معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛ وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.
•ليست إسرائيل جزءاً من الاضطراب في الشرق الأوسط، وهي تقريباً لا تتدخل فيه بصورة فاعلة. وفضلت السياسة الإسرائيلية حتى الآن، طوعاً أو مجبرة بحكم الواقع، الوقوف على الحياد ومراقبة ما يحدث من الخارج. ومن دون علاقة بالسؤال الجوهري بشأن مدى حكمة هذه السياسة، فإن تكاثر الأحداث يفرض على إسرائيل أن تستوعب وتفهم بعمق الفرص والمخاطر التي تواجهها نتيجة ما يحصل حولها. في الأسبوع الماضي شهدت هذه المنطقة التي يتكرر فيها بين حين وآخر، تبنّي أنماط عمل جديدة جرّاء التغير المتكرر في التوازنات الدقيقة بين اللاعبين الكثر، كُتب فصل جديد في المسلسل المعقد مع الاشتباك العسكري الأول بين تركيا وروسيا. فقد أظهر إسقاط الطائرة الروسية على يد الأتراك الاختلافات والحقائق بين الدولتين سواء على المستوى الثنائي أو على المستوى الدولي.
•أولاً وقبل كل شيء، فإن ما جرى هو مواجهة بين دولتين عرفت العلاقات بينهما عداوة تاريخية لا علاقة لها بالواقع الحالي المعاصر. فقد مرّ الروس والأتراك في الماضي بمواجهات حربية واسعة النطاق بينهما على خلفية صراعات على السيطرة والنفوذ في مناطق أساسية، خصوصاً في البلقان والبحر الأسود، وترى أنقرة في موسكو تهديداً دائماً لمصالحها، كما تثير سياسة الزعيمين الحاليين لهاتين الدولتين رواسب الماضي بينهما. إن رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين نموذجان لزعيمين عدائيين طموحين، يعكس كل منهما رغباته في تحويل بلده إلى قوة عظمى كما كان الأمر في الماضي- وليس مصادفة تسمية أحدهما "السلطان" والثاني "القيصر"، في إشارة إلى الصورة التي يحاول كل منهما تسويقها.
•ثانياً؛ تداخلت في العلاقات المشحونة بين تركيا وروسيا اعتبارات استراتيجية ومصالح سياسية لها علاقة بالواقع الآخذ في التشكل في الشرق الأوسط وفي أوروبا. فالدولتان لا تتفقان في نظرتيهما إلى الأزمة السورية والحل المطلوب لها. وفيما وضعت تركيا رحيل الأسد هدفاً أساسياً، تعتبر موسكو بقاءه شرطاً ضرورياً لتحقيق الاستقرار في دولة منهارة وللمحافظة على مصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط. صحيح أن الدولتين تعارضان رسمياً تنظيم "داعش" وترغبان في إضعافه، لكنهما تستغلانه من أجل إضفاء شرعية على تحركهما في سورية بالنسبة للجهد الأهم إليهما: تركيا- ضد الأكراد، وروسيا- ضد المعارضة التي لا تنتمي إلى "داعش" (والمدعومة في جزئها الأكبر من تركيا). الأزمة في أوكرانيا ووقوف الغرب ضد بوتين، وعضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي، والمصالح المتناقضة لروسيا وتركيا في سورية، والمعارضة التركية الشديدة للتدخل العسكري الروسي في سورية- كل ذلك وضع الدولتين على مسار تصادمي.
•مما لا شك فيه أن المواجهة بين تركيا وروسيا تزيد من عدم الاستقرار في المنطقة لأنها تقلص إمكانية إنهاء الأزمة المستمرة في سورية، وكذلك تقلل من إمكانية النجاح في مواجهة "داعش". في ضوء ذلك، هناك مجموعة من سيناريوات محتملة للمواجهة التركية- الروسية بدءاً من احتواء المواجهة والعودة إلى العلاقات الطبيعية بين الدولتين، مروراً بمواجهة دبلوماسية واقتصادية (شبيهة بالأزمة التركية- الإسرائيلية)، وانتهاء بتصعيد عسكري (إطلاق صواريخ S-400 أو اعتراض طائرة تركية، أو هجوم سيبراني، أو عملية عسكرية واسعة). من الصعب توقع ما هو السيناريو الأكثر احتمالاً، لكن يبرز إدراك في تركيا أن إسقاط الطائرة الروسية كان خطوة ذهبت بعيداً، وقد أعرب أردوغان عن استعداده لاعتذار (متحفظ)، ومن المحتمل أنه من الآن وصاعداً سيكون الطرفان أكثر حذراً. وبرغم ذلك، وبغض النظر عن أي من السيناريوات، فإن في استطاعة إسرائيل استخلاص عدة دروس ونتائج.
الدرس التكتيكي
•أولاً وقبل كل شيء، يدل إسقاط الطائرة الروسية على أن هامش تفادي ارتكاب خطأ [دون نتائج مؤسفة] ضئيل جداً: لقد كان في إمكان الأتراك ضبط النفس وعدم إسقاطها. وبالاستناد إلى الصور التي التقطها الرادار يبدو واضحاً أن الطائرة تسللت إلى أجواء تركيا، لكن التسلل كان ضيئلاً (نحو 10 ثوان من الطيران)، وليس هناك أدنى شك بأن هذا التسلل لم يكن يحمل أي نية عدائية حيال تركيا. لم يجر إسقاط الطائرة من طريق الخطأ، لكن ليس واضحاً من الذي له صلاحية الموافقة النهائية على إطلاق النار عليها. ويجب التأكد من أن تكون مثل هذه الصلاحية في إسرائيل بيد المستوى العسكري - السياسي الأعلى.
•يشير تسلسل الأحداث منذ لحظة قرار إسقاط الطائرة إلى ضرورة ضمان أن تكون هناك سيطرة قصوى فيما يتعلق باتخاذ القرارات حيال احتمال تصعيد في مواجهات قد تكون إسرائيل متورطة فيها مستقبلاً. صحيح أن آليات مراقبة التصعيد [في إسرائيل] ناجعة بما فيه الكفاية، ولا يؤدي كل حادث عسكري إلى مواجهة شاملة، لكن يتعيّن على إسرائيل أن تطور تفكيراً استراتيجياً بشأن آليات لمنع التصعيد وإنهاء المعارك- حتى بعد عملية بمبادرة من إسرائيل أو عملية رد فعل من الضروري القيام بها.
•على صعيد التنسيق مع روسيا، وبعد تدخلها العسكري في سورية، يجب المحافظة على التفاهمات التي تحققت بينها وبين إسرائيل في تشرين الأول/ أكتوبر 2015، وتفحص ما إذا كان يتوجب تحسينها الآن بعد الحادثة على حدود تركيا. بالإضافة إلى ذلك، فإن نصب منظومة صواريخ S-400 المتطورة يغير قواعد اللعبة داخل الحيز الإقليمي حتى بالنسبة لإسرائيل، ويفرض بلورة آلية صارمة للحؤول دون اشتباك إسرائيلي - روسي.
•وحتى في مواجهة تركيا التي لا يوجد الآن نقاط احتكاك مهمة معها- يجب استخلاص الدروس الصحيحة. لقد برهنت تركيا أن إصبعها على الزناد وأنها تلتزم بتهديداتها: قبل عامين حذرت تركيا أنها ستهاجم كل طائرة تخرق سيادتها. وفي نظرة إلى المستقبل على خلفية الاشتباكات السابقة (مثل الأسطول إلى غزة سنة 2010)، من المهم أن تتذكر إسرائيل هذه القضية لدى مواجهة مستقبلية مع أسطول أو طائرة تركية تقترب من حدود إسرائيل.
الدرس الاستراتيجي
•تُطرح هنا مسألة الخيار الإسرائيلي: هل يجب أن نأخذ موقفاً من النزاع الحالي بين تركيا وروسيا؟ ومع أي دولة نقف؟ إن إسرائيل باستثناء الهجمات المنسوبة إليها ضد وسائل قتال نوعية كانت تنقل من سورية إلى حزب الله، لا تشكل لاعباً مركزياً في المواجهة الداخلية في سورية وبين الأطراف الخارجية المتورطة في هذه المواجهة. وهي أيضاً ليست طرفاً في المواجهة التركية- الروسية. لكن تفحص المصالح الاستراتيجية الإسرائيلية حيال هذه المواجهة يكشف عن وضع معقد.
•فمن جهة، وعلى مستوى العلاقات الثنائية، ثمة مصلحة واضحة لإسرائيل في دعم موسكو، إذ توجد علاقات جيدة وراسخة ومستقرة بين الدولتين، ونجحت هذه العلاقات حتى الآن في تجاوز مغامرة الوجود العسكري الروسي في سورية. في المقابل، فإن العلاقات بين إسرائيل وتركيا بزعامة أردوغان سيئة منذ سنة 2009، وهي تمتاز بالعداوة المستمرة التي يبدو أنه من الصعب الانتهاء منها طالما أردوغان هو المسيطر على اتخاذ القرارات في تركيا. إن الوقوف إلى جانب روسيا يمكن أن يحمل معه ثماراً اقتصادية : لقد فرضت روسيا عقوبات اقتصادية على تركيا، وتستطيع إسرائيل أن تكون بديلاً جزئياً لتركيا بالنسبة لروسيا على صعيد الزراعة والسياحة وغيرهما.
•لكن من ناحية أخرى، فإن الوقوف إلى جانب تركيا التي تعمل ضد المحور الراديكالي في سورية، يتناسب بصورة أفضل مع المنطق الاستراتيجي والمصالح الإسرائيلية الجوهرية. إن العمليات الروسية في سوريا تحت غطاء محاربة "داعش" تمنح عملياً شرعية دولية لأعداء هم الأكثر خطراً على إسرائيل- إيران وحزب الله ونظام الأسد. ضمن هذا السياق ثمة مصلحة مشتركة بين تركيا وإسرائيل تشمل رحيل الأسد وإضعاف السيطرة الإيرانية في سورية وما ينتج عن ذلك من مس بحزب الله. وإذا ما ألمحت تركيا أنها مستعدة للعمل المشترك مع إسرائيل في مواجهة هذه التحديات والتهديدات، ولخفض عداوتها لإسرائيل، فيمكن حينها طرح مسائل أخرى يمكن أن تثمر أرباحاً متبادلة: فتح السوق التركي أمام الغاز الإسرائيلي (وسوف تزداد الحاجة إلى ذلك مع تقليص تزود تركيا بالغاز الروسي)؛ وتحسين مشاركة إسرائيل في عمليات حلف شمال الأطلسي (التي تواجه عقبات جرّاء المعارضة التركية لها)؛ عودة تركيا إلى وظيفة اللاعب الايجابي والمركزي في عملية سياسية بين إسرائيل والفلسطينيين والعالم العربي.
•وربما تدل المصالح المتناقضة لإسرائيل حيال المواجهة التركية - الروسية على الهدف الأكثر أهمية في الوقت الحالي- حتى بالنسبة للولايات المتحدة وأوروبا- ألا وهو الحاجة إلى بلورة استراتيجيا تؤدي في آن معاً أو على مراحل، إلى ضعف وطرد القوتين السلبيتين اللتين تنشطان في سورية: نظام الأسد وتنظيم داعش.
•إن المطلوب هو عمل مشترك من اجل حل الأزمة في سورية من خلال تضافر المساعي العسكرية والدبلوماسية والسياسية. والابتكار الإسرائيلي في هذا السياق يجب أن يكون من خلال الإشارة إلى عدم القدرة على توحيد سورية من جديد، وإلى الحاجة لتحقيق استقرارها بواسطة إعادة ترسيم حدودها ضمن إطار فيدرالي.
•في أي حل يجري التوصل إليه، فإن الدرس من المواجهة التركية - الروسية يتجاوز كل المتورطين في سورية، ويكمن في أنه في النسيج المعقد الناشيء في الشرق الأوسط لا يمكن السماح للعداوة بين طرفين بـ"تبييض" طرف ثالث. وهذا يعني أن الرغبة في إضعاف داعش يجب ألا تعني تأهيل نظام الأسد بدعم إيراني. وفي موازاة ذلك، فإن معارضة التدخل الروسي - الإيراني في سورية هي أيضاً يجب ألا تسمح بتعزيز تنظيم داعش وجبهة النصرة كبديل عن الأسد.
•إن التحدي هو في العثور على الاستراتيجية الصحيحة والشاملة والحازمة والمدعومة بالموارد والقوات البرية لمحاربة الأسد والقوى السلفية الجهادية في آن معاً في سورية، وذلك من أجل بلورة واقع مستقر في هذه الساحة.