•وصلت استراتيجيا الردع والاحتواء التي تمارسها الحكومة والجيش الإسرائيلي إلى طريق مسدود. ففي الجنوب في مواجهة قطاع غزة لم ينجحا في تحقيق التهدئة وفي إعطاء سكان النقب الغربي الشعور بالأمان بعد مرور 4 أشهر تقريباً، أي عملياً منذ 30 آذار/مارس، اليوم الذي بدأت فيه التظاهرات في السياج الحدودي. وفي الشمال لم ينجحا في وقف التمركز العسكري الإيراني في أراضي سورية، بل في إبطائه فقط.
•الإيرانيون والتنظيمات التابعة لهم، على الرغم من الضربات التي يتلقونها عدة مرات في الأسبوع، يواصلون جهودهم من أجل تحويل سورية إلى جبهة فعالة خاصة في مواجهة إسرائيل، جبهة يمكن أن تنطلق منها صواريخ أرض - أرض دقيقة، وأيضاً صواريخ بر - بحر دقيقة، ومنظومات مضادة للطائرات وصواريخ حديثة. كل هذا سيقلص حرية العمل لسلاح الجو وسيجعل من الصعب على إسرائيل مواجهة آلاف الصواريخ والقذائف التي جمعها حزب الله في لبنان، والتي يراكمها الإيرانيون في سورية. الحوار الدبلوماسي المكثف الجاري بين إسرائيل والروس و "حوار تبادل إطلاق النار" الذي يجري مع الجيش السوري يشكلان حلاً جزئياً، ولا يمنعان من حدوث انزلاقات.
•إسقاط طائرة السوخوي السورية أول أمس على يد سلاح الجو الإسرائيلي يردع نظام بشار الأسد، لكنه لا يردع الإيرانيين. والأحداث التي وقعت قبل وبعد إطلاق صواريخ من سورية على بحيرة طبرية، وإصابة ضابط من لواء غفعاتي على الحدود مع غزة، يجسدان جيداً خطورة المشكلة التي يمكن وصفها بكلمة واحدة: فوضى. الأمور خرجت عن السيطرة.
•إن مَنْ قنص وجرح الضابط الإسرائيلي على السياج في غزة كانوا أعضاء في مجموعات يصنفها الجيش الإسرائيلي مجموعات "مارقة". والمقصود جميع أعضاء التنظيمات الجهادية السلفية المتشددة التي تقوّض سلطة "حماس" في القطاع، لكن هذه المرة هناك سبب يدفع إلى التقدير أن ما حدث يوم الجمعة الماضي، أي إطلاق النار على الرقيب أول أفيف ليفي وقتله، له علاقة بفصيل متشدد داخل الذراع العسكرية لـ"حماس"، يفعل ما يريد.
•الأمر المثير للاهتمام أن المارقين السلفيين وأيضاً المتشددين داخل "حماس" يحاولون بواسطة الهجمات على السياج الحدودي جر الجيش إلى جولة قتال كبيرة إضافية داخل القطاع. وتأمل هذه التنظيمات المارقة بأن يؤدي ذلك إلى نهاية "حماس"، ويعتقد المتشددون داخل الحركة أنه إذا دخل الجيش الإسرائيلي إلى القطاع، فإنهم سينجحون في تكبيد إسرائيل خسائر قاسية وخطف جنود من أجل تحرير أسراهم.
•هذا على ما يبدو كان هدف الهجوم، الذي بدأ بإرسال أولاد إلى السياج. عندما وصلت قوة من الجيش علناً وبصورة مكشوفة لتفريقهم هاجمها القناص الذي كان مستعداً بصورة مسبقة في مواجهة مكان الحادثة. يجب على الجيش أن يفحص مجدداً الأساليب التي يستخدمها على طول السياج، وأن يحرص على قيام الجنود بمهماتهم من وراء ساتر.
•لكن هذا لن يحل المشكلة. لا يوجد هدوء في الجنوب لأن "حماس" غير معنية بحلول تهدئة حتى تحقيق أهدافها من دون تقديم تنازل مهم. تريد "حماس" الحصول على مال من السلطة الفلسطينية، وعلى كهرباء ومياه من إسرائيل، وعلى فتح معبر رفح من مصر. هذا جزء من المطالب التي تطرحها. إسرائيل مستعدة لتقديم مساعدة إنسانية إلى "حماس" بشرط وقف الإرهاب وإطلاق النار، وهي مستعدة حتى لإعادة إعمار القطاع إذا أعادت الحركة جثماني الجنديين المفقودين في عملية الجرف الصامد والمواطنين الإسرائيليين اللذين تحتفط بهما. لكن "حماس" ليست مستعدة لذلك، لذا هي تسمح للتنظيمات المارقة بالتحرك بوتيرة منخفضة، وبموازاة ذلك أيضاً تشغّل خلايا الطائرات الورقية والبالونات الحارقة. وبهذه الطريقة تحافظ على التوتر على طول الحدود، وعلى حاجة كل من إسرائيل ومصر والأمم المتحدة إلى الاستجابة إلى مطالبها.
•أسلوب العصي العسكرية والجزرات الاقتصادية الذي تستخدمه إسرائيل في مواجهة "حماس" في الفترة الحالية أفلس، والدليل على ذلك سكان النقب الغربي الذين تجعلهم صفارات الإنذار يركضون تقريباً في كل ليلة إلى الملاجىء. الضربات الانتقامية للجيش على الرغم من أنها مؤلمة جداً بالنسبة إلى "حماس" لا تدفع الحركة إلى وقف الإزعاج من خلال البالونات الحارقة، ولا إلى وقف إطلاق النار، سواء من قبل أعضائها مباشرة أو التنظيمات المارقة.
•وقف تدفق الشاحنات في معبر كرم أبو سالم لا يساعد كثيراً، وأيضاً لم تنجح مصر في التأثير في "حماس" ولا في كبحها. وقد فشلت الجهود التي يقوم بها المصريون وموفد الأمم المتحدة للتوصل الى التهدئة مرات ومرات. حان الوقت كي نفهم أنه لا يمكن أن نتوقع منهم التوصل إلى تهدئة.
•هذا المسار لا يبرز فقط في الجنوب بل في الشمال أيضاً. تنظيم "جيش خالد بن الوليد" الذي ينتمي إلى داعش ويسيطر على الجيب الذي يجمع بين حدود الأردن وسورية وإسرائيل، يتعرض لهجوم عنيف من الجيش السوري والميليشيات الشيعية التي تقاتل إلى جانبه وداخله.
•يدرك تنظيم داعش السوري أنه سيخسر الموقع لمصلحة جيش النظام، تماماً كما جرى في منطقتي درعا والقنيطرة، لذلك استخدم وسيلة معروفة لدينا من المشهد الغزاوي. أطلق صواريخ غراد في اتجاه بحيرة طبرية كي ترد إسرائيل بإطلاق النار على جيش النظام الذي يهاجمه. وهذا تقليد كامل لما تحاول التنظيمات المارقة أن تفعله في غزة، لكن بخلاف ما يجري في غزة، للجيش الإسرائيلي أهدافاً ليست قليلة لمواقع داعش في بنك الأهداف التابع لسلاح المدفعية والجو. لذا هاجمت الطائرات منصة إطلاق متحركة من طراز BM21 التي أطلقت بالأمس صواريخ غراد على بحيرة طبرية.
•من دون هذه العمليات كان يمكن أن يكون الوضع في الشمال أسوأ كثيراً. ينجح الجيش في عرقلة التمركز الإيراني وإبطائه، والانتهاكات للسيادة محدودة ولا تشمل هجمات على السياج. وإسرائيل تنجح في أن يهتم الروس بالحوار معها.
•إذن، ماذا يمكن أن نفعل في مثل هذا الوضع؟ في الجنوب المعضلة أكثر صعوبة وتعقيداً. في إمكان الجيش أن يفعل أكثر مما فعله في مجال تدمير البنية التحتية لـ"حماس" وحتى المس بزعاماتها (اغتيال مركّز)، لكن مثل هذه الخطوات سيؤدي حتماً إلى عملية عسكرية واسعة في قطاع غزة، سنكون في نهايتها في مواجهة معضلات لا تقل صعوبة: انهيار سلطة "حماس" والبقاء في القطاع حتى تحل محلها سلطة أُخرى.، أو الخروج من القطاع بعد تدمير أغلبية القدرات العسكرية لـ"حماس" والعودة إلى الوضع الذي كنا عليه قبل بداية العملية. وهذان الخياران لا يضمنان الهدوء لسكان جنوب إسرائيل على المدى البعيد.
•في الشمال المعضلة أبسط. بخلاف مصر التي تثبت عدم قدرتها على التأثير في "حماس" وكبحها، فإن الروس تحديداً في سورية قادرون على تأمين البضاعة. وهم لا يفعلون ذلك لأنهم ما يزالون بحاجة إلى الإيرانيين لمواصلة القتال ضد المعقل الأخير للمتمردين في محافظة إدلب في شمال سورية.
•إذاً، وعندما ينهي الأسد سيطرته على إدلب يحين الوقت الذي يستطيع الروس تنفيذ "التسوية السياسية الكبرى" التي يخططون لها في سورية، والتي في إطارها ستضطر القوات الأجنبية إلى المغادرة. اليوم لا فائدة من إبعاد الإيرانيين مسافة 100 أو 200 كيلومتر عن إسرائيل. ففي عصر الصواريخ والقذائف والسايبر، لا فائدة من بضع مئات من الكيلومترات. الموجود في الأطراف تماماً مثل الموجود على خط الحدود. لذا يجب على إسرائيل مواصلة العمل عسكرياً وأن توضح للروس أنه لن يكون هناك تسوية ولن يحققوا الأرباح من تدخلهم في سورية إلى أن يخرج الإيرانيون والتنظيمات التابعة لهم من هناك بصورة كاملة.