الأزمة في المنظومة الفلسطينية: بين الدعاية والواقع
تاريخ المقال
المصدر
مركز موشيه دايان للأبحاث شرق الأوسطية والأفريقية
–
"تسومت همزراح هتيخون"
تأسس في سنة 1959 بالتعاون مع جامعة تل أبيب. وهو مركز متعدد المجالات، ينشر دراسات تتعلق بالنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، كما يُعنى بالموضوعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الدول العربية والدول الأفريقية. ولدى المركز أهم مكتبة للمصادر العربية من كتب ومجلات وصحف. وتصدر عن المركز سلسلة كتب مهمة في مختلف المجالات، ولديه برامج تدريب ومنح أكاديمية.
- المنظومة الفلسطينية بدت في السنة الأخيرة كمحرك يوشك على الانفجار، ويتدفق المزيد من الوقود إلى داخله على صورة احتكاكات بين الحركات السياسية، ومشكلات حكم في السلطة الفلسطينية، وتظاهرات، واشتباكات عشائرية. يرى العديد من الفلسطينيين في الأزمة تعبيراً عن أزمات اجتماعية وسياسية أساسية مستمرة في المجتمع. آخرون، في الأساس مراقبون خارجيون في إسرائيل، يفسرون الأحداث بأنها تعبير عن ازدياد التأييد لـ"حماس" وتدهور خطِر في وضع السلطة الفلسطينية التي تسيطر عليها حركة "فتح". وبينما يتعلق نقاش المشكلات الأساسية بمسائل مؤلمة وحقيقية، فإن ادعاء زيادة التأييد لـ"حماس" ليس بالضرورة مطابقاً للواقع. هذا هو بالتحديد السبب الذي يدفع حركة "حماس" إلى خلق وعي مخالف، من خلال تكثيف العمليات العسكرية ودعاية مناسبة تستعرض نجاحها وتأييدها الشعبي. أيضاً ادعاء التدهور السريع للسلطة مبالَغ فيه. صحيح أن تأييد "فتح" ضعف، لكن السلطة ليست كما ادعى أحد المعلقين، مؤخراً، أنها في "حالة سقوط حر إلى الهاوية". التوترات بين "فتح" و"حماس" هي نتيجة الجمود والمراوحة، وليست نتيجة تغيّرات جوهرية في موازين القوى. لكن هذا لا يجعل الواقع أكثر استقراراً، بل يخلق حالة من عدم اليقين تدفع الطرفين إلى العدائية- السلطة بسبب خوفها من خسارة مكانتها، و"حماس" بسبب خيبة الأمل إزاء صعوبة تعزيز مكانتها في الضفة خصوصاً، وفي المنظومة الفلسطينية عموماً.
- في نيسان/أبريل 2021، أعلن رئيس السلطة الفلسطينية وحركة "فتح" محمود عباس إلغاء الانتخابات البرلمانية التي كان يجب إجراؤها في أيار/مايو للمرة الأولى منذ 15 عاماً. من الصعب القول إن الإعلان فاجأ العديد من المراقبين الذين توقعوا أن يتصرف أبو مازن بهذه الطريقة لمنع إضعاف حركة "فتح". وبالاستناد إلى بحث أجراه المركز الفلسطيني للأبحاث السياسية والاستطلاعات في آذار/مارس 2021، حصلت "حماس" على 27% من الأصوات في مقابل 24% حصلت عليها "فتح". من المهم الإشارة إلى ظهور قائمتين من صفوف "فتح" (قائمة دحلان وقائمة البرغوثي- القدوة) بالإضافة إلى القائمة الرسمية، الأمر الذي كشف الانقسام المستمر في الحركة. مع ذلك، إن المجهول الأكبر الذي يُقلق الحركات المؤسِّسة عموماً، كان وسيبقى كتلة الناخبين التي لا تنتمي إلى أيّ منها. ويتراوح حجم هذه الكتلة بين 49% و66% من الناخبين. هذا الحجم دليل على تنوّع كبير من الناحية الاجتماعية، لكن الأبرز فيه هو المكون من جيل الشباب الذين لا يؤمنون بالنظام السياسي والاجتماعي التقليدي، ويقومون بأغلبية التحركات على الأرض، من التظاهرات ضد السلطة، وصولاً إلى هجمات الأفراد ضد إسرائيل.
- على الرغم من الكتلة الكبيرة المؤلفة من الذين لا ينتمون إلى أي جهة والتأييد غير الكافي، فإن "حماس" توقعت أن الانتخابات ستعزز مكانتها. وهي كانت، على سبيل المثال، تأمل بالحصول على ثمرة جهودها المستمرة، من خلال دعاية مموهة على وسائل التواصل الاجتماعي طرحت مطالب العديد من الشباب على جدول أعمالها من دون أن يشعر هؤلاء بأنهم يؤيدون فعلاً أجندة "حماس". تتضمن هذه المطالب وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل، ومحاربة الفساد، والدفع قدماً بالوحدة الفلسطينية، ومغادرة عباس مركز الرئاسة فوراً. لكن ما إن ألغى عباس الانتخابات حتى توجهت "حماس" نحو استراتيجيا أضافت إلى "القوة الناعمة"، التي تجندها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، "قوة خشنة" سعت، بواسطتها، لتقويض السلطة على الأرض من خلال الحجة الفعالة، القدس. واستغلت "حماس" الاحتكاكات في بوابة نابلس بين الشباب وبين الشرطة الإسرائيلية، وصبّت الزيت على النار في قضية إجلاء [المستأجرين] في حي الشبخ جرّاح، وقامت بحملة دعائية ناجحة طلبت من [المستأجرين] رفض أي تسوية. وبادر نشطاؤها إلى استفزازات برشق مصلّين في حائط البُراق بالحجارة التي جرى جمعها في وقت سابق، الأمر الذي أدى إلى اقتحام الحرم القدسي في رمضان. استغلت "حماس" تراكُم هذه الأحداث لتوجيه إنذار إلى إسرائيل أطلقت في نهايته 160 صاروخاً على القدس وعلى مدن الجنوب، وهو ما أدى إلى اندلاع عملية "حارس الأسوار". أطلقت "حماس" على العملية اسم "معركة سيف القدس"، كأن القدس هي مركز اهتمامها وليس تقويض السلطة.
- مع نهاية العملية، تحسّن التأييد لـ"حماس" موقتاً. وتجلى هذا الأمر علناً في التظاهرات التي نقلتها وسائل إعلام موجّهة وغير موجّهة، سُمعت خلالها هتافات مؤيدة للحركة وضد عباس. كما حققت "حماس" إنجازات بارزة وسط الرأي العام الغربي عندما تبنّت وسائل الإعلام الغربية السرديات التي نشرتها "حماس"، بمساعدة دول وتنظيمات فلسطينية وإسلامية. من بين هذه السرديات برزت حجة أن الاحتكاكات في القدس هي سبب المواجهات، والكلام التضليلي بأن الاضطرابات في المدن المختلطة في إسرائيل هي نتيجة جرائم الكراهية والتنكيل من طرف اليهود ضد العرب، وقمع الشرطة الوحشي للتظاهرات السلمية.
- لكن على الرغم من انطباع تزعزُع التوازن في المنظومة الفلسطينية السياسية، فإن الوضع على الأرض، وكما تكشفه أرقام الاستطلاعات، يقدم خلاصة مختلفة. بالاستناد إلى استطلاع المركز الفلسطيني للأبحاث والاستطلاعات PCSR، عاد التأييد لـ"حماس" إلى أحجام متواضعة، وحتى إنه تقلص قليلاً، من 27% في آذار/مارس، إلى 25% في أيلول/سبتمبر. كذلك، تآكل وضع "فتح" قليلاً وتراجع، من 24% في آذار/مارس، إلى 22 % في سبتمبر/أيلول. بالنسبة إلى "فتح"، تتمحور المشكلة في التأييد المتدني لعباس، والذي تراوح في السنة الأخيرة بين 9% و24.5%. وتدل شعبية مروان البرغوثي (22%-33.5%)، عضو "فتح" المعتقل في إسرائيل، والذي يأتي في مقدمة المرشحين للرئاسة، على أن المشكلة بالنسبة إلى الجمهور هي عباس بحد ذاته أكثر من "فتح" كحركة. مع ذلك، لم يحصل أي مرشح على الأغلبية المطلقة، في المقابل تواصل الكتلة، التي لا تؤيد أي مرشح من مرشحي الحركة، في الازدياد وتتراوح بين 45%-55%.
- هذا الجمود أدى إلى الإحباط في صفوف "حماس"، لعدم نجاحها في تغيير الوضع في الضفة، وأيضاً في غزة، بسبب عدم إحراز تقدُّم في مساعي التسوية مع إسرائيل. بناء على ذلك، فهي تتمسك بالتحدي الموجّه ضد إسرائيل والسلطة أيضاً، بواسطة حلفائها من الجهاد الإسلامي وجبهات اليسار. من بين الأساليب التي تنتهجها الحركة، والتي تطبع نشاطها في وسائل التواصل الاجتماعي، التركيزعلى تأجيج الشارع الفلسطيني للمشاركة في التظاهرات التي لا تنتمي إليها، سياسياً، أغلبية المشاركين فيها. رئيس المركز الفلسطيني للأبحاث والاستطلاعات خليل الشقاقي يقدّر عدد نشطاء الحركة في هذه التظاهرات، التي حدث أغلبها بعد وفاة الناشط المعارض نزار بنات في حزيران/يونيو، أنه لا يتعدى ربع مجموع المشاركين في التظاهرات. في الوقت عينه، تكثف "حماس" جهودها لتنفيذ هجمات ضد إسرائيل، بينما يدعو معلّقون متعاطفون معها الفلسطينيين إلى التوحد ضد السلطة الفلسطينية ومحاربتها بالقوة عينها التي يحاربون فيها إسرائيل.
- ...... وكأن التوترات السياسية لا تكفي، وقعت هذا الصيف اشتباكات عشائرية، وخصوصاً في الخليل، التي شهدت ازدياداً في أعمال الثأر بين عشيرة الجعبري وعشيرة العويني. تجدر الإشارة إلى أن وقف إطلاق النار، الذي يعلنه وسطاء الصلح من وقت إلى آخر، لا يصمد، ويستأنف شباب العائلات هجماتهم على بعضهم البعض. تدل هذه الظاهرة على التآكل في هرمية السلطة والمؤسسات الاجتماعية التقليدية وسط الفلسطينيين...
- في الختام، من المبالغة القول إن السلطة تسير على طريق الانهيار. لا تزال هناك أسئلة جوهرية مطروحة، وعلى رأسها القدرة على إبقاء الاستقرار بعد مرحلة عباس. لكن هذه المسائل لا علاقة لها، بالضرورة، بالوضع الحالي، بل هي مشكلات بنيوية مستمرة، مثل عدم إعداد زعامة جديدة من الجيل الذي تخرّج من الجامعات في السبعينيات. الأدق القول إن وضع السلطة و"فتح" يتآكل بصورة بطيئة، أيضاً وضع "حماس" لم ينجح في توسيع دائرة التأييد لها. الحركتان مهددتان، كما ذكرنا، من كتلة غير المنتَمين التي يُتوقع أن يكون تهديدها كبيراً، سواء لـ"فتح" أو لـ"حماس"، في ضوء الوجود الواسع للشباب في المجال العام وفي وسائل التواصل الاجتماعي التي تشكل ساحة تأثير وتنظيم من الدرجة الأولى. من الصعب القول إن هذه الظاهرة المعادية للمؤسسات ستتحول في نهاية الأمر إلى قوة سياسية منظمة. حتى لو لم ينجح الأمر، فستزداد الفجوة بين الحركات القديمة الموجودة وغير المرغوب فيها، وبين الخيار السياسي الجديد المرغوب فيه وغير المتوفر. ربما، حينئذ، سينشأ وضع خطِر يتمثل في غياب تمثيل واضح لكتلة حاسمة في الجمهور الفلسطيني، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى بروز حالة من الإحباط تنتج منها زيادة العلل والمشكلات القائمة.