"قوة المراقبين متعددة الجنسيات" في شبه جزيرة سيناء: ثبات في الرؤية ومرونة في التطبيق
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

– مباط عال

•في 25 نيسان/أبريل 1982 بدأت "قوة المراقبين متعددة الجنسيات" [قوات حفظ السلام] (في ما يلي‏ MFO-Observers and Force Multinational‏) تمارس مراقبة تطبيق الترتيبات في شبه جزيرة ‏سيناء المتفق عليها في الملحق الأمني لاتفاقية السلام الموقعة بين إسرائيل ومصر ["كامب ديفيد"]. ‏وفي العقود التي تلت، وعلى وجه الخصوص على مدى الأعوام الخمسة الماضية، تبدلت بيئة نشاط تلك القوة ‏من النقيض إلى النقيض، وتغيرت تركيبة الدول المشاركة و[جنسية] الوحدات. بيد أن القوة متعددة الجنسيات لا ‏تزال تلعب دوراً حيوياً في تطبيق النظام الأمني المتفق عليه بين قادة مصر وإسرائيل والولايات المتحدة، ‏وتقوم بذلك بشكل فعّال. ويكمن سر نجاحها في التزامها الراسخ برؤية استراتيجية واضحة ‏وبالغاية المحددة من وجودها، وفي المرونة التي تبنتها في طريقة تطبيق ذلك. ‏والثبات والمرونة يرتكزان على التزام الأطراف بالقوة، الذين هم"أولياء أمرها"، وعلى دعمهم الثابت ‏لاستمرارها في مهمتها في ظروف مستجدة ومتغيرة.‏

•والغاية من الملحق الأمني في اتفاقية السلام ضمان وجود منطقة عازلة استراتيجية منزوعة السلاح بين ‏مصر وإسرائيل في شبه جزيرة سيناء كبديل عن وجود الجيش الإسرائيلي في المكان، وتاليا توفير عمق ‏‏[استراتيجي] ومنطقة إنذار مبكر لتقليص خطر اشتباك عسكري بين إسرائيل ومصر ومنع وقوع حرب ‏بينهما مجدداً. ولهذا الغرض جرى تقسيم منطقة شبه جزيرة سيناء إلى أربع قطاعات جغرافية (منطقة "أ" ‏في غرب سيناء، منطقة "ب" في وسطها، منطقة "ج" غربي الحدود المصرية - الإسرائيلية، ومنطقة "د" ‏شرقي هذه الحدود)، وجرى تحديد الوجود العسكري المسموح به داخل كل منطقة: كحد أقصى فرقة مشاة مؤللة ‏واحدة [مصرية] في المنطقة "أ"، كحد أقصى كتيبتا حرس حدود مصرية [مجهزة بأسلحة خفيفة] في ‏المنطقة"ب"، شرطة مدنية مصرية فقط في المنطقة "ج"، كحد أقصى قوة محدودة من أربع كتائب مشاة (تابعة للجيش ‏الإسرائيلي) في المنطقة "د". كما حظر النشاط الجوي الاستطلاعي وطلعات الطائرات المقاتلة فوق ‏المنطقتين "ب" و"ج".‏

•لمراقبة تنفيذ بنود هذا الملحق وللفصل بين الطرفين شُكّلت القوة المتعددة ‏الجنسيات والمراقبين كمشروع مشترك بين مصر وإسرائيل والولايات المتحدة. ‏وتقرر أن يكون مقر قيادتها وقاعدتها الشمالية في منطقة "الجورة"، وقاعدتها الجنوبية في "شرم الشيخ"، ‏ومقرها المدني في مدينة روما. وأنشأت هذه القوة نقاط مراقبة في المنطقة "ج" يتمركز فيها جنود من ‏المشاة. كما أنها تدير وحدة مراقبين مدنية (Civilian Observer Unit-COU) تقوم ‏بدوريات استطلاع في جميع أنحاء شبه جزيرة سيناء، فضلا عن وحدة للنقل والاستطلاع الجوي، ووحدة ‏بحرية للإشراف على منطقة مضائق تيران. وجميع هذه الوحدات معدة لكي تفصل بين الطرفين، ولمراقبة ‏النشاط العسكري في المنطقة العازلة والمنزوعة السلاح. ووفقاً لنتائج استطلاعاتها تقدم قيادة القوة تقارير ‏إلى الأطراف بشأن الخروق المكتشفة. وبغية مواجهة احتياجات أمنية محددة، وافق الطرفان من حين ‏لآخر على تعديلات موقتة في التطبيق، بواسطة آلية أنشطة متفق عليها (Agreed Activities)، ‏يتفق في إطارها على أن لا تسجل القوة متعددة الجنسيات الخروق المتعلقة بوجود و/أو نشاط ‏عسكري محظورين في الاتفاق [الملحق الأمني]، من دون أن يعني ذلك تغيير في التزامات الأطراف ببنود ‏الاتفاق أو المساس بها.

•استمر هذا الروتين العملاني حتى العام 2005، وفي ذلك العام وقّعت إسرائيل ومصر على ترتيبات متفق عليها ‏لمنطقة رفح تمهيدا لانسحاب إسرائيل من قطاع غزة. وفي إطار "اتفاق حرس الحدود ‏المصري" اتفق على استبدال كتيبة شرطة (تابعة للأمن المركزي) مصرية بكتيبة حرس حدود مصرية ‏‏(‏BGF-Forces Guard Border ‏)، كان من المحظور نشرها بموجب أحكام ملحق اتفاقية السلام، ‏وعلى السماح بتزويدها أسلحة، وعلى ترتيبات مراقبة جرت ملاءمتها لواقع الاتفاق الجديد. وفي تلك ‏الفترة طرحت جهات متعددة اقتراحات ترمي إلى توسيع مهام القوة متعددة الجنسيات بحيث تشمل منع التهريب ‏عبر الأنفاق المؤدية إلى قطاع غزة، والمساعدة في مكافحة الإرهاب ومواضيع إضافية، لكن أطراف اتفاقية ‏‏[السلام] وقيادة القوة متعددة الجنسيات نجحت في منع ذلك، وفي إبقاء مهمة القوة ‏الأصلية كما اتفق عليها.‏

•بدأت بيئة نشاط القوة متعددة الجنسيات تتبدل بشكل كبير ومتسارع في أعقاب سلسلة الأحداث التي ‏تلت سقوط نظام مبارك في كانون الثاني/يناير 2011، وصعود نظام الإخوان المسلمين عام 2012، ‏ولا سيما بعد الإطاحة بالرئيس مرسي وعودة المؤسسة العسكرية إلى الحكم في القاهرة في تموز/يوليو ‏‏2013. في تلك الأعوام تدهور الوضع الأمني في شبه جزيرة سيناء بسرعة مع تحول الهجمات الإرهابية ‏المتزايدة من جانب جماعات جهادية محلية وإقليمية تدريجياً إلى مواجهة واسعة بين جماعة "ولاية سيناء" ‏التابعة لتنظيم "داعش"، والجيش المصري وقوات الأمن المصرية. وأفضت هذه التطورات اعتباراً ‏من كانون الثاني/يناير 2011 إلى مطالبة متزايدة من جانب مصر بزيادة عدد القوات والوسائل ‏العسكرية التابعة لها في شبه جزيرة سيناء إلى أبعد مما هو مسموح به بموجب الاتفاقية من جهة، ‏كما أفضت إلى تصاعد مستوى التهديد من جانب الجماعات الجهادية ضد قواعد القوة متعددة الجنسيات ‏ووحداتها المنتشرة في المنطقة: بشكل غير مباشر في البداية من جراء تفاقم تهديد طرق النقل والإمداد ‏المؤدية إلى قواعدها ونقاط تمركزها، وبشكل تدريجي أيضاً ضدها مباشرة من جانب ما يسمى "ولاية ‏سيناء". ‏

•هذه المتغيرات في البيئة الأمنية شكلت بالنسبة للقوة متعددة الجنسيات وأطراف الاتفاقية تحدياً مركباً: ‏كيف يمكن أن تستمر في تنفيذ مهمتها تجاه تزايد المخاطر بسرعة والتغييرات الدراماتيكية الحاصلة في بيئة نشاطها؟ ‏وكيف يمكن الحفاظ على الثقة بين الأطراف في ظل بيئة ديناميكية كهذه وصورة وضع متغير بسرعة؟ ‏وكيف يمكن الحفاظ قدر الإمكان على أمن وسلامة القوة وعلى حياة العاملين فيها؟ وهكذا، بينما انهارت قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك ("أندوف") في مرتفعات الجولان بسرعة كبيرة بعد ‏تعرضها لتهديدات إرهابية خطيرة وخسارتها قدرتها العملانية، نجحت القوة متعددة الجنسيات، ومصر ‏وإسرائيل، بدعم فاعل من الولايات المتحدة، في التكيف مع الظروف المتغيرة وفي تطوير أساليب تنفيذ ‏المهمة في الظروف الجديدة. جرى: تحسين وسائل أمن القوة وحماية أفرادها، وإخلاء نقاط مراقبة ‏عرضة لمخاطر شديدة، وتوسيع وتنويع أساليب مراقبة الوضع على الأرض، وتكثيف قنوات الاتصال والتواصل ‏بين الأطراف، والحفاظ على صورة الوضع التي تزود القوة متعددة الجنسيات الأطراف بها و‏تحسينها بهدف منع التوتر والشكوك وانعدام الثقة.‏

•ارتكزت عمليات تكيف القوة متعددة الجنسيات هذه على المبادئ التالية: الحفاظ على اتفاقية ‏السلام، وكذلك على قيود الانتشار والنشاط العسكريين في المنطقة؛ الخروج عن قيود وأحكام الاتفاقية ‏عندما تقتضي ذلك احتياجات أمنية محددة على أن يتم ذلك بموافقة الأطراف، وبعد تنسيق مسبق بينهم بواسطة آلية "الأنشطة المتفق عليها" وبإشراف فاعل من القوة متعددة الجنسيات؛ موافقة ‏الأطراف على الخروج عن هذه القيود ليست تعبيراً عن تغيير دائم في الاتفاقية وفي التزامات الأطراف بها، ‏بل هو خروج موقت وقابل للعودة عنه.‏

•هذا التركيب الناجح أتاح للأطراف  تحسين الرد العملاني على التهديدات المتزايدة مع الحفاظ ‏على اتفاقية السلام وقيود وأحكام الملحق الأمني، وتعزيز الثقة بينهم، وتشديد التعاون في مواجهة ‏تهديدات مشتركة. وهكذا، في الوقت الذي شكلت قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في المنطقة ‏أحياناً أرضية لمناكفات دبلوماسية بين الأطراف من خلال آليات تقديم تقارير وخوض نقاشات في ‏مجلس الأمن، تركز كل من مصر وإسرائيل والولايات المتحدة حالياً على تنفيذ مهمات القوة متعددة الجنسيات ‏‏[في شبه جزيرة سيناء] من خلال مقاربة عملية لحل المشكلات بوسائل مشتركة. ووفقا لذلك تعتمد ‏القوة متعددة الجنسيات سياسة عامة تقليدية ومتعمدة تقوم على تجنب جذب اهتمام وسائل الإعلام، ‏وبذلك تسهل إدارة كتومة لشبكة العلاقات الاستراتيجية بين الأطراف المشاركة في اتفاقية السلام. ‏وهكذا، على سبيل المثال، بعد أن درجت القوة متعددة الجنسيات في الماضي على نشر تقاريرها السنوية ‏بشكل علني، توقفت عن القيام بذلك في العام 2015 بعد أن جرى استغلال هذه التقارير لغايات ‏سياسية في وسائل الإعلام.  ‏

•تغير نطاق نشاط وانتشار القوة متعددة الجنسيات مراراً وتكراراً على مر السنين منذ العام 1982. كان ‏عدد نقاط المراقبة النائية 44 نقطة عام 1982، وخفض إلى 32 نقطة عام 1989 ثم إلى 25 نقطة ‏مأهولة وثلاثة مواقع اتصال غير مأهولة في العام 2015. ونقاط المراقبة التي أغلقت جرى تقليصها ‏أساسا بناء على اعتبارات تتعلق بجدوى تشغيلها وبأهميتها لأداء المهمة، وفقط في الأعوام الأخيرة ‏بناء على اعتبارات أمنية. وكان عديد القوة يبلغ نحو 2700 فردا [بين قائد وجندي] في بداية ‏ثمانينيات القرن العشرين، وقلص تدريجيا إلى نحو 1700 فرد في العام 2015.‏

•ميزانية القوة متعددة الجنسيات ممولة بشكل أساسي من موازنات حكومات إسرائيل ومصر والولايات ‏المتحدة بالتساوي، ومن مساهمات مكملة لدول متعددة. والميزانية التي تجاوزت في الأعوام الأولى ‏‏100 مليون دولار في السنة، تقلصت إلى النصف خلال عقد من السنين بالتوازي مع تقليص حجم ‏القوة. واعتباراً من العام 2006، وعلى الرغم من سياسة "عدم زيادة الميزانية الأساسية"، ازدادت الميزانية ‏من جراء زيادة التضخم، وارتفعت في الأعوام الخمسة الأخيرة بشكل ملحوظ نتيجة ‏ارتفاع كلفة الأمن والدفاع، وجرى تغطية معظمها بسخاء من قبل الولايات المتحدة والمانحين.‏

•استكملت أخيراً القوة متعددة الجنسيات تغييرا عميقا وواسع النطاق في تموضعها العملاني شمل ‏إخلاء مواقع مراقبة كثيرة في قطاع شمال سيناء، ومقترحات لاستبدال مواقع مأهولة أخرى بوسائل ‏تكنولوجية، ونقل مركز الثقل لقيادة القوة ومعظم وحداتها من قاعدتها الشمالية في "الجورة" إلى قاعدتها ‏الجنوبية في شرم الشيخ. في ربيع العام 2016 أخلت القوة سبعة مواقع في شمال شبه جزيرة سيناء، وفي حزيران/يونيو تم إخلاء ثلاثة مواقع إضافية في وسط سيناء وجنوبها، ونُقل مقر قيادتها إلى ‏قاعدتها الجنوبية. وفي الخلفية، وليس للمرة الأولى، سُمعت أصوات في الولايات المتحدة ‏طالبت بإعادة النظر في مشاركتها في المهمة على ضوء الخطر المتنامي، غير أن الإدارة الأميركية ‏تواصل التعبير عن التزامها بنصيبها من مهمة وهندسة السلام بين إسرائيل ومصر، اللتين تقفان هما أيضا ‏موحدتين في دعمهما لمواصلة الدور الأميركي في إطار القوة متعددة الجنسيات.   ‏

 

•تشكل القوة متعددة الجنسيات [في شبه جزيرة سيناء] نموذجاً استثنائياً لقوة حفظ سلام ناجحة ‏تعمل في إطار نظام أمني متفق عليه ومبني على أسس سليمة بين إسرائيل وأكبر جاراتها بضمانة ‏استراتيجية من الولايات المتحدة. ومفاتيح نجاح القوة حتى الآن هي التالية: التزام متواصل من الدول ‏المشاركة فيها؛ ثبات وتمسك استراتيجي بمهمتها الأصلية والامتناع عن توسيعها لتشمل مهام إضافية؛ ‏وبشكل أساسي مرونة تكتيكية وإبداع مشترك من أجل ملاءمة أساليب تنفيذ المهمة ‏مع شروط البيئة المتغيرة، وبشكل أساسي للمخاطر المتنامية فيها. وسيبقى امتحان نجاح القوة في المستقبل ‏معتمدا على قدرة مصر وإسرائيل والتزامهما بتوفير بيئة نشاط آمنة، وبضمان سلامتها، وبالاستمرار ببذل أقصى الجهد للحفاظ على هذه الآلية الحيوية في معمار اتفاقية السلام بين الطرفين.