•منذ أربعة أشهر تضرب دولة إسرائيل موجة إرهاب ذات خصائص استثنائية تشير إلى بضع ظواهر مهمة تستدعي التفكير.
•أولاً؛ يتحمل مسؤولية معظم الهجمات، أفراد ليست لهم علاقة تنظيمية أو قيادة، وأدوات الإرهاب في أغلبية الحالات هي "السلاح الأبيض"، سكين وما شابه ذلك. وتشير هاتان الصفتان اللتان تتكرران مع استثناءات قليلة إلى السيطرة الاستخباراتية الجيدة للشاباك في يهودا والسامرة [الضفة الغربية]، التي تتيح إحباط عمليات منظمة وأكبر وتتطلب استخداماً للسلاح الناري.
•الظاهرة الثانية؛ هي انضباط أجهزة الأمن الفلسطينية التي تملك عشرات الآلاف من قطع السلاح، وبرغم ذلك لم تتسرب قطعة واحدة منها إلى أيدي القتلة. صحيح أن لدى أجهزة الأمن هذه الكثير لتخسره (بما في ذلك الجانب الشخصي) إذا تبين أنها تساعد الإرهاب مباشرة، لكن يتعيّن علينا أن نشير إلى أنها حتى الآن حافظت بشدة على كل قطعة سلاح لديها. وهذا يعني أن قادة الأجهزة يسيطرون سيطرة جيدة على عناصرهم، ولم تنشأ ظاهرة عصابات وسط الأجهزة. وهذان الإنجازان معاً يحافظان بنجاح على بقاء هذه الموجة ضمن حدود "السلاح الأبيض".
•الظاهرة الثالثة؛ وهي الأكثر أهمية، حقيقة أن هذا الإرهاب بقي إرهاب أفراد، والسكان الفلسطينيون في يهودا والسامرة [الضفة الغربية] في أغلبيتهم الساحقة لم يشاركوا في النضال. ويبرز هذا من خلال أمرين: الأول أنه لم تحدث تظاهرات حقيقية، وحتى التظاهرات التي حدثت في البداية تلاشت لأن الجمهور لم يشعر بأن عليه أن يطلق صرخة عامة، ولا هو يرغب في الاشتباك مع الجيش الإسرائيلي ومع القوى الأمنية الفلسطينية.
•أما الأمر الثاني وهو أيضاً مهم، فهو أنه تقع يومياً حادثتا طعن إلى ثلاث حوادث فقط، وهي [مناطقياً] محدودة جداً، والأبرز فيها من هذه الناحية مساهمة سكان القدس ومنطقة الخليل. وفي الإجمال، فإن السكان [الفلسطينيين] في أغلبيتهم الساحقة لا يشاركون في الإرهاب بحد ذاته. لقد قال لي صديق إنه نظراً إلى الحجم الحالي للهجمات، فإنه لم يعد صحيحاً الكلام عن "ذئاب منفردة"، فقد تحول هؤلاء منذ فترة من الزمن إلى "قطيع ذئاب وحيدة"، لكنه قطيع محدود جداً من حيث الحجم.
•ومن الصحيح القول أيضاً إن استمرار هذه الظاهرة وتحولها إلى موضة وسط الشباب الفلسطيني يعود"الفضل" فيه إلى الزعامة الفلسطينية التي لم تظهر تحفظها منها، ولأنها تحظى بالتقدير بل حتى بالتشجيع في وسائل التواصل الاجتماعي وحتى في الإعلام الرسمي للسلطة الفلسطينية، سواء مباشرة أو من خلال نشر كلام تحريضي عام.
•ومع ذلك، يمكن القول بمنتهى الحذر إنه يوجد حاجز واضح بين أغلبية من السكان تحافظ على الهدوء ووتيرة حياة طبيعية، ومنفذي الإرهاب الذين هم في أغلبيتهم من الشباب. والسؤال المهم الذي يُطرح هو: لماذا؟ لماذا لم تشعل هذه الموجة انتفاضة أو موجة أكبر بخسمة أضعاف أو أكثر؟ الجواب على السؤال مركب، لكن يمكن وصفه بطريقة واضحة جداً.
•يبدو أن أساس سلوك السكان الفلسطينيين الخاضعين "للاحتلال الإسرائيلي" تغير في السنوات الأخيرة. فالجمهور الفلسطيني يتطلع إلى ما يجري حوله في الشرق الأوسط ويرى بوضوح مستوى حياة إخوانه في دول عربية وحجم الحرية والأمن الشخصي في كل أنحاء المنطقة، ويقارن بين الفوضى السائدة هناك والاستقرار والأمن اللذين يعيش في ظلهما.
•يجب ألا يحيّرنا ذلك، فأغلبية الفلسطينيين تكره المحتل والاحتلال، لكنها في الوقت عينه تستطيع تقدير ما يُقدمه لهم بالمقارنة مع إخوانهم في جميع الدول العربية. إن هذه المقارنة مع المحيط المجاور تصعب من تحول موجة إرهاب الأفراد إلى موجة إرهاب وتظاهرات تشارك فيها أجزاء كبيرة من السكان، فهم لا يريدون أن يعيشوا نتائج "الربيع العربي" داخل بلدهم.
•على هذه الخلفية، كانت مهمة جداً السياسة التي انتهجتها الحكومة في مواجهة موجة الإرهاب. فلو أن الجيش بادر في بداية الطريق إلى الرد بقوة من دون تمييز ووفقاً للاقتراحات الحماسية المختلفة، لكنّا اليوم في وضع أسوأ بكثير. وعلى سبيل المثال، لو أنه بالإضافة إلى المخربين الذين جرى تحييدهم بسرعة وبشدة، لكان لدينا الآن 250 قتيلاً آخرين في يهودا والسامرة [الضفة الغربية] نتيجة إطلاق النار على المتظاهرين في بداية الأحداث أو خلال عمليات التمشيط والإغلاق داخل المناطق المبنية والكثيفة سكانياً في مخيمات اللاجئين والخليل، ولكانت موجة الرد الفلسطيني اليوم أكبر بكثير، ولكان الكثيرون انضموا إلى الإرهاب.
•إن سياسة تركيز الرد على مرتكبي الارهاب مع المحافظة على إمكانات العمل والتنقل من دون تغيير تقريباً، بما في ذلك العمل في إسرائيل، ساهمت كثيراً في التهدئة. لقد أثبتت أغلبية الجمهور أنها تريد الاستقرار والمحافظة على مصدر رزقها، ونجحت إسرائيل في إقامة حاجز بين معاقبة المذنبين وبين مواصلة الأعمال العادية لسائر السكان، فلا يوجد إغلاق، والعمل مستمر، ولا عقوبات جماعية ولا حواجز جديدة.
•لكن ثمة مكون مهم آخر، فقد حيّدت المؤسسة الأمنية قدرة منظمة جباية الثمن على إلحاق الأذى. وأدت التوقيفات الادارية وإبعاد نشطاء المنظمة إلى تخفيف أذى عملياتها، ولم تنجح سوى في القيام بعملية واحدة إلى جانب بعض الحوادث الصغيرة التي لم تصل إلى عناوين الصحف. ويجب أن نضيف إلى ذلك فك رموز الجريمة البشعة في دوما، هذا العمل الإرهابي بكل معنى الكلمة.
•إن الضربة القاسية التي وجهت إلى قدرات الارهاب اليهودي والرد المركز على حوادث الطعن، ساهما في اعتقادي في عدم شعور الجمهور الفلسطيني بضرورة الانضمام إلى أعمال القتل. ربما يقدر هذا الجمهور القتلة، لكنه ليس مستعداً للانضمام إليهم فعلاً (الإرهاب يستطيع أن يستمر شرط أن يحظى المهاجمون بدعم المحيط من حولهم).
•الظاهرة الأخيرة الجديرة بالإشارة إليها هي المساهمة الضئيلة للعرب في إسرائيل في موجة الإرهاب. حتى الآن قام ثلاثة مواطنين عرب في إسرائيل بعمليات إرهابية. فخلال أكثر من أربعة أشهر ومن مجموع نحو مليون ونصف المليون عربي، كان هناك فقط اثنان استخدما سكيناً وواحد استخدم سلاحاً نارياً. وهذا يعتبر نقطة في بحر.
•يتعين علينا تحريك الوضع بحيث يتمتع العرب في إسرائيل أكثر بما تقدمه دولة القانون والنظام، والديموقراطية الحقيقية والمتطورة في دولة كإسرائيل، إلى مواطنيها. إن امتناع [العرب في إسرائيل] عن الإرهاب هو مؤشر آخر على اندماجهم في المجتمع الإسرائيلي، ويجب الثناء على هذه العملية وتسريعها. لكن كل ما قيل سابقاً لا يضمن ماذا سيحل بالإرهاب غداً، ويجب العمل بحزم وحكمة للتأكد من أن هذا الإرهاب لن يزيد، وأن انفجاراً لن يحدث.