالح متجذرة منذ سنوات طويلة جدا في الدول المعادية لإسرائيل، وإنما أيضاً لأنه لا يوجد أي مؤشر على استعداد هذه الدول لمنح إسرائيل دعماً سياسياً، علمياً، وتكنولوجياً وعسكرياً، كالذي تحصل عليه من دول أخرى، في مقدمتها الولايات المتحدة ودول أوروبية.
- توترات في الساحة الداخلية - ضمور التضامن والشعور بالهدف المشترك في المجتمع الإسرائيلي. القضايا التي تثير انتقادات دولية ضد إسرائيل تؤثر، أيضا، في تماسك المجتمع ومناعته وفي أداء المنظومة السياسية - الحزبية. فقد شهد الاستقطاب الاجتماعي والسياسي في إسرائيل تعمقاً واتساعاً يتجسدان في التفوهات والتصريحات المتطرفة والتحريض. فالتصريحات المتواصلة والمتكررة من أطراف سياسية ودعائية مغالية ومنفلتة ضد الجيش الإسرائيلي قد بلغت، على شبكات التواصل الاجتماعي، ذرى جديدة في هذه السنة. إن زعزعة القاعدة الجماهيرية التي يستند إليها الجيش والمس بشرعيته وشرعية قادته وبالقاعدة القيمية والمعيارية التي يقوم عليها، من شأنه أن يُضعف مناعة دولة إسرائيل إجمالاً. وفي المقابل، يستمر التدهور في العلاقات بين العرب والأغلبية اليهودية في داخل إسرائيل، بالرغم من قرار الحكومة بشأن خطة خمسية لتوظيف موارد كبيرة في الوسط العربي، بغية الدفع نحو دمجه اقتصادياً واجتماعياً في الدولة. كثيرون من بين العرب الذين لا يثقون بالحكومة يقدرون بأن مصير هذه الخطة سيكون كمصير سابقاتها في الماضي وبأن أعذاراً ومبررات مختلفة ستُطرح لتبرير عدم تطبيقها. ويدل التمعن في مصير الخطط السابقة التي وُضعت للوسط العربي في الماضي على أن ثمة لهذا التخوف ما يبرره ويسنده حقاً. ورغم ذلك، وبالمقارنة مع مجتمعات إسلامية أخرى، فإن الانجذاب نحو أفكار الراديكالية التي يطرحها ويروجها تنظيم "الدولة الإسلامية" محدود جداً بين الأقلية العربية في إسرائيل وعدد المتطوعين من بينها للانخراط في صفوف هذا التنظيم أو العمل وفق أيديولوجيته في داخل إسرائيل متدنٍّ جداً. وقد تمثل التطور الإيجابي في القرار الذي اتخذته أذرع الأمن، بعد تردد طويل، بالعمل بإصرار وحزم ضد ظواهر "تدفيع الثمن" ("تاغ محير")، أي أعمال الإرهاب الذي ينفذها يهود ضد عرب في يهودا والسامرة [الضفة الغربية] وفي داخل إسرائيل نفسها. فقد أدى هذا الإصرار إلى هبوط جدي في مدى انتشار مثل هذه الأعمال على هذه الخلفية.
توصيات سياسية
- أدت القوة العسكرية الإسرائيلية، ومناعة إسرائيل الاقتصادية، وضعف خصومها المنشغلين بأزماتهم الحادة، إلى جعل الحرب ضد إسرائيل في مرتبة هامشية على جدول أعمال المنظومة الإقليمية. كما أن المنظومة الدولية، التي تشهد صراعات ومواجهات بين القوى العظمى وتعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية، هي أقل اهتماماً اليوم بممارسة الضغوط السياسية على إسرائيل، مما يمنحها (إسرائيل) مهلة زمنية استراتيجية. وتطبيق الاتفاق النووي بين إيران والدول العظمى، الذي يقلص في المدى القصير المخاطر المحدقة بإسرائيل والناجمة عن المشروع النووي الإيراني، قد أدى أيضا إلى تحسين قدرتها على مواجهة التحديات الأمنية الفورية. والسؤال المركزي هو: هل تستغل إسرائيل هذه المهلة الزمنية الاستراتيجية بصورة صحيحة، في المديين القريب والمتوسط، من أجل بناء قدرتها على مواجهة التحديات الأكثر خطورة والمتوقع ظهورها في المدى البعيد؟ على الرغم من الوضع الاستراتيجي المريح نسبياً الآن، ينبغي عدم السماح للقيادة الإسرائيلية بالتهرب من المداولات والقرارات القاسية، الحيوية جداً من أجل بلورة سياسة أمن قومي متسقة ومتماسكة.
- السيناريو الأكثر ترجيحاً من بين السيناريوهات المحتملة بشأن انفجار صدام عنيف خلال السنوات القريبة هو جولة مواجهة أخرى بين إسرائيل وحركة "حماس" في قطاع غزة. يُحتمل أيضاً حصول احتكاك على الحدود في هضبة الجولان وعلى الحدود في شبه جزيرة سيناء، والسيناريو الأخطر بالطبع هو اندلاع مواجهة مع "حزب الله" عند الحدود مع لبنان. والمواجهة في غزة ستكون، على ما يبدو، محدودة علماً بأن إسرائيل مجهزة بصورة جيدة لخوضها، إذا ما أحسنت تحديد أهداف القتال بصورة صحيحة وإذا ما أحسنت، أيضاً، التحقيق في الأخطاء الاستراتيجية والمنظومية التي ارتُكبت إبان مواجهات من هذا النوع خلال العقد الأخير، وحرصت على تفادي هذه الأخطاء. أما المواجهة مع "حزب الله" فستكون أكثر قساوة وخطورة، وهي تنطوي على احتمال التصعيد إلى مواجهة أوسع مع سورية وإيران أيضاً، مما سيفرض على إسرائيل دفع ثمن باهظ في الجبهة المدنية. ومع ذلك، فإن القدرات الاستخبارية المتطورة، والقدرات الهجومية الدقيقة، والأنظمة القتالية المناسبة والصياغة الصحيحة لأهداف الحرب، ستتيح لإسرائيل ترجمة قوتها الشاملة وتجسيدها بتحقيق الانتصار. ومن المهم أن لا تؤدي التحديات الفورية إلى إلهائها عن التحديات المتوقعة في المدى البعيد زمنياً بدءاً من مجابهة تسلح إيران بالنووي بعد رفع القيود عن مشروعها النووي، وانتهاء بالتحديات الناجمة عن التقلبات في العالم العربي، والتآكل المحتمل في التفوق النوعي الإسرائيلي، بسبب تخفيف القيود التي وضعها الغرب على نفسه بشأن تزويد العالم العربي بالسلاح، ولهذا كله دلالات وانعكاسات هامة فيما يتعلق بعلاقات إسرائيل مع دول المنطقة والدول العظمى وما يتعلق، أيضاً، ببناء قوتها وبممارساتها على الصعيد السياسي.
- نقدم، فيما يلي، توصيات سياسية من شأنها أن تقدم رداً على التحديات الماثلة أمام إسرائيل في الوقت الراهن:
- توثيق العلاقات الاستراتيجية وتعميق الثقة مع إدارة ترامب - ستبقى الولايات المتحدة شريكة إسرائيل الأساسية في مواجهة تحدياتها الأمنية والسياسية. ولذا، ينبغي على إسرائيل عدم الوقوع في إغراء وهم البدائل الظاهرية بين الدول العظمى - روسيا والصين خاصة - التي لم تؤيد إسرائيل في أي تصويت جرى في مجلس الأمن الدولي أو في الهيئة العامة للأمم المتحدة. روسيا، وعلى الرغم من العلاقات الشخصية الجيدة مع قادتها، ليست بديلاً عن الدعم الأمني، السياسي والاقتصادي الذي توفره الولايات المتحدة والدول الغربية لإسرائيل، ناهيك عن أن روسيا ليست معنية بتقديم هذا الدعم لإسرائيل، أو ليست قادرة على تقديمه. نأمأأما الصين، فمن المشكوك فيه أن تستطيع إسرائيل الحصول منها على أي شيء يتجاوز منظومة العلاقات الاقتصادية - التجارية. ولهذه الأسباب أيضاً، ينبغي على إسرائيل استغلال التغيير في الإدارة الأميركية من أجل ترميم العلاقات التي تضررت بينها وبين الولايات المتحدة، مع السعي إلى استعادة الثقة الشخصية وعلاقات العمل الدافئة بين قادة الدولتين، من خلال بلورة تفاهمات استراتيجية في القضايا المركزية: المواجهة مع إيران وتطلعاتها نحو الهيمنة الإقليمية؛ الأنشطة التآمرية والأعمال الإرهابية؛ الدفع نحو حل الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني ومنع انتقال معالجته إلى الدول الأوروبية؛ الدور السلبي الذي تلعبه روسيا في سورية بما يعزز قوة ومكانة إيران و"حزب الله"؛ دعم وتقوية مصر والأردن والاستعداد لمواجهة أية تطورات إشكالية في منطقة الخليج. وثمة أهمية قصوى أيضاً لمعالجة منظومة العلاقات بين إسرائيل واليهود في الولايات المتحدة، بكل أجنحتهم وتفرعاتهم، مع التشديد على معالجة انحسار مكانة إسرائيل بين أوساط الجيل الشاب.
- بناء القدرة على إحباط اختراق إيراني نحو السلاح النووي - تمتلك إسرائيل، كما يبدو، مهلة زمنية تمتد بين 10 - 15 سنة من أجل بناء قدرة عمليانية موثوقة لهذه الغاية. وإذا لم ينجح الإحباط، فسيكون المطلوب، عندئذ، بناء قدرة على مواجهة واقع إيران كدولة تمتلك سلاحاً نووياً. ويمكن افتراض أنه إذا ما استطاعت إيران امتلاك قدرة نووية عسكرية، فسيكون في ذلك ما يحفز دولاً أخرى في الشرق الأوسط ويدفعها نحو التزود بالسلاح النووي. ولهذا، فمن الضروري أن تشمل خطة مواجهة إيران المنطلقة نحو السلاح النووي منع وإحباط إسرائيليين، وأيضاً تفاهمات استراتيجية واتفاقيات بهذا الشأن مع الدول الحليفة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة. وينبغي الاستعداد وتحديد متى بالضبط سيكون من الضروري فيها إعادة فتح وتعديل الاتفاق النووي، بغية منع وصول إيران في سنوات الاتفاق الأخيرة إلى مسافة قريبة جداً ("مسافة الصفر") من امتلاك القنبلة، وهذا ما يتيحه الاتفاق. ويفسح انتخاب ترامب المجال أيضاً أمام العودة إلى البحث من جديد مع الإدارة الأميركية غير الملتزمة بالاتفاق النووي بغية التوصل معها إلى تفاهمات، بل وإلى "اتفاق موازٍ" بشأن استعداد إسرائيل والولايات المتحدة المشترك لمجابهة المخاطر المترتبة على الاتفاق الذي تم التوقيع عليه مع إيران، وخاصة في المدى البعيد.
- المبادرة إلى خطوات في الساحة الفلسطينية - حتى وإن كان يبدو أنه ليس ثمة شريك في الجانب الآخر، لا للتوصل إلى اتفاق ولا لتطبيقه، فإن لإسرائيل مصلحة هامة في لجم الانزلاق التدريجي نحو واقع غير قابل للعكس يتمثل في تكوّن دولة واحدة [بين نهر الأردن والبحر]، من جهة، ويتمثل، من جهة أخرى، في العودة إلى التقدم نحو واقع الدولتين الذي ينتهي في إطاره الحكم الإسرائيلي على الفلسطينيين، مع الحرص على الجانب الأمني بل تحسينه. وعلى هذا، فالمطلوب هو المبادرة إلى بذل جهد من أجل تجديد الثقة بصدق النوايا الإسرائيلية في التوصل إلى اتفاق. وينبغي فحص جميع المسارات الممكنة للدفع نحو تسوية مع الفلسطينيين - المسار الثنائي؛ المسار الإقليمي (الذي يبدو أنه ينطوي بسبب التقلبات الإقليمية على فرصة جيدة، أفضل من السابق بكثير)؛ الاتفاقيات المرحلية؛ المسار المستقل. ومن الصحيح تبني سياسة مبادِرة لترسيم حدود، ولو موقتة، بين إسرائيل والكيان الفلسطيني، إلى جانب تقديم الدعم لمشروع بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية. ومن شأن الإعراب عن الاستعداد لاستئناف العملية السياسية مع الفلسطينيين أن يعكس مصداقية إذا كان مصحوباً بتليين المواقف بشأن مضمون الاتفاق. وثمة حاجة ملحة إلى مبادَرات إسرائيلية مستقلة تعزز مكانتها وعلاقاتها مع دول في المنطقة وفي خارجها، بما فيها الدول الحليفة لها في الغرب. كما تساعد هذه المبادرات في مهمة التصدي لحملات نزع الشرعية التي تتعرض لها إسرائيل.
- ومن المهم، بشكل خاص، إجراء حوار مع الإدارة الجديدة في الولايات المتحدة والتوصل معها إلى بلورة تفاهمات بشأن إمكانية تجنب الصدام العسكري المحتمل في قطاع غزة، والمتعلق إلى حد كبير بقدرة إسرائيل العسكرية، إلى جانب التباحث مع حليفاتها وأصدقائها في المنطقة وخارجها بغية وضع وتنفيذ برنامج خاص لتلافي حدوث كارثة إنسانية في قطاع غزة، وترميمه. ويقتضي الجهد لتحقيق الاستقرار في قطاع غزة إجراء حوار متواصل مع دول وجهات مختلفة، مثل مصر، والسلطة الفلسطينية، ودول الخليج، وتركيا، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي. وفي إطار حوار كهذا، يتعين النظر في أفكار مختلفة، من ضمنها بناء ميناء في غزة، ومدّ أنبوب غاز إلى القطاع وإقامة منشآت لتحلية المياه في المنطقة. ويتيح انتخاب ترامب العمل في بيئة أقل تشكيكاً بإسرائيل وأكثر تعاطفاً معها في واشنطن، لكنها تُلزم إسرائيل في المقابل بأن تقرر بشأن الحدود التي ترى نفسها مستقرة فيها، في إطار اتفاق مع الفلسطينيين أو في غياب القدرة على التوصل إلى اتفاق، والتحادث مع الإدارة الجديدة في واشنطن بناء على ذلك.
- الاستعداد العسكري لمواجهات واسعة النطاق مع "حزب الله" و"حماس" ـوذلك من خلال تطبيق الدروس المستفادة من المواجهات السابقة ومحاولة التقليل من احتمالات اندلاع مواجهات جديدة. إن احتمال التصعيد الرئيسي ضد "حزب الله" ينبع من الإجراءات التي تتخذها إسرائيل لوقف شحنات الأسلحة التي يتم إرسالها إلى هذا التنظيم، ومن محاولات التنظيم الرامية إلى إنشاء منظومة عسكرية وقواعد إرهابية في هضبة الجولان - وهي محاولة قد تتكلل بالنجاح على هامش الحرب في سورية، أو في حال تحقيق نظام الأسد انتصارا واضحاً. ولذا، يتعين على إسرائيل إعادة النظر في سياستها في هذا المجال باستمرار، بهدف مواصلة وقف نقل الأسلحة النوعية إلى هذا التنظيم وتقليل مخاطر التصعيد إلى الحد الأدنى الممكن. كما يتعين على إسرائيل، أيضاً، الاستمرار في جمع المعلومات الاستخبارية عن مكوّنات القوة المركزية لدى "حزب الله"، لكي تمتلك القدرة على توجيه ضربة استباقية و/ أو شل وتحييد المنظومات النوعية التي في حوزته، في غضون فترة وجيزة جداً منذ انطلاق المعركة. وعلى إسرائيل، أيضاً، إعداد خطة بشأن البنى التحتية الوطنية في دولة لبنان وعدم فصلها عن "حزب الله"، إلى جانب تطوير قدرة المناورة البرية من خلال الدراسة الدائمة لمميزاتها ولدورها في الحسم، العيني (المعركة العينية) والاستراتيجي.
- وينبغي الانتباه، في هذا السياق، إلى أن لإيران اليوم - خلافاً للماضي- قوات كبيرة في سورية، بموافقة صامتة من جانب الدول الغربية وبتعاون نشط من جانب روسيا. وإذا ما نجحت إسرائيل في توجيه ضربة جدية لـ"حزب الله" وتعريض مكانته في لبنان للخطر، فستكون إسرائيل عندئذ ملزمة بالاستعداد لمواجهة تطور يتمثل في تدخل عسكري إيراني مباشر، بواسطة قوات كبيرة، أو من خلال "متطوعين" شيعة بقيادة وتوجيه إيرانيين. وخلافاً للماضي، ستواجِه إسرائيل قيوداً نابعة من وجود القوات الروسية في سورية، وغلاف النيران التي تطلقها منظومات الدفاعات الجوية الروسية التي تغطي سماء لبنان وإسرائيل، والتعاون الاستخباراتي والاستراتيجي بين روسيا و"حزب الله". ويجدر بإسرائيل أن تتقصى وتبلور، قبل اندلاع المواجهة وليس في خضم القتال، قواعد اللعبة المناسبة مقابل الروس في حال وقوع مواجهة مع "حزب الله". ومن المهم أيضاً استنفاد أية مساهمة روسية ممكنة في لجم "حزب الله" وإيران وفي منع التصعيد غير المرغوب فيه. أما مقابل "حماس" في قطاع غزة، فينبغي أن تشدد الاستعدادات العسكرية على ضرورة تقصير مدة المعركة الحربية، وعلى محاولة استكشاف المفاجآت التكتيكية والمنظومية التي قد تعمد "حماس" إليها في المعركة المقبلة، والاستعداد لها. ومن المهم، أيضاً، إيجاد حل عملياني وناجع لمسألة الأنفاق والراجمات، بما يتجاوز الإنجازات المتحققة في مجال مواجهة القذائف. وفي هذا السياق ينبغي أن تكون المناورة البرية جاهزة، كجزء منتظم وحيوي من صندوق الأدوات العملياني. ولن تكون المناورة البرية والنيران الموجهة من الجو ترمي بالضرورة إلى احتلال غزة، وإنما إلى توجيه ضربة قاصمة موجهة إلى حدّ التدمير الكلي للذراع العسكرية لحركة "حماس".
- وسيكون من الصحيح التحادث مع إدارة ترامب بشأن هاتين الجبهتين، قبالة "حماس" و"حزب الله"، والتوصل معها إلى تفاهمات حول الخطوط الحمر التي ينبغي أن تعتمدها إسرائيل، وتحديد السياسة الشرعية لممارسة القوة ضد هاتين الجهتين، في حال وقوع مواجهة عسكرية أُخرى.
- الحزم في معالجة تعاظم قوة محور إيران - حزب الله في سورية - إزاء تعاظم قوة المحور الراديكالي في سورية، بدعم روسي، يتعين على إسرائيل إدارة المخاطر ومعالجتها بمنظور المدى البعيد، وفي مركزه التطلع إلى إزالة التهديد الناجم عن هذا المحور على الجبهة الشمالية. وينبغي للسياسة الإسرائيلية أن تشمل موقفاً أخلاقيا حازما حيال أعمال القتل الجماعي في سورية، ومساهمة محسوبة ومتعقلة في إفشال المحور الراديكالي، ومنع إيصال أسلحة نوعية إلى "حزب الله"، وجباية ثمن باهظ من أي طرف يمسّ بإسرائيل، ومنع تمركز عناصر إرهابية عند حدودها، وتوثيق العلاقات مع السنّة المعتدلين في ما وراء الحدود ومواصلة تقديم الدعم الإنساني لهم.
- تحسين العلاقات مع الدول العربية السنيّة - يتضح من الحوار بين إسرائيل والعربية السعودية ودول خليجية أخرى أن خوض عملية سياسية فعالة تجاه الفلسطينيين - حتى وإن لم تشمل مفاوضات حول الحل النهائي تنتهي باتفاقية متكاملة - سيفتح الباب أمام حدوث اختراق في العلاقات معها، إلى حدّ جعلها علاقات علنية. ورغم أن القضية الفلسطينية فقدت مركزيتها في نظر الأنظمة العربية، إلا أنها (الأنظمة) لا تزال تعتقد بأن هذه القضية تحتل مكانة هامة لدى الرأي العام في دولها، مما يبقيها عقبة أمام قدرة هذه الأنظمة على تحقيق مصالحها المشتركة مع إسرائيل وتعميق العلاقات معها. ومن شأن العملية السياسية الإسرائيلية - الفلسطينية، وفق ما ورد أعلاه، أن تتيح توسيع وتعميق هذه العلاقات وتحقيق القدرات الكامنة فيها لجعلها كنزاً استراتيجياً لإسرائيل، بما فيه من أفضليات ومزايا تنعكس أيضاً على مكانتها في الشرق الأوسط ومدى مقبوليتها كدولة شرعية فيه. وإضافة إلى ذلك، ثمة في هذه العلاقات أيضاً فرص وآفاق اقتصادية وافرة النتائج، فضلاً عن مساهمتها في الاستعدادات لمواجهة الأعداء المشترَكين.
- الاستعداد لمواجهات في مجال "القوة الناعمة" ضد إسرائيل - المواجهات المتوقع أن تخوضها إسرائيل ستدور في الحلبة العسكرية وأيضاً في حلبات أخرى تحضُر فيها القوة الناعمة - الاقتصاد، الدبلوماسية، الإعلام، شبكات التواصل الاجتماعي والمجال القضائي. القوة العسكرية الإسرائيلية تردع، إجمالاً وبصورة ناجعة، أعداء إسرائيل من التورط في مواجهة عسكرية مباشرة، لكنهم ينشطون بصورة حثيثة ومكثفة في فضاء الإجراءات القضائية، الدبلوماسية والاقتصادية، بغية إضعاف إسرائيل وتكبيدها أضراراً مستديمة. ويحتّم هذا على إسرائيل بناء أطر تنظيمية وبلورة استراتيجيات ومنهجيات عمل لمواجهة التحديات الماثلة أمامها، بصورة متّسقة ومتعددة الأبعاد.
- مواصلة تطوير قوة السايبر الإسرائيلية - إسرائيل هي إحدى الدول الست العظمى في العالم في مجال السايبر (حرب الإنترنت). وتشكل صناعات التقنيات العالية (hi-tech) الإسرائيلية محرّكاً اقتصادياً هاماً ومركّباً حيوياً في صادرات إسرائيل، ذات الموارد الطبيعية المحدودة. ولذا، ينبغي الاستمرار في تطوير القدرات الإسرائيلية في مجال السايبر، بالارتكاز على التعليم التكنولوجي، وتشجيع ثقافة المبادرات، والتجديد والقدرة على الابتكار، إلى جانب الخدمة العسكرية التي تؤهل الشباب المبادرين تأهيلاً جيداً لمواجهة تحديات السايبر المحدَّثَة.
- تطبيق الخطة المتعلقة بالوسط العربي وإزالة المعيقات - من أجل زيادة احتمالات تطبيق خطة الاستثمار في الوسط العربي، ينبغي تشجيع دمج العرب في المجتمع وفي الاقتصاد الإسرائيليين. إنها مصلحة استراتيجية خالصة لإسرائيل في سياقات الأمن القومي المختلفة، كما في مرتكزات التعاون بين الأغلبية اليهودية والأقلية العربية، وهذا من شأنه دفع المجتمع الإسرائيلي قدماً في مناحٍ إيجابية ورفع مستوى الاقتصاد الإسرائيلي. ومن أجل إحداث تغيير جوهري وتحقيق غاية دمج العرب ومساواتهم في الدولة، على الحكومة أن تتمسك بثلاثة مسارات رئيسية: تطبيق الخطة الخمسية للوسط العربي بحذافيرها ودون أية اشتراطات؛ الامتناع عن أية مبادرات تشريعية مقصدها إقصاء الأقلية العربية سياسياً وثقافياً؛ التحلي بالمسؤولية في التصريحات في قضايا تتعلق بالعرب في إسرائيل، إلى جانب التبرؤ العلني من التوجهات العنصرية الشائعة في الخطاب اليهودي.
- آن أوان حوار قومي سياسي واجتماعي حول المميزات الأساسية لدولة إسرائيل - هذا الحوار، الذي يرمي إلى رسم الطريق نحو ضمان وجود دولة يهودية ديمقراطية، آمنة وأخلاقية، يجدر أن يجري برعاية وإشراف القيادة السياسية، ومن المهم أن يتم إشراك الجمهور الواسع فيه من خلال شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الاتصال الأخرى المختلفة المتاحة. ومن المهم التوصل إلى ميثاق يحدد قواعد اللعبة في الساحة السياسية - الاجتماعية ويمنع توجهات وظواهر الاستقطاب، بما في ذلك التشريعات غير الديمقراطية والتحريض. وينبغي، من بين أمور أخرى، استئناف النقاش العام حول تغيير نظام الحكم في إسرائيل وموازنة القدرات التنفيذية للجهاز البيروقراطي، من خلال مراقبة قضائية وتنظيمية لا تسبب له الشلل بل تكون قادرة على منع الفساد والمس بحقوق المواطنين الأساسية.
- يُفترض بالسياسة التي نوصي بها هنا، على اختلاف بنودها ومجالاتها، أن تشكل أساساً ومنطلقا لتحسين استعدادات إسرائيل لمواجهة التحديات والتهديدات المختلفة المحدقة بها. ويتطلب تبني هذه التوصيات تفضيل الاعتبارات الموضوعية البعيدة المدى على الاعتبارات القصيرة المدى "المريحة" للاعبين السياسيين الأساسيين في إسرائيل. وستشكل قدرة واضعي السياسات على التغلب على الإغراء الكامن في تلبية المصالح السياسية - الحزبية الفورية الامتحانَ الحقيقي لأهليتهم القيادية.
- وعلاوة على ذلك، تستلزم سياسة الأمن القومي الإسرائيلية التعاطي مع توترات مركزية في بيئة إسرائيل الاستراتيجية - الداخلية والخارجية - وبذل الجهد للموازنة فيما بينها.
- ولن يكون هذا الجهد سهلاً على الإطلاق لأن الحديث يدور عن توترات جوهرية:
- بين الرغبة في إطالة فترة الهدوء الأمني وبين ضرورة المبادرة إلى إجراءات عملية وبلورة واقع مختلف، أكثر أمناً، ومنع تعاظم قوة العدو بما يمكنها من جباية ثمن باهظ مستقبلاً [من إسرائيل].
- التوتر بين قوة إسرائيل العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، وبين ضعفها السياسي، النابع في أكثره من استمرار سيطرتها على الفلسطينيين.
- التوتر بين القضايا الملتهبة في المدى القصير، مثل المواجهة المقبلة المحتملة مع "حماس" في قطاع غزة، وبين التهديدات الأكثر جدية في المدى المتوسط، مثل المواجهة الواسعة النطاق مع "حزب الله"، وفي المدى الطويل - اختراق إيراني نحو امتلاك السلاح النووي، ثم جنوح دول أخرى في الشرق الأوسط نحو تحقيق قدرات نووية.
- التوتر بين الاستثمار في بناء وتطوير القوة العسكرية "الصلبة" وبين الحاجة إلى الاستثمار في بناء وتطوير قدرات سيكون بالإمكان ترجمتها إلى "قوة ناعمة".
- عدم التناسُب بين إسرائيل وأعدائها، بمعنى القيود على استخدام القوة، على خلفية منظومة مغايرة من القيم وقواعد الحرب والقتال.
- التوتر بين قدرات إسرائيل العسكرية المتفوقة والصعوبات في تحديد أهداف سياسية من وراء استخدام القوة، وبين القدرة على تحقيق هذه الأهداف.
- التوتر القائم في أوساط الجمهور الواسع وفي المنظومة السياسية - الحزبية في إسرائيل فيما يتعلق بتعريف الانتصار في المواجهات العسكرية.
- الموازنة بين الموارد المخصصة للأمن القومي وبين تلك المخصصة للأمن الاقتصادي، ولجودة التعليم وللمناعة الاجتماعية.
- التوتر بين الوضع القائم (status quo)، بوصفه وضعاً يوفر الرد على التهديدات الأمنية في المدى القريب، وبين الحاجة إلى تطوير مبادرات من أجل تصميم واقع آخر مغاير حيال المخاطر المحدقة بطابع دولة إسرائيل في المدى البعيد.
- التوتر بين فرص الدفع نحو تسوية سياسية وبين المخاطر الأمنية التي ستنطوي عليها هذه التسوية.
- الموازنة بين مركبات العقيدة الأمنية الأربعة: الردع، الاستخبارات، الحسم والدفاع، وملاءمتها للمحيط الراهن بما فيه من تهديدات مستجدة وإنجازات مطلوب تحقيقها.
- الحاجة إلى نقاش حيوي وثاقب حول السؤال: أية دولة ستكون دولة إسرائيل؟ أين هي نقطة التقاطع بين الدولة اليهودية والدولة الديمقراطية، الآمنة والعادلة؟
فقط بالإدارة الحكيمة لهذه التوترات، يمكن تحويل التوصيات السياسية التي فُصّلت أعلاه إلى قاعدة صلبة ومتينة لاستراتيجية عليا، سياسية - أمنية، لدولة إسرائيل.