لم يعد أحد يعيش في مخيم الأشباح جنين
تاريخ المقال
المصدر
هآرتس
من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".
- لقد دُّمر مخيم جنين. وطرد الجيش الإسرائيلي 21 ألف شخص من سكانه. وجرى تدمير 200 منزل وكل طرقاته، بالإضافة إلى 400 منزل آخر لم يعد صالحاً للسكن. وتواصل جرافات الهدم عملها، على الرغم من أن المخيم تحوّل إلى "دبّ من قماش"، حسبما وعد سائق الجرافة العسكرية، متباهياً بأفعاله. هذا ما حدث في سنة 2002. وفي سنة 2025، أصبح مخيم جنين مخيم أشباح، وتحولت منازله وشوارعه إلى أنقاض ودمار، ومياه الصرف الصحي تتدفق في شوارعه.
- لم يعد يسكن أحد في مخيم جنين. الجيش الإسرائيلي يُطلق النار على أيّ شيء يتحرك، ولا أحد يجرؤ على الاقتراب من منطقة الموت هذه. مخيم جنين مات، وأصبح سكانه مشردين إلى الأبد. وأعلن الجيش أنه لن يسمح بإعادة بناء أيّ منزل، أو طريق فيه. بالنسبة إلى كثيرين من الإسرائيليين، هذا الخبر مفرح. وبالنسبة إلى آخرين كثُر، على ما يبدو الأكثرية، فإنهم سيهزّون أكتافهم غير مبالين. طوال سنوات، قالوا لنا إن مخيم جنين هو "وكر دبابير"، وعندما يُدمَّر هذا الوكر، يمكننا أن نفرح. لكن تدمير هذا المخيم هو جريمة حرب بشعة. ومَن يعرف المخيم ويعرف سكانه بصورة خاصة، لا يسعه سوى البكاء هذا الأسبوع.
- من المفيد أن نتوقف قليلاً أمام بيانات الجيش الإسرائيلي التي تداولتها هذا الأسبوع أبواق إعلامية وأشخاص لم تطأ أقدامهم قط طرقات المخيم، إلّا على متن سيارة مصفحة للجيش. يقول المراسلون "إن تدمير المخيم ضرورة لضمان حرية عمل الجيش الإسرائيلي"؛ و"الآن، تتركز العملية على النواحي المتعلقة بالبنى التحتية والهندسية"؛ و"أن ’المخربين’ بنوا المخيم بكثافة، وضيّقوا الطرقات، بحيث لا تسمح بمرور سوى السيارات الصغيرة"، و"كلّ منزل دُمّر باعتدال".
- إن "اعتدال" الجيش الإسرائيلي هو الأكبر في الكرة الأرضية. فالمخيم لم يشيّده "المخربون"، بل دولة الإمارات التي ساهمت في إعادة بنائه من جديد، بعد تدميره في سنة 2002. والمفارقة أن الذين خططوا لإعادة بناء المخيم، جعلوا عرض الطرقات مساوياً لعرض الدبابة، لكي يتمكن الجيش الإسرائيلي من اقتحام المخيم، هذه المرة، من دون أن تدمّر الدبابات كلّ ما يعترض طريقها. إن الكلمات الشيطانية المصقولة، التي تتحدث عن "البنى التحتية والهندسية"، ما هي إلّا لتبرير التدمير الكامل.
- مخيم جنين هو مخيم مقاوم ورمز للنضال ضد الاحتلال. في السنوات الأخيرة، تجمّع فيه العديد من المسلحين، وكان من الصعب التجول في المخيم من دون لقائهم. لقد كانوا من الشباب المتحمسين، شبان صغار عملوا في مصانع مرتجلة على تركيب عبوات ناسفة، من أجل منع اقتحام المخيم، مثلما جرى في سنة 2002. لم يخضع مخيم جنين قط للاحتلال. ولو حدث هذا النضال من أجل الحرية في أيّ مكان آخر، لَتحوّل هذا المخيم إلى أسطورة عالمية، مع أبطال وأفلام تروي ما حدث فيه.
- لقد كان هناك أشخاص يعيشون في المخيم. كان فيه مسرح يقدم مسرحيات للأطفال والكبار، وشهد حياة اجتماعية وثقافية، بقدر ما تسمح به الظروف الصعبة في مخيمٍ للاجئين. في حفلات الزفاف التي كانت تقام في الشوارع، كان الضيوف يتبرعون بالمال، من دون أن يُعرف كم تبرّع كلّ واحد منهم كهدية للعروسين الشابين، منعاً للإحراج. وسادت روح التضامن في المخيم.
- كان كلّ سكان المخيم من اللاجئين، ومن أبناء لاجئين طردتهم إسرائيل من أرضهم في سنة 1948. عاش هؤلاء الناس متمسكين بماضيهم، وكان يشدّهم الحنين إليه. ومجتمع يقوم على التمسك بماضيه ونكباته، مثل المجتمع الإسرائيلي، كان عليه أن يفهم ذلك. عندما ندمّر مخيم هؤلاء الناس للمرة الثانية خلال نصف قرن، وبعد 77 عاماً على طردهم من أراضيهم بالقوة، من المستحيل أن نتجاهل ماضيهم.
- لقد كان مخيم جنين المخيم التجريبي، ومخيما نور شمس وطولكرم على الطريق. ولدى الجيش الإسرائيلي خطط للمخيمات الـ18. عندما تُغلق حديقة للحيوانات، تحرص على نقل الحيوانات إلى مكان آمن. بينما عندما نغلق مخيماً للاجئين، نرمي السكان، الذين لا حول لهم ولا قوة، على الطرقات، للمرة الثانية والثالثة في حياتهم. وهكذا نحلّ مشكلة اللاجئين من خلال تحويلهم إلى لاجئين أكثر.