•لدولة إسرائيل حساب دموي طويل وعسير مع سمير القنطار لكونه قتل وجرح وبالأساس خطط وبادر إلى تنفيذ عمليات "إرهابية" ضد الإسرائيليين منذ سنة 1979، وذلك منذ كان في السادسة عشرة من عمره حين قتل ثلاثة من أبناء عائلة يهودية وشرطيين إسرائيليين على ساحل مدينة نهاريا [شمال إسرائيل]. لكن ما يميز القنطار عن بقية "الإرهابيين" الذين عملوا ويعملون ضد إسرائيل كونه من أبناء الطائفة الدرزية في لبنان، بالإضافة إلى عدم تراجع مستوى كراهيته ورغباته القاتلة حتى بعد أن أمضى 30 عاماً في السجون الإسرائيلية.
•ونتيجة لهذه الدوافع والرغبات وضع القنطار نفسه في فترات مختلفة في خدمة العديد من المنظمات، فقد نفذ عملية القتل المذكورة في نهاريا كعضو في جبهة التحرير الفلسطينية، لكن آخر العمليات التي خطط وبادر إلى تنفيذها في الصيف الفائت كانت مع حزب الله الشيعي اللبناني. وجاءت هذه العمليات ضمن سياق منظومة "الإرهاب" التي تحاول إيران إقامتها في هضبة الجولان السورية بهدف فتح جبهة قتال أخرى ضد إسرائيل.
•ومعروف أنه لا توجد في أوساط الطائفة الدرزية في لبنان وسورية، ربما بتأثير من إخوانهم الذين يعيشون في إسرائيل، فئة شديدة العداء لإسرائيل كما هي الحال في أوساط الشيعة والسنة، ولذا يعتبر القنطار ظاهرة غير مألوفة.
•ومع أن المصادر الإسرائيلية الرسمية لم تنف أو تؤكد التقارير الإعلامية العربية التي تحدثت عن قيام طائرات إسرائيلية الليلة قبل الماضية بإطلاق صواريخ جو- أرض موجهة ودقيقة على مبنى في بلدة جرمانة في ريف دمشق الجنوبي كان فيه سمير القنطار وعدد من النشطاء الذين يعملون في منظومة "الإرهاب" التابعة لإيران وحزب الله ومليشيا سورية موالية لنظام الرئيس بشار الأسد، إلا أنه بعد نشر هذه التقارير في وسائل الإعلام السورية الرسمية وقناة المنار التابعة لحزب الله، يمكن القول إنها تعكس بشكل أو بآخر ما جرى في الميدان فعلاً.
•وعلى ما يبدو استخدم هذا المبنى المُكوّن من 6 طبقات، والذي انهار فوق ساكنيه، مكان اختفاء وقاعدة مشتركة جمعت كبار قادة المجموعتين، وفي ضوء هذه الحقيقة يتوجب الثناء على من جمع هذه المعلومات الاستخبارية الموثوق بها وأوصلها في الوقت المطلوب مما سمح بتنفيذ هذا الهجوم الدقيق.
•وإذا ما صدقت التقارير التي تقول إن الجيش الإسرائيلي هو الذي يقف وراء هذا الهجوم، فإن الأمر يعبر برأيي عن إنجاز استخباري وعملاني لهذا الجيش وأذرعه المختلفة، كما أنه يعبر عن إنجاز للسياسة الأمنية الهادئة التي تنفذها إسرائيل على جانبي خط وقف إطلاق النار في الجولان بهدف إنشاء منطقة أمنية تشكل مانعاً "يعرقل ويشوش" نشاط "الإرهابيين" وعمليات إطلاق الصواريخ باتجاه مستوطنات الجولان انطلاقاً من أراضي الجولان السوري.
•هناك أساس منطقي لافتراض أن القنطار ورفاقه لم يُقتلوا بسبب الأعمال التي قاموا بها في الماضي، بل بسبب قدرتهم على إلحاق الضرر في المستقبل. وحتى نفهم القضية من المهم أن نذكر بالاستناد إلى مصادر أجنبية أن خبراء الحرس الثوري الإيراني وقادة حزب الله يبحثون منذ سنة 2013 عن طريقة عمل تردع إسرائيل وتمنعها من استهداف قوافل السلاح التي تشق طريقها من سورية نحو قواعد حزب الله في لبنان، ويسعى هؤلاء إلى التوصل لطريقة عمل تلحق أكبر ضرر وتوقع أكبر خسائر ممكنة بإسرائيل، بما يجعل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تفكر مرتين قبل أن تقرر مهاجمة قافلة سلاح تابعة لحزب الله، وفي الوقت عينه لا تؤدي إلى تصعيد خطر على الجبهتين السورية واللبنانية. ولا شك في أن السبب في الرغبة بتفادي التصعيد يكمن في مصلحة إيران وحزب الله عدم إعطاء إسرائيل في هذه المرحلة أي ذريعة لتنفيذ عملية عسكرية قد تؤدي إلى تدمير وانهيار النظام السوري، أو على الأقل سقوطه على يد المتمردين السنة وفي مقدمهم "داعش" و"جبهة النصرة".
•وفي هذا السياق تقرر سنة 2013 فتح جبهة "إرهاب" جديدة ضد إسرائيل انطلاقاً من الجولان، وعمل في هذه الجبهة كل من حزب الله وسورية وإيران، وأرسل سمير القنطار الذي أطلق سراحه ضمن صفقة تبادل الأسرى سنة 2008، من لبنان إلى سورية ليقود ويقف على رأس تنظيم مقاومة يشكل حزب الله المحرك الأساسي له.
•وتحاول إسرائيل منذ عدة أعوام أن توجدفي الجولان منطقة صديقة لها نسبياً، ويمكن القول إن القنطار ورفاقه ألحقوا ضرراً استراتيجياً بهذا المشروع الإسرائيلي، نظراً إلى حقيقة أنهم تسببوا بشرخ أو على الأقل بضعضعة علاقات إسرائيل مع الطائفة الدرزية في إسرائيل وفي سورية ولبنان أيضاً. وقد اهتم السيد حسن نصر الله بإبداء الكثير من الاحترام للقنطار بهدف إذلال إسرائيل التي أجبرها على إطلاق سراحه. واختار حزب الله القنطار ليقود مجموعة المقاومة في الجولان لأنه درزي وله علاقات مع الدروز الذين يشكلون غالبية سكان محافظة السويداء القريبة من الجولان السوري وقرية الخضر الواقعة تماماً في منطقة الحدود مع إسرائيل ومنحدرات جبل الشيخ الجنوبية.
•خلال السنوات القليلة الفائتة خطط القنطار لخمس عمليات نفذت بالقرب من "الجدار الأمني" الذي يفصل الجولان الإسرائيلي عن الجولان السوري، فضلاً عن عمليات إطلاق صواريخ نفذها دروز بتوجيه منه. وجاءت غالبية هذه العمليات على شكل انتقام فوري بعد وقوع غارات إسرائيلية على قوافل للسلاح أو بعد عمليات اغتيال نشطاء "إرهابيين" نسبت إعلامياً إلى إسرائيل. وأصيب في عمليات القنطار جنديان إسرائيليان من قوات المظليين، وقتل مواطن عربي من سكان بلدة عرابة [الجليل] كان يرافق والده الذي يعمل في صيانة "الجدار الأمني" لحساب وزارة الدفاع، لكن بشكل عام كان القنطار قصة فشل بالنسبة للجهات التي تقف وراءه حيث نجحت إسرائيل في إحباط معظم العمليات التي خطط لها. وفي إثر ذلك عُـيّن مكانه قائد آخر تولى قيادة منظومة "الإرهاب" الإيرانية، هو جهاد مغنية ابن القيادي في حزب الله عماد مغنية. وقد قتل هذا الابن في غارة جوية إسرائيلية استهدفته وبعض القيادات السورية والإيرانية والتابعة للحزب أثناء جولة لهم على طول خطوط وقف إطلاق النار في الجولان قبل القيام بتشغيل منظومة "الإرهاب".
•بعد اغتيال مغنية الابن وعملية الانتقام التي نفذها حزب الله وقتل فيها جنديان إسرائيليان من لواء "غفعاتي" في منطقة مزارع شبعا، مُنح القنطار فرصة أخرى لإثبات نفسه عبر إقامة منظومة "إرهاب" تضم في معظمها دروزاً يدعمون النظام السوري. وهنا نجح القنطار في دقّ إسفين بين إسرائيل والدروز على طرفي الحدود في الجولان حين ادعى أن إسرائيل تسلح "جبهة النصرة" التي تخطط لذبح الدروز في السويداء وقرية الخضر. وأدّت هذه الاتهامات إلى وقوع مواجهات مع أفراد من الطائفة الدرزية حاولوا منع إسعاف الجرحى السوريين في المستشفيات الإسرائيلية وقتلوا أحد هؤلاء الجرحى أثناء نقله في سيارة إسعاف عسكرية. وبات من الواضح أن القنطار استخلص العبر والدروس وأصبح أكثر خبرة ونجاعة بعد التدريب والتعليم المتواصلين اللذين تلقاهما على أيدي "مشغليه" الإيرانيين، وبسبب التعاون مع المليشيا الدرزية المؤيدة للنظام السوري التي نفذ أفرادها بعض العمليات مع مجموعة القنطار. وفي الصيف الفائت تباهى القنطار أثناء مقابلة مع محطة تلفزيون لبنانية بالعمليات التي نفذها، وقال إنه يعرف تماماً إنه على قائمة الاغتيال الإسرائيلية لكنه لا يخشى ذلك.
•الآن لم يبقَ سوى الانتظار لمعرفة كيف سيردّ أوصياء القنطار على عملية الاغتيال المنسوبة إلى إسرائيل. والافتراض هو أن حزب الله وإيران سيكتفيان برد رمزي مثل إطلاق صواريخ باتجاه إسرائيل من دون أن تتسبب بأضرار كبيرة، وربما يقرر حزب الله عدم الرد مطلقاً حتى لا يتسبب بتصعيد خطر مع إسرائيل يلحق الأذى بجهوده المتواصلة لحماية النظام السوري ومؤيديه.
•علينا أن نتذكّر أيضاً أن الروس موجودون بالقرب منا، وأن الرئيس بوتين يصرح صباح مساء بأنه ضد كل عملية "إرهابية"، لكن في ما يتعلق بالقنطار تملك إسرائيل "حجّة" قوية نظراً إلى كونه تباهى بأفعاله علناً. وفضلاً عن ذلك، فهناك مصلحة روسية بعدم تصعيد الأوضاع في سورية حالياً في ضوء انطلاق الجهود السياسية لوقف الحرب الأهلية الدائرة في هذا البلد. وبناء على ذلك من المنطقي افتراض أن الروس لن ينظروا بعين الرضى إلى عملية انتقام ينفذها حزب الله ويسقط خلالها كثير من الضحايا. لكن في الشرق الأوسط لا يمكن توقع الأحداث مسبقاً، وكل ما هو غير متوقع وغير منطقي قد يصبح في لحظة ما منطقياً ومتوقعاً.