•الأنفاق في غزة، موجة الإرهاب في الضفة الغربية، هجمات تنظيم داعش والحرب الأهلية في سورية، تعاظم قوة حزب الله ومستقبل البرنامج النووي في إيران، استقرار الحكم في مصر والأردن - كل هذا هو جزء فقط من التحديات التي رافقت في السنوات الأخيرة الشرق الأوسط وإسرائيل، وأوضح ما تتسم به هو عدم اليقين [بما ستؤول إليه].
•المسؤولون عن محاولة إزالة هذا الغموض، أو على الأقل العثور على مؤشرات فيه، هم رجال الاستخبارات، فهم المطالبون بتقدير ما الذي سيحدث، ووضع البنية التحتية للرد العملياتي (والسياسي) لإسرائيل.
•عشية عيد الفصح أجرينا مقابلة حصرية مع أربعة رؤساء ساحات أساسية في دائرة الأبحاث في شعبة استخبارات الجيش: ع. رئيس الساحة الفلسطينية، وش. رئيس الساحة اللبنانية، ور. رئيس ساحة دول المنطقة والدول العظمى، وأ. رئيس الساحة الشمالية - الشرقية (سورية، العراق وإيران).
•في السابق كان هناك عدد أكبر من الساحات في نطاق الاستخبارات العسكرية، لكن التغيرات الإقليمية ومتغيرات إضافية مثل العالم السيبراني وقيود مالية، أدت إلى البنية الحالية، حيث يوجد فيها أربع ساحات (وساحة أُخرى تقنية) مسؤولة عملياً عن العالم بأسره. تفرض طبيعة الأمور والاحترافية عدم الكشف عن هوية الأشخاص، لكن التقديرات بشأن ما ينتظرنا تُعرض هنا للمرة الأولى، وتقدم لمحة نادرة عن التهديدات (والفرص) التي تحيط بنا.
غزة : ردع سهل الانفجار
•تعيش غزة تهدئة عميقة، وعندما ننظر إلى الفترة التي انقضت منذ وصول حركة "حماس" إلى السلطة، فإن هذا هدوء تاريخي. في المقابل، تُلحظ عملية بناء منظمة للقوة، ويشكل النفق الذي اكتشف في الفترة الأخيرة في جنوب القطاع جزءاً منها. وعلى الرغم من تقدير الاستخبارات العسكرية أنه نفق قديم حُفر قبل عملية "الجرف الصامد"، فإن الجهد مستمر.
•على المستوى الاستراتيجي تعاني "حماس" من ضائقة. فإذا كانت في السابق تحدثت مع الجميع وحصلت على مساعدة الجميع، فإنها اليوم معزولة. المصريون أصدروا حكماً عليها بالطلاق وهي أصبحت في نظرهم مشابهة لتنظيم داعش، ولدى السعودية ودول أُخرى منافسون آخرون لها - فالمال يذهب إلى اليمن وسورية وإلى تهديدات أشد اشتعالاً.
•تحصل الحركة على التمويل والسلاح بصورة خاصة من إيران التي تقدم المال مقابل حملة إذلال لأنها تطلب من "حماس" أن تقرر مع أي طرف تقف: معها، أو مع السنّة في سورية. بالاضافة إلى ذلك، فإن التحرك المصري يجعل من الصعب تهريب السلاح إلى القطاع (خاصة من ليبيا)، وهكذا تجد "حماس" نفسها معزولة أكثر من أي وقت مضى.
•وعلى الرغم من أن الشروط الأساسية في القطاع ما تزال مشابهة لتلك التي سادت قبل عملية "الجرف الصامد"، فإن "حماس" مرتدعة عن المواجهة. ولا ينبع هذا من العزلة الاستراتيجية فحسب، بل بصورة أساسية من أزمة السكان. ففي قطاع غزة يأتي التيار الكهربائي ثماني ساعات متقطعة في اليوم، والبطالة تتعدى 50% (خاصة بين الشباب)، وقدرة "حماس" على أخذ السكان مرة أخرى إلى مواجهة عسكرية واسعة محدودة.
•ولكن برغم العزلة، نجحت "حماس" في اقامة صناعة عسكرية مزدهرة. وإذا كان معظم السلاح في السابق يجري تهريبه من الخارج، فإنه يُصنّع اليوم في القطاع بالاعتماد على معرفة محلية ومواد بعضها بقي من السنوات التي كان يجري فيها تهريب كميات كبيرة من السلاح، وبعضها من انتاج محلي، ولو بنوعية أدنى بكثير.
•ما تزال العلاقات داخل"حماس" في مثلت الذراع العسكرية والذراع السياسية في القطاع وخالد مشعل في الخارج معقدة كما كانت. والمكون الجديد هو تزايد قوة يحيى السنوار، وهو من الآباء المؤسسين للحركة ومن الذين أُطلقوا في صفقة [تبادل الأسرى مقابل الجندي المخطوف] شاليط، وعلى الرغم من انتمائه رسمياً إلى المستوى السياسي، فإن السنوار يعتبر نفسه الند للند مع محمد ضيف.
•هناك ثلاثة سيناريوات يمكن أن يتطور فيها الوضع في غزة. الأول؛ أن تأخذ "حماس" المبادرة وتقرر أنه لم يعد ممكناً استمرار الوضع الحالي من العزلة والأزمة الاقتصادية، وأن السبيل الوحيد لتغيير الوضع هو من خلال إنجاز مثل عمليات خطف. إن مثل هذا السيناريو القائم على عملية مفاجئة يمكن أن ينفذه محمد ضيف والسنوار، لكن احتمالاته هي الأكثر انخفاضاً.
•السيناريو الثاني أيضاً ضئيل الاحتمال، وهو أن تشن "حماس" عملية عسكرية مسبقة أو وقائية. مثلاً لو شعرت أو اعتقدت أن إسرائيل حلت مشكلة الأنفاق وعرفت كيف تدمرها، فتقرر الحركة حينئذ استخدام هذه الأنفاق قبل خسارتها.
•السيناريو الثالث؛ وهو الأكثر إثارة للقلق من بين السيناريوات الثلاثة، وهو نشوء دينامية تصعيد مثل تلك التي شهدناها قبل عملية "الجرف الصامد".
•إن حقيقة أن "حماس" غير مهتمة بمواجهة - أو عملياً هي مهتمة باختيار موعد البدء بها - لا تعني أنها ليست مستعدة للمواجهة. فهي اليوم قادرة على تطبيق مبادئ قتالها: تنفيذ عملية توغل إلى داخل إسرائيل، إطلاق الصواريخ بصورة متواصلة، وإلحاق أضرار بمستوطنات غلاف غزة.
•من المعقول افتراض أنه في جولة القتال المقبلة ستكون "حماس" مهتمة بأن تبدأها بعملية توغل - إدخال عدد كبير من المقاتلين إلى أهداف عسكرية ومدنية - عبر عملية استهلالية ضخمة لن يستطيع القتال الذي سيأتي بعدها أن يمحو إنجازاتها. لهذا السبب تبني الحركة عدداً كبيراً من الأنفاق الهجومية والدفاعية: هذا هو جوهر عقيدتها القتالية. والنفق الذي اكتُشف هو جزء من هذا الجهد، وعلى الرغم من كونه نفقاً قديماً لم يُكتشف في عملية "الجرف الصامد"، فمن المحتمل أن "حماس" لم تستخدمه منذ ذلك الوقت بسبب عدم الاستعدادات العملياتية، أو لأن التحركات في الجانب الإسرائيلي جعلت من الصعب استخدامه.
يهودا والسامرة [الضفة الغربية] بين اليأس والوريث
•لا يمكن تجاهل الانخفاض في حجم الهجمات في الفترة الأخيرة. ولا يعني هذا نهاية موجة الارهاب بل انخفاضها. ويعود جزء من ذلك إلى أنشطة عملياتية، وتؤثر في جزء آخر أحداث أخرى. ومثلما نشب العنف من دون أن يكون هناك حادث أدى إليه وكان غير منظم، فهكذا تراجع لكنه يمكن أن ينفجر مرة أخرى. لذلك، فإن الأحداث تسمى "هبة" - هكذا يسميها الفلسطينيون أيضاً، وهي ليست مثل الانتفاضة الأولى لأنها ليست جماهيرية، وليست مثل الانتفاضة الثانية لأنها لا تحمل خصائص الإرهاب المنظم.
•إن العنصر الأساسي الذي يصعب فك رموزه هو الشباب. حتى الآن سمي هؤلاء جيل الإنترنت الذي نسي ماذا يعني أن تكون فلسطينياً، والآن عثر على صوته. إنه جيل يرفس الجميع: السلطة وإسرائيل وجيل الأهل، والمنظمات. لذا من المعقد جداً فهمه. حتى الآن هم عبارة عن أعداد ضئيلة: لقد ظلت أغلبية الجمهور في المنزل ولم تشارك في الأحداث. لذلك التقديرات لا تتعلق "بالجمهور"، وإنما "بأجزاء من الجمهور" خصوصاً الشباب.
•في نظرة أوسع، تبدو موجة الإرهاب الحالية جزءاً من عملية تصدع المنظومة التي كانت قائمة في يهودا والسامرة منذ سنة 2007: أبو مازن كرئيس متفرد وقوي، تنظيم "فتح" مضبوط ومشارك في السلطة، و"حماس" ضعيفة، وجمهور هادئ - هناك تصدعات في جميع هذه المداميك. وللمرة الأولى هناك اهتمام بمسألة الوراثة، من الواضح أن مرحلة الأبوات قد انتهت، وليس لأبو مازن وريث طبيعي، ومن المتوقع اندلاع حرب وراثة غير سهلة بين عدد غير قليل من الأطراف، ومن المحتمل أن نرى مجموعة من عدة أشخاص أقوياء في ائتلاف السلطة.
•في هذه الأثناء، فإن الذي يمكن أن يستفيد من الأحداث هو "حماس" التي، في مواجهة الضائقة في غزة، تجد في يهودا والسامرة فرصة استراتيجية. تأمل "حماس" أن تؤدي الأحداث إلى تصعيد وأن تجر إسرائيل إلى التحرك ضد الضفة، وفي إثر الضعف الذي ينشأ والفراغ تدخل هي وتسيطر. أيضاً "حماس" لاحظت تراجعاً في حجم الهجمات وهي تحث الجمهور على التحرك والقيام بهجمات. من هذه الزاوية، فإن فترة عيد الفصح الحالية حساسة بصورة خاصة، لأنه يختلط فيها دوافع دينية (جبل الهيكل [الحرم القدسي الشريف]) وأعداد كبيرة من الزوار الذين يشكلون دائماً هدفاً محتملاً سهلاً نسبياً للإرهاب.
•إن التخوف الأساسي هو من أن يدفع تدهور في الوضع العنصرين المسلحين الأساسيين - أجهزة الأمن والتنظيم [فتح] - إلى الوقوف ضد إسرائيل، الأمر الذي سيغيّر الوضع من أساسه. وما دامت المنظومة الفلسطينية مستقرة والأجور تُدفع، فإن فرص حدوث ذلك ضئيلة نسبياً، لكن زيادة الهجمات أو حرب الوراثة الداخلية يمكنهما أن تزعزعا التوازن الهش القائم. ومن هذه الناحية فإن مواصلة التنسيق مصلحة مشتركة إسرائيلية وفلسطينية.
•يغطي التنسيق الأمني إلى حد بعيد غياب العملية السياسية. يعارض أبو مازن العنف، ليس لأنه مسالم، بل لأنه يدرك أن هذا يخدم إسرائيل. لذلك فهو نشط في اتجاه استراتيجي مختلف: لدغ إسرائيل وتقويض أسسها في الساحة الدولية. ويعلم أبو مازن أنه لن يصل بهذه الطريقة إلى هدفه - دولة فلسطينية - لكنه يعتقد أن تزايد هذه التوجهات سيجعل النزاع مكلفاً جداً بالنسبة لإسرائيل، وستصبح حينها أكثر مرونة حيال الحل.
__________
حلقة أولى من ثلاث حلقات.