•في الحدود الشمالية في سورية ولبنان يتبلور واقع جديد. في السنوات الأخيرة قيل وكتب عن ذلك كثيراً، لكن هذه المرة يكتسب الأمر وزناً خاصاً.
•لقد أكّدنا ذلك هذا الأسبوع مرتين: في المرة الأولى عندما اطلقت بطاريات سورية مضادة للطائرات صاروخاً في اتجاه طائرة تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي كانت في مهمة تجسس روتينية في لبنان. وهذه هي المرة الأولى التي يتحرك فيها الجيش السوري ضد الجيش الإسرائيلي في لبنان منذ حرب لبنان سنة 1982. ليس من الواضح تماماً ما هو الدافع السوري لهذه الخطوة غير المعهودة التي يمكن أن يكون لها عدة تفسيرات. أحد هذه التفسيرات تخوف القيادة السورية العليا من أن تكون الطائرات الإسرائيلية تنوي مهاجمة أهداف في سورية من الأجواء اللبنانية، كما حدث عشرات المرات في السنوات الأخيرة. وهناك تفسير آخر هو أن ما جرى كان رداً انتقامياً ولمرة واحدة على الهجوم الذي شنته طائرات سلاح الجو الإسرائيلي قبل شهر ضد مصنع لإنتاج الصواريخ في عمق سورية بالقرب من حمص.
•لكن من المحتمل أن يكون الدافع أكثر عمقاً، وتختفي وراءه استراتيجية جديدة. ومن الممكن أن يشير إلى أن نظام بشار الأسد الذي تزداد ثقته بنفسه في ضوء النجاحات التي حققها في ساحة القتال، قرر منع طائرات سلاح الجو الإسرائيلي من التحليق من دون عرقلة في سماء لبنان وإطلاقها صواريخ متى تشاء، أي إن ما جرى ليس فعل اعتراض أو انتقام ضد إسرائيل، بل هو جزء من رغبة الأسد في استعادة سيطرته على الدولة براً وجواً وبحراً، وإعادة إقامة سيادته من جديد.
•ويمكن أن نجد دعماً لهذا التقدير في الحادثة الثانية التي حدثت هذا الأسبوع: زيارة رئيس أركان الجيش الإيراني الجنرال محمد بكري لدمشق. صحيح أن الجيش الإيراني يلعب دوراً ثانوياً بالمقارنة مع القوة العسكرية الأكثر أهمية وتأثيراً في الدولة، أي الحرس الثوري، لكن على الرغم من ذلك، لا يمكن الاستخفاف بهذه الزيارة.
•لقد قال رئيس الأركان الإيراني في ختام لقائه نظيره السوري إن الدولتين لن تقبلا بعد الآن بوضع يخرق فيه "الصهاينة" سيادة سورية. ويجب أن نضيف إلى ذلك أن إيران والتنظيمات التي تدور في فلكها، الميليشيات الشيعية من أفغانستان، وباكستان، والعراق واليمن، بالاضافة إلى حزب الله، متمركزة بصورة جيدة في سورية، وتحاول الاقتراب من الحدود في هضبة الجولان.
•من المحتمل أننا نشهد حركة كماشة سورية- إيرانية لتقييد حرية نشاط إسرائيل في سورية ولبنان.
•إلى جانب هذه المعادلة يجب أن نضيف مجهولاً آخر: روسيا. في هذا الأسبوع زار إسرائيل وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، والتقى وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان، ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ورئيس الأركان غادي أيزنكوت، وضباطاً كباراً آخرين.
•كان هدف الزيارة تحسين آلية التنسيق بين الجيشين، وتقليص خطر وقوع اشتباك بينهما في سورية. قبل عامين، وبعد اجتماع بين نتنياهو وبوتين، واجتماعات بين رئيسي الأركان وضباط كبار من الدولتين، جرى الاتفاق على آليات تنسيق، وهي تعمل جيداً. وباستثناء بعض الحوادث النادرة (تسلل طائرات روسية إلى إسرائيل)، وعلى الرغم من دوريات وهجمات سلاح الجو في سورية، لم تُسجل حادثة خارجة عن المألوف. لم تتوجه بطاريات الدفاع الروسية المنصوبة في منطقة ساحل اللاذقية ضد الطائرات الإسرائيلية، والطيارون الإسرائيليون لم يضطروا إلى اعتراض طائرات روسية.
•يبدو أن روسيا تقبل الواقع الجديد، وربما هي أيضاً تلعب لعبة مزدوجة وتساهم عن قصد بذلك في بلورة هذا الواقع. هي تقبل بتحركات سلاح الجو الإسرائيلي في لبنان وسورية، لكنها لا تمنع إيران وسورية من تحدي إسرائيل، وتسمح لهما بتوتير أعصابها واختبار حدود قدرتها على التحمل.
•لقد حاول الطرفان [الإسرائيلي والروسي] فرض تعتيم على مضمون المحادثات، لكن على الرغم من ذلك، وصلتني بعض التفاصيل بشأن ما جرى. قالت لي مصادر أمنية وسياسية إنه في المحادثات مع وزير الدفاع الروسي، شدد نتنياهو وليبرمان على الخطورة التي ينظران من خلالها إلى اطلاق الصاروخ السوري، وأنه إذا واصل الأسد السير في هذا الطريق فإنه يلعب بالنار. وطلبا من وزير الدفاع الروسي كبح الرئيس السوري، وأن يتدخل ويأمر القوات الإيرانية بالابتعاد عن حدود إسرائيل مسافة تراوح بين 40 إلى 60 كيلومتراً. حالياً يوجد مئات المقاتلين من حزب الله على بعد ٢ الى ١٠ كيلومترات من الحدود.
•أصغى الوزير الروسي اصغاء جيداً للمطالب والادعاءات الإسرائيلية. وكرر كلاماً قاله بوتين لنتنياهو بأنه يفهم حاجات إسرائيل الأمنية ومصالحها، لكنه لم يقدم كلاماً واضحاً وملزماً بشأن موضوعين يثيران قلق المستويين السياسي والعسكري.
•وأبعد ما كان مستعداً لقوله هو التعهد بأن تبذل حكومته كل ما في وسعها من أجل إقناع نظام الأسد وإيران بعدم توتير الحدود أكثر. وعلى الرغم من عدم ربطه هذا الكلام بما يلي، طلب من إسرائيل أيضاً أن توقف هجماتها في سورية وأن تمتنع عنها لفترة بضعة أشهر. وشدد الوزير الروسي على أنه خلال هذه الفترة يستطيع الأسد فرض سيطرته على الدولة، وتزداد ثقته بنفسه ويستطيع مواجهة ضغوط إيران وحزب الله.
•بالإضافة إلى ذلك، فوجئ السامعون بقول الوزير الروسي إن تأثير روسيا على الأسد محدود. ووفقاً لكلامه، لقد عمدت روسيا إلى مساعدة الرئيس السوري للدفاع عن النظام في مواجهة خطر تنظيم "داعش"، الذي كان يهدد بالامتداد إلى سائر أنحاء الشرق الأوسط والوصول إلى التجمعات السكانية الإسلامية في روسيا. بكلام آخر، شدد شويغو على أن هدف التدخل الروسي لم يكن فقط زيادة نفوذ روسيا وتعزيز مصالحها، بل إن الهدف كان بمثابة الدفاع عن النفس، وإبعاد خطر الإرهاب عن سورية وضرب الإرهابيين وإبعادهم عن حدودها.
•ثمة شك في أن يكون المحاورون الإسرائيليون صدقوا قول الوزير الروسي بأن تأثير بلاده على الأسد أقل مما يظنون، لكنهم بالتأكيد فهموا ما يظهر بين السطور: روسيا تسعى إلى قيام واقع جديد في العلاقة بين إسرائيل وسورية، خطوطه العريضة وقف الهجمات من الجو ضد أهداف سورية، في المقابل تحاول روسيا إرضاء إسرائيل من طريق تأثيرها على إيران وعلى التنظيمات الدائرة في فلكها وإبعادهم إلى مسافة 20 وربما 30 كيلومتراً من الحدود، أي أن شويغو قال للإسرائيليين: لا وجود لوجبات مجانية، إذا أعطيتم تأخذون.
•إن مغزى الزيارة هو أنه في اطار جهود روسيا لتعزيز نظام الأسد وسيطرته على سورية، تطالب روسيا بتقييد حرية التحرك الإسرائيلي بشأن كل ما له علاقة بنظام الأسد. لقد شدد نتنياهو وليبرمان في محادثاتهما مع شويغو على أن إسرائيل ستواصل العمل وفقاً لمصالحها الأمنية، لكن عندما تقف في مواجهتها قوة عظمى تحاول بلورة واقع جديد في الحدود، فإن هامش المناورة ليس كبيراً. حتى الآن نجحت إسرائيل برئاسة رئيس الحكومة في استغلال الحرب الأهلية السورية جيداً والدفع قدماً بمصالحها الأمنية، والسؤال المطروح هل ستستطيع الاستمرار في ذلك في المستقبل؟.