حرب لبنان الثانية - حدود التفكير الاستراتيجي
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

– ندوة عقدها المؤتمر بمناسبة مرور عشر سنوات على حرب لبنان 2006
المؤلف

(الجزء الأول)

خلفية

•خرجت إسرائيل من لبنان سنة 2000 من دون التنسيق مع الحكومة اللبنانية على شروط إخلاء الشريط الأمني في جنوب الدولة، لكنها فعلت ذلك بالتنسيق مع الأمم المتحدة: حدد مندوبو الأمين العام  للأمم المتحدة "الخط الأزرق" فاصلاً بين إسرائيل ولبنان-  لأنه من أجل ترسيم الحدود النهائية مطلوب موافقة الدولتين-  وعلى هذا الأساس اعتبرت الأمم المتحدة في بيان لها أن إسرائيل انسحبت من جميع أراضي لبنان، باستثناء قرية الغجر.

•استغل حزب الله الانسحاب السريع للجيش الإسرائيلي والفراغ الناشئ في جنوب لبنان للقيام بعدد من الخطوات: تعميم رواية الانتصار القائلة بأن إسرائيل لم تنجح في مواجهة عمليات "المقاومة" التي قام بها الحزب واندحرت أمامها؛ السيطرة عملياً على المناطق التي أخلتها إسرائيل في جنوب لبنان، والتمركز فيها، وتحول الحزب إلى سيد المنطقة مع القيام بعمليات استفزازية ضد إسرائيل؛ تعزيز نفوذه داخل المؤسسة السياسية في لبنان؛ بناء القوة العسكرية للحزب بمساعدة سورية وإيران، والتزود بمنظومات صواريخ أرض- أرض وقذائف أرض- أرض متوسطة المدى (تصل إلى 250 كيلومتراً)، وبمنظومات صواريخ متطورة مضادة للدبابات والطائرات، وطائرات من دون طيار للاستخبارات وللهجوم، وبصواريخ بر - بحر؛ إقامة بنية تحتية لإطلاق الصواريخ وللاختباء ولأجهزة الاستخبارات والتحكم؛ اعادة تنظيم العقيدة الاستراتيجية عبر الاعتماد على القدرة النارية لجيش نظامي وعقيدة عمليات حرب العصابات، بالإضافة إلى إعادة تنظيم بنية القيادة والتحكم؛ تقديم مساعدة مباشرة وغير مباشرة إلى تنظيمات الإرهاب الفلسطينية في التخطيط لهجمات وفي التمويل والتسليح.

•بموازاة خطوات البنية التحتية وبناء القوة والتموضع السياسي في لبنان، واصل حزب الله نشاطه الإرهابي الذي كانت ذروته خطف ثلاثة جنود إسرائيليين في منطقة مزارع شبعا في تشرين الأول/أكتوبر 2000 (في وقت كانت إسرائيل تواجه الانتفاضة الثانية في الساحة الفلسطينية)، وبعد ذلك حدثت عدة محاولات فاشلة لخطف جنود إسرائيليين في منطقة الحدود في العامين 2005 و2006. 

•في أيلول/سبتمبر 2004 اتخذ مجلس الأمن في الأمم المتحدة القرار 1559 الذي طالب القوات السورية بمغادرة الأراضي اللبنانية وحل الميليشيات المسلحة في الدولة، بالإضافة إلى توسيع سيطرة ومسؤولية الحكومة اللبنانية في جنوب لبنان. بعد اتخاذ القرار جرى حدثان مهمان في الساحة اللبنانية: اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري (شباط/فبراير 2005)، و"ثورة الأرز" التي أدت إلى إنهاء الوجود العسكري السوري في لبنان (نيسان/أبريل 2005).

•هذه كانت خلفية أحداث 12 تموز/يوليو، ذلك اليوم الذي نجح فيه حزب الله في مفاجأة دورية للجيش الإسرائيلي كانت تمر بالقرب من الحدود مع لبنان داخل أراضي إسرائيل، وخطف جنديين وقتل ثلاثة وجرح ثلاثة آخرين. وترافقت عملية الخطف مع اطلاق صواريخ أرض- أرض على المستوطنات في شمال إسرائيل. جاء هذا بعد مرور شهر على خطف الجندي غلعاد شاليط على الحدود مع قطاع غزة. وكان تقدير زعيم حزب الله حسن نصر الله أن رد إسرائيل على حادثة الحدود سيكون معتدلاً في ضوء تحول اهتمام الجيش الإسرائيلي نحو قطاع غزة، وغياب رد مهم من جانب إسرائيل على خطف جنودها سنة 2000 ومحاولات الخطف التي حدثت في 2005-2006، وثقة حزب الله الكبيرة (نصر الله شخصياً) في قدرته على توقع ردود إسرائيل على كل حدث. 

الهدف الاستراتيجي

•خلال سنوات الانتفاضة الثانية والمواجهات مع الارهاب الفلسطيني، اختارت إسرائيل عدم الانجرار إلى وضع قتال يدور على جبهتين: الفلسطينية والشمالية- وقدرت أن في إمكانها احتواء الأحداث في مواجهة حزب الله. وفي الوقت عينه راقبت إسرائيل بقلق تعاظم القوة العسكرية للحزب بالسلاح وتزايد ثقته بنفسه. وفي هذه الأثناء سيطر حزب الله على جنوب لبنان وتحدى الجيش الإسرائيلي يومياً من خلال عرقلته وتيرة الأعمال المدنية التي تجري بالقرب من الحدود وزيادة محاولاته من أجل خطف جنود إسرائيليين، سواء لاستخدامهم كورقة مقايضة أو من أجل اذلال إسرائيل. 

•بعد نجاح الجيش الإسرائيلي في التغلب على الارهاب الفلسطيني في عملية "الجدار الواقي" [2002]، وبعد أن أدركت إسرائيل أن عليها أن تضع حداً للاستفزازات المتواصلة لحزب الله، تفرغت لمعالجة الجبهة الشمالية. عندما وقعت حادثة الخطف في جنوب لبنان في تموز/يوليو 2006، التي جاءت وفي الخلفية حادثة الخطف في قطاع غزة، لم تستطع حكومة إسرائيل ضبط النفس وقررت مع قادة الجيش الإسرائيلي أنه يتعين عليها هذه المرة أن ترد بصورة صارمة. 

•جاء الرد العسكري على حادثة الخطف في جنوب لبنان تلقائياً تقريباً من دون إجراء تقدير للوضع الاستراتيجي، ومن دون نقاش ما الذي تريد إسرائيل تحقيقه.

•في الجلسة التي عقدتها الحكومة يوم الخطف تقرر عملياً خوض الحرب من دون تعريف العملية بأنها حرب، ومن دون اجراء التوضيح الضروري المتعلق بأهداف الحرب وفرص تحقيق هذه الأهداف.

•لو تصرفت الحكومة كما ينبغي لكان يتعين عليها دراسة خيارين أساسيين بما يتلاءم مع تحديد المشكلة الاستراتيجية:

الخيار الأول ينجم عن تحديد المشكلة الاستراتيجية بأنها تآكل في الردع. وتجلى هذا التآكل عملياً عبر استعداد حزب الله لتكرار مهاجمة إسرائيل. وجرّاء ذلك هناك حاجة إلى ترميم الردع. ومن أجل تحقيق هذا الغرض كان المطلوب تنفيذ عملية انتقامية شديدة جداً في لبنان تستمر عدة أيام، وتستند إلى قدرة هجوم ونيران بصورة أساسية من سلاح الجو. وذلك من أجل تدفيع حزب الله ثمناً باهظاً، وفي الوقت عينه التسبب بضرر ودمار للبنان نفسه المسؤول عما يجري على أراضيه، وضرورة تدفيعه ثمن الحماية التي يمنحها إلى تنظيم ارهابي. لم يكن في إمكان عملية إسرائيلية من هذا النوع اعادة المخطوفين ولا إزالة الخطر من جانب حزب الله، لكنها كانت تنطوي على فرص ترميم ردع إسرائيل من خلال تدفيع الطرف الثاني الثمن، ومنعه من مواصلة هجماته على إسرائيل.

الخيار الثاني ينجم عن تحديد المشكلة الاستراتيجية بأنها مشكلة تعاظم قوة حزب الله كتنظيم عسكري قوي ولاعب مسيطر في الجبهة الشمالية قادر على مهاجمة مواطني إسرائيل في أي لحظة يشاء. والقوة التي راكمها حزب الله غيرت تدريجياً موازين القوى بينه وبين إسرائيل كما غيرت اعتباراته السياسية، وأدت بالتالي إلى تآكل الردع الإسرائيلي. وبناء على ذلك كان المطلوب خطة استراتيجية تؤدي إلى تغيير الوضع من أساسه وتغيير موازين القوى. والوسيلة لتحقيق ذلك توجيه ضربة قاسية إلى قدرات حزب الله من خلال التركيز على قدراته على مهاجمة إسرائيل بواسطة سلاح صاروخي ذي مسار منحن، وإبعاد قوات الحزب عن الحدود مع إسرائيل.

•ويتطلب تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي استخدام قوة هائلة والقيام بمناورة برية في عمق الأراضي اللبنانية، على الأقل حتى خط نهر الليطاني (الذي لدى حزب الله إلى الجنوب منه الكثير من الأرصدة).

•مع حجم قوات يبلغ ثلاث فرق وحتى أربع، فإن عملية برية من هذا النوع كانت ستستمر على الأقل ستة أسابيع، وتنطوي بالطبع على ثمن وخطر كبيرين، بما في ذلك خسائر في الأرواح واحتمال تورط مستمر على أراضي لبنان. وكان المطلوب تقدير هذه العوامل ودراستها خلال عملية اتخاذ القرار.

•وكما هو معروف جرى النقاش في الحكومة من دون دراسة عميقة للخيارات المختلفة ولانعكاساتها. وانتهى النقاش بقرار الطلب من الجيش البدء بهجمات لسلاح الجو رداً على حادثة الخطف. على افتراض أن القرارات ستتخذ لاحقاً بما يتلاءم مع التطورات. وفي نقاش إضافي في المجلس الوزاري المصغر عرض الجيش على الحكومة اقتراح هدف استراتيجي ووضع نهائي يهدف إلى تغيير الأمور من أساسها. ووصف الوضع النهائي المقترح الواقع المطلوب في نهاية القتال كالتالي: إبعاد حزب الله عن الحدود الإسرائيلية- اللبنانية؛ إلحاق ضرر كبير بقدرة التنظيم (خاصة بمنظومته الصاروخية أرض- أرض المتوسطة والبعيدة المدى)؛ المس بمكانة حزب الله في لبنان وبصورته في العالم العربي؛ ترميم الردع الإسرائيلي في مواجهة التنظيم وسائر اللاعبين الإقليميين، وتحسين شروط تطبيق قرار مجلس الأمن 1559 بشأن كل ما يتعلق بانتشار الجيش اللبناني في جنوب لبنان، وبدء عملية نزع سلاح الميليشيات، وممارسة الحكومة اللبنانية مسؤوليتها السياسية؛ زيادة التدخل الدولي في لبنان من أجل تطبيق قرارات مجلس الأمن؛ وتوفير الشروط لإعادة الجنود المخطوفين ومنع عمليات خطف في المستقبل.