•شيئاً فشيئاً تتّضح الخطوط التي تميز الدبلوماسية الأميركية الجديدة، خاصة في الشرق الأوسط، سواء من ناحية الأسلوب أو من ناحية المضمون. ويبدو أن الرئيس دونالد ترامب يتبنى أسلوب الرئيس فرانكلين روزفلت الذي اعتاد الالتفاف على وزير خارجيته. وتدل المؤشرات الأولى على أن ترامب يرى في مستشاره وسفيره المتنقل الحالي جيراد كوشنير، رجل سرّه وموفده الأمين في مهمات سياسية حساسة. والدليل على ذلك زيارته إلى بغداد مطلع الأسبوع، وتدخله المستمر من أجل الدفع قدماً بالعملية السياسية في الساحة الفلسطينية. كما يظهر من مشاركة كوشنير المرتقبة في القمة الأميركية- الصينية (هذا الأسبوع في فلوريدا)، دوره كطرف مهدئ في شبكة العلاقات المشحونة بين ترامب والقيادة الصينية، مما يدل على تعاظم قوته. وبينما يتنقل كوشنير الشاب والحيوي بين القارات كممثل للرئيس، يواصل وزير الخارجية ريكس تيلرسون، اللحاق به بتثاقل في وقت يبدو فيه معزولاً ومنقطعاً عن مراكز القرار الأساسية.
•هذا بشأن الأسلوب. أما في ما يتعلق بالمضمون وخاصة على الصعيد الشرق أوسطي، فتتبدّى صورة سياسة مختلفة بصورة راديكالية عن السياسة التي انتهجها أوباما. وينطبق هذا بصورة خاصة على الجهود التي تبذلها إدارة ترامب من أجل إقامة محور سني معاد لإيران برئاسة كل من القاهرة والرياض. وفيما تخلت إدارة أوباما عن حلفائها التقليديين في الجبهة وتركتهم لمواجهة مصيرهم بأنفسهم وعملت في المقابل على التصالح مع طهران، يلمح البيت الأبيض اليوم بطريقة قاطعة إلى أنه مصرّ على فتح صفحة جديدة في علاقاته مع هذه الدول العظمى الإقليمية وعلى تحسين مستوى التعاون الاستراتيجي معها من أجل القضاء على الإرهاب.
•وبينما اتسمت علاقة أوباما بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بالبرودة الظاهرة (بالمقارنة مع الحرارة الشديدة التي أظهرها حيال الرئيس السابق محمد مرسي رجل الإخوان المسلمين ومن أشد المؤيدين لـ"حماس")، فإن هذه الأمور تختلف تماماً عن موقف ترامب. فقد تميزت الزيارة الرئاسية التي قام بها السيسي هذا الأسبوع إلى واشنطن بالحرارة الاستثنائية التي أظهرها الرئيس الأميركي، وذلك على أمل محو رواسب الماضي القريب، وبصورة خاصة إزالة ذكرى سياسة العقاب والجفاء التي مارسها أوباما حيال السيسي، من الوعي المصري.
•كما يظهر تحسن لا يقل أهمية في شبكة العلاقات الأميركية- السعودية، حيث ازداد في الفترة الأخيرة التعاون الاستراتيجي، وخاصة في ما يتعلق بالقتال في الجبهة السورية وفي جبهة الحرب ضد الميليشيات الحوثية التي تنشط في اليمن بدعم إيران ومساعدتها و(ضد قوات القاعدة في هذه الجبهة). ويأتي هذا بعد التراجع الكبير الذي وصلت إليه العلاقات بين البلدين على خلفية الجهود المستمرة التي بذلها أوباما من أجل مصالحة نظام آيات الله في طهران، أشد أعداء العائلة المالكة السعودية. في الموضوع السوري تخلى أوباما في صيف 2013 عن السكان المدنيين في سورية وتركهم يواجهون مصيرهم بأنفسهم، وبقي على الرغم من تصريحاته سلبياً للغاية حتى بعد أن تخطى الرئيس الأسد كل الخطوط الحمراء واستخدم بصورة مكثفة السلاح الكيميائي ضد المدنيين. وبالأمس أيضاً شنت قوات الرئيس السوري هجوماً كيمائياً واسعاً أوقع عدداً كبيراً من الضحايا المدنيين في شمال هذا البلد المقسم والمدمر. وعلى خلفية تزايد تدخل إدارة ترامب عسكرياً وتصعيد المواجهة مع "محور الشر" حتى في هذه المنطقة، فإنه يمكن افتراض أن رد البيت الأبيض على جريمة الحرب هذه سيكون مختلفاً.
•في الختام، على الصعيد الأميركي- الإسرائيلي نحن نشهد تعبيراً عن دعم وتضامن غير معهودين يذكران بالفترة الوردية في عهد الرئيس ليندون جونسون (حين أظهرت خطابات السفير الأميركي في الأمم المتحدة آرثر غولدبرغ، قوة وحصانة العلاقات الخاصة). وبينما ركزت إدارة أوباما منذ بداية عهدها على حل النزاع الذي اعتبرته مشكلة جوهرية ذات أهمية محلية وإقليمية حاسمة، تُظهر الإدارة الحالية توجهاً أكثر مرونة واهتماماً بهذا الكلّ المعقد من المشكلات. وحتى على هذا المستوى يحدث تبدل حقيقي في صياغة الدبلوماسية الأميركية وفي أسلوبها في عهد ترامب.