المجزرة في باريس: الدوافع والانعكاسات
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

– مباط عال

•يوم الجمعة الفائت هزت باريس سلسلة هجمات وصفها الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند وكبار المسؤولين الفرنسيين الآخرين بأنها أسوأ حدث إرهابي عرفته فرنسا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ونفذ الهجمات مسلمون من سكان فرنسا وبلجيكا، وربما مهاجرون جاؤوا إلى أوروبا عبر موجة اللاجئين التي شهدتها أوروبا في الأشهر الأخيرة. واعتبر الرئيس هولاند هذه الهجمات "إعلان حرب" واتهم تنظيم "داعش" بالمسؤولية عنها. وفي اليوم التالي للهجمات أعلن التنظيم مسؤوليته عنها مهدداً بأنها "ليست سوى البداية".

•من خلال هذه الهجمات وإعلانه مسؤوليته عنها يسعى تنظيم "داعش" إلى تحقيق ثلاثة أهداف: أولاً: تشكل هذه الهجمات انتقاماً من فرنسا بسبب تدخلها العسكري في الجهود التي يبذلها التحالف الدولي للقضاء على التنظيم في العراق وسورية، وأيضاً ترمي إلى ردع الدول الأخرى وتحذيرها من الانضمام إلى التحالف. ثانياً: إن هدف التنظيم من تنفيذ عدد من الهجمات المنسقة في قلب باريس هو زعزعة الإحساس بالأمن لدى مواطني فرنسا خاصة والغرب بصورة عامة، وأيضاً أن يبين للعالم الغربي أن صراعه معه لا ينحصر فقط بالأراضي الأساسية التي هي تحت سيطرته في العراق وسورية. ووردت إشارة الى ذلك في مطلع البيان الذي أعلن التنظيم فيه مسؤوليته من خلال الاستشهاد بالآية القرانية [من سورة الحشر] "وَظَنُّوا أَنَّهُم مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا". ثالثاً: تهدف الهجمات إلى مساعدة التنظيم على تجنيد متطوعين جدد بعد مرور عدة أشهر لم تسجل خلالها قوات التنظيم إنجازات بارزة، لا بل تلقت ضربات في العراق وسورية (بينها تحرير سنجار في العراق على يد الأكراد في الأسبوع الذي سبق هجمات باريس)، لقد أراد التنظيم من خلال مستوى تنفيذ الهجمات في باريس والعدد الكبير من القتلى الذي أوقعه، أن يظهر لمؤيديه والمتطوعين المحتملين أنه ما يزال قوياً وفاعلاً، وأنه وفى بوعده "بالبقاء والتوسع"، ووجّه ضربة إلى الغرب في عقر داره.

•بالنسبة لأوروبا، ظاهرياً، ليس جديداً وقوع حوادث قتل كبيرة في باريس. فقد سبق أن شهدت أوروبا حدوث هجمات على أراضيها أوقعت العديد من الضحايا جرى تنفيذها من جانب إرهابيين مسلمين أصحاب أيديولوجيا جهادية - في مدريد، ولندن، وباريس نفسها، لكن بعكس هذه الهجمات التي قامت بها القاعدة وعملاؤها، فإن تنظيم "داعش" يسيطر على أراض واسعة في سورية والعراق. هذا هو الشيء الجديد، ويدير التنظيم هذه الأراضي كما لو أنها كانت دولة، وبالتزامن مع محاربة قوات عسكرية من المنطقة نفسها ومن خارجها، بينها قوات من الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا وإيران. علاوة على ذلك، فإن التنظيم ليس هو الذي أوجد موجة هجرة العرب والأفارقة والأفغان والباكستانيين إلى أوروبا، لكنه زادها سوءاً، وهو على ما يبدو يستغلها لأغراض عملياتية، أي من أجل إقامة بنية تحتية للهجمات في أوروبا ولتنفيذ هجمات إرهابية. وجاءت مجزرة باريس في وقت توجد فيه أوروبا في ذروة نقاش عام في  الساحة الداخلية وبين الحكومات بشأن سبل مواجهة العدد الهائل من طالبي اللجوء من الشرق الأوسط وغير الشرق الأوسط.

•وبعكس الانعكاسات المحدودة للأحداث الإرهابية السابقة، فإنه من المحتمل أن تكون لمجزرة باريس انعكاسات بعيدة الأمد على عدد من الموضوعات، ومن المحتمل أن يكون لجزء منها انعكاسات على علاقات أوروبا بإسرائيل. فعلى سبيل المثال، ستقوي هجمات باريس الحركات القومية والانفصالية في عدد من الدول الأوروبية. وهذه الحركات ستستخدم بكثير من النجاح الحجج المعروفة بأن الاتحاد الأوروبي لا يستطيع تقديم الحلول الاقتصادية، ولا حل المشكلات الأمنية للدول الأعضاء، ومن هنا ضرورة عدم التنازل عن السيادة، وعن حدود آمنة خاضعة لسيطرة الدولة. 

•علاوة على ذلك، ستفاقم أحداث باريس حدة معضلة أوروبا بشأن أسلوب محاربة تنظيمات من نوع "داعش". وباستثناء حالات قليلة أرسلت فيها دول معينة قوات مقاتلة تابعة للانضمام إلى التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، أو عمليات لفرنسا في مستعمراتها السابقة [التدخل العسكري الفرنسي في مالي]، فإن دول الاتحاد الأوروبي امتنعت إجمالاً عن محاربة التنظيمات الارهابية براً واكتفت بهجمات من الجو. وفي مقابل الإدراك بأن الهجمات الجوية وحدها لا تكفي من أجل إلحاق الهزيمة بـ"داعش"، من المتوقع أن تُطرح حجج تعارض التدخل البري خوفاً من غرق طويل الأمد في الوحل السياسي - العسكري في سورية والعراق، ومن خسائر كبيرة نتيجة انكشاف جنود من دول أوروبية في أراض مليئة بأطراف معادية، وكذلك في أعقاب التجربة الكئيبة في العراق وأفغانستان، وعدم اليقين من القدرة على التوصل إلى حل سياسي قابل للبقاء والاستمرار في سورية وفي العراق، حتى بواسطة تدخل عسكري كثيف على الأرض. وبعد انضمام روسيا وإيران إلى الحرب ضد "داعش"، فإن تدخلاً أوروبياً محتملاً في القتال البري في سورية سيكون شديد التعقيد. ومن المعقول، والحال كذلك، وحتى لو اشتد القتال ضد "داعش"، أن يظل التحالف معتمداً في الأساس على عمليات القوات الجوية التي قد تترافق أحياناً مع إغارات محدودة لقوات خاصة.

•علاوة على ذلك، فإن تضافر حذر أوروبي من تدخل أكثر فاعلية في القتال ضد التنظيم في سورية والعراق، وحقيقة وجود روسيا وإيران وحزب الله بين الذين يتحملون هذا الخطر، سوف يخفف من الانتقادات الأوروبية ضد تصرف هذه الأطراف في جبهات أخرى - روسيا في أوكرانيا، وإيران وحزب الله على الصعيد النووي وفي الشرق الأوسط، وحزب الله في مجال الارهاب وزعزعة الاستقرار الداخلي في لبنان.

•ثمة أمل في إسرائيل بأن تزيد الهجمات في باريس فهم أوروبا للاعتبارات المرتبطة بمواجهة الارهاب الفلسطيني، وأن تؤدي إلى تخفيف الضغط الذي يمارس على إسرائيل، وتخفيف الانتقادات الموجهة ضدها في هذا الشأن من جانب مؤسسات الاتحاد الأوروبي وحكومات بعض الدول الأعضاء فيه. لكن أحداثاً مشابهة في الماضي تدل على أن هذا قد لا يحدث، وليس من المتوقع حدوث تغيير جوهري في النظرة الأوروبية إلى هذه المسألة، فحاجة أوروبا سواء إلى تركيا أو إلى إيران في موضوع اللاجئين ومحاربة "داعش"، ستحد من قدرة إسرائيل على تحسين وضعها حيال أوروبا. ومن بين الأمثلة على ذلك، أنه بعد فوز أردوغان الساحق في الانتخابات، تواصل تركيا عرقلة التعاون الأمني والاستخباراتي بين حلف شمال الأطلسي وإسرائيل. 

 

•وفي ما يتعلق بانعكاسات أحداث باريس على الساحة الفلسطينية الداخلية، يبدو أن "حماس" وسائر التنظيمات الإسلامية المسلحة تدرك احتمال تشبيهها بـ"داعش" بعد الهجمات، لذا سارعت "حماس" إلى إصدار إدانتها والقول إن الشعب الفلسطيني يعاني تماماً من الإرهاب عينه من جانب "الاحتلال الإسرائيلي"، كما سارع الجهاد الإسلامي إلى إدانة الهجمات. ويبدو أن هذه التنظيمات تتخوف اليوم من أن يصبغ الغرب الحركات الإسلامية المسلحة المختلفة بصبغة "داعش"، الأمر الذي سيؤثر على قدرتها في مواجهة إسرائيل على الساحة السياسية وأمام الرأي العام الدولي.

 

 

المزيد ضمن العدد 2255