تأسس في سنة 1959 بالتعاون مع جامعة تل أبيب. وهو مركز متعدد المجالات، ينشر دراسات تتعلق بالنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، كما يُعنى بالموضوعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الدول العربية والدول الأفريقية. ولدى المركز أهم مكتبة للمصادر العربية من كتب ومجلات وصحف. وتصدر عن المركز سلسلة كتب مهمة في مختلف المجالات، ولديه برامج تدريب ومنح أكاديمية.
•إلى جانب سيطرة رؤيا الدولتين على التفكير السياسي الفلسطيني في العقود الأخيرة، بقي موجوداً دائماً خطاب فلسطيني يرفض تقسيم البلد. واستند هذا الخطاب الذي هو في الأساس نخبوي، إلى وجهتي نظر أساسيتين: الأولى برزت لدى أجزاء من المعسكر القومي، بينهم ناشطون في التيار الأساسي في منظمة التحرير الفلسطينية، ولم يتخلوا قط عن فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة بوصفها بديلاً ممكناً يمكن بواسطته تحقيق المساواة في الحقوق لجميع الأديان. أما وجهة النظر الثانية فقد برزت لدى الإسلاميين ومن بينهم "حماس" والجهاد الإسلامي وتيارات سلفية، رأت وما تزال ترى، أن تقسيم البلد تنازل غير مسموح به على الإطلاق عن أرض إسلامية. وهذه الرؤيا الإسلامية منتشرة على نطاق واسع بدءاً من الطرف المتشدد الذي يطالب بطرد اليهود، وصولاً إلى الطرف الذي يؤيد دولة يسمح لليهود والنصاري بالعيش فيها بوصفهم أهل ذمة.
•في السنوات الأخيرة برز من جديد الجدل بشأن قضية الدولة الواحدة، وهو يشغل بصورة خاصة سكان الضفة الغربية لأن قضية الدولة الواحدة أكثر أهمية بالنسبة للضفة من قطاع غزة بسبب المطالب الإسرائيلية المتعلقة بالضفة (مثل مسألتي المستوطنات والقدس). ويشارك في النقاش المتجدد شخصيات تنتمي إلى أوساط قومية كانت تتماهى سابقاً مع فكرة الدولتين، ومن بين تلك الشخصيات رئيس الحكومة السابق أحمد قريع، والوزير السابق نبيل شعث، ووزير الداخلية السابق ناصر يوسف، وساري نسيبة من واضعي مبادرة جنيف.
•والجديد هنا هو أن هذا الجدل يشكل صدى لنقاش أكثر شمولاً يعكس على ما يبدو تراجعاً زاحفاً لفكرة الدولتين، وفي الوقت عينه صعوداً لفكرة الدولة الواحدة لدى أوساط واسعة من الجمهور الفلسطيني. وتجلى ذلك بوضوح عبر شبكات التواصل الاجتماعي من خلال تأليف هيئات عامة تناقش المسألة وعبر تزايد التأييد الشعبي لهذه الفكرة برغم أن هذه الفكرة لا تحظى حتى الآن بتأييد الأغلبية. فعلى سبيل المثال في كانون الأول/ديسمبر 2011 أيد رؤيا الدولة الواحدة 30% من سكان الضفة، مقابل 31% في آذار/مارس 2013، و33% في نيسان/أبريل 2015.
•ويمكننا افتراض أن هذا التغيير لم يحدث لدى الأوساط الإسلامية التي ظلت تؤمن بفكرة الدولة الواحدة، بل بصورة خاصة لدى التيارات القومية نتيجة الأسباب الداخلية والإقليمية التالية:
•هناك أولاً وقبل كل شيء انخفاض للتوقعات بقيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل خلال السنوات القريبة المقبلة. صحيح أنه لا تزال هناك أغلبية في الشارعين الفلسطيني والإسرائيلي تؤيد حل الدولتين وهي تقدر بما بين 65% إلى 70% (استناداً إلى معطيات معهد الأبحاث الفلسطيني بإدارة خليل الشقاقي). لكن كما في إسرائيل كذلك، فإن أغلبية الفلسطينيين (نحو 60%) لا يعتقدون بأن مثل هذا الحل سيتحقق. فالجولة الأخيرة للمفاوضات التي دارت بين إسرائيل والفلسطينيين في آب/أغسطس 2013 وأيار/مايو 2014 لم توقظ أية آمال، واستُقبل فشلها بلامبالاة عكست اليأس الذي ازداد عمقاً، وفقاً للاستطلاعات، في أعقاب نتائج الانتخابات الأخيرة في إسرائيل.
•والسبب الثاني هو الشرخ الداخلي الفلسطيني الذي يجعل الجمهور الفلسطيني يشعر بالعجز ويمنع عملياً إقامة بنية تحتية سياسية متفق عليها من أجل الدفع قدماً بالحل. ولا يبرز هذا الشرخ في العلاقات الصعبة بين "فتح" و"حماس" فحسب بل وأيضاً يطبع بطابعه الساحة الداخلية في الحركتين، فقد وصل التوتر بين القيادة السياسية لـ"حماس" وذراعها العسكرية إلى ذروته بعد عملية "الجرف الصامد" بسبب توجه الذراع العسكرية نحو العودة إلى "محور المقاومة" بقيادة إيران الذي غادرته "حماس" في 2012. في المقابل، فإن القيادة السياسية (باستثناء محمود الزهار) تطالب بالاعتماد على الحكم السعودي بزعامة الملك سلمان المعنيّ بضم "حماس" إلى الجبهة السنية في مواجهة إيران. كذلك في "فتح"، فاقمت عملية "الجرف الصامد" التوترات الداخلية التي يبرز أشدها بصورة خاصة بين أبو مازن ومحمد دحلان الذي طرده أبو مازن من "فتح" سنة 2011. وقد راكم دحلان منذ ذلك الوقت مالاً وسيطرة على ميزانيات للتنمية حصل عليها من دول الخليج يخصصها لمشاريع مختلفة وفق ما يشاء في الضفة وقطاع غزة. ويتخوف أبو مازن من أن تكون هذه الأموال هي إحدى الوسائل التي يستخدمها دحلان بدعم من عدد من الدول العربية، وعلى رأسها اتحاد الإمارات، بهدف زعزعة زعامته، وهو يميل إلى اتهام دحلان بكل مؤامرة تجري في الضفة مثل التظاهرات التي شهدها مخيم بلاطة في الأيام الأخيرة.
•وهناك سبب آخر هو تدني ثقة الجمهور الفلسطيني في الضفة بقدرة أبو مازن على الدفع قدماً بحل سياسي من خلال ثورة شعبية. وتشير استطلاعات الرأي للمعهد الفلسطيني للأبحاث إلى أنه من بين جميع الخيارات للدفع نحو حل، فإن حل الثورة العنيفة هو الأكثر شعبية (نحو 36.7%) مقابل خيار الثورة اللاعنفية (29.7%)، وخيار المفاوضات (29.4%). لكن الحقائق على الأرض تثبت منذ وقت طويل وجود فارق كبير بين الدعم النظري للثورة، سواء كانت عنفية أم لاعنفية، والاستعداد للمساهمة الشخصية بطريقة عملية. وجميع الذي توقعوا أن يؤدي فشل مفاوضات 2013 - 2014 إلى انتفاضة ثالثة خاب أملهم. وحتى خلال أحداث الصيف والخريف وفي ذروة عملية "الجرف الصامد" لم تنشب ثورة واسعة، وظلت الاضطرابات محدودة ومحلية واقتصرت في الأساس على منطقة القدس، وهي لم تمتد حتى الآن إلى سائر أجزاء الضفة برغم مساعي "حماس" لإشعال المنطقة. كذلك فإن محاولات الثورة غير العنفية على سبيل المثال من خلال فرض مقاطعة شعبية للمنتجات الإسرائيلية لم تنجح حتى الآن، ولا يعود هذا إلى عرقلة إسرائيلية ناجعة لهذه الخطوة بل بسبب تدني التعبئة الفلسطينية.
•وتنبع هذه السلبية الفلسطينية من عدد من العوامل: فعلى الرغم من عدم تدهور الوضع الاقتصادي في الضفة في السنوات الأخيرة، بل هو يُعتبر أفضل بما لا يقاس من الوضع السائد في قطاع غزة من حيث معدل البطالة والفقر والناتج المحلي، فمن الواضح أن غلاء المعيشة في إسرائيل يؤثر على الضفة أكثر مما يؤثر على القطاع. ويعتبر الكثير من سكان الضفة منذ عدة سنوات البطالة والفقر مشكلات وجودية تتقدم على مشكلات أخرى من بينها الاحتلال والمستوطنات، وتحتل هذه المشكلات مرتبة أكثر ارتفاعا ً(36% في آذار/مارس 2013، و30% في نيسان/أبريل 2015) بالمقارنة مع المشكلات الأخرى.
•وبالرغم من أن الوضع الاقتصادي في الضفة معقول نسبياً، إلا أنه توجد فيها جيوب تعاني من ضائقة وبصورة خاصة في مخيمات اللاجئين مثل مخيمي جنين وبلاطة اللذين شهدا في الفترة الأخيرة اضطرابات حظيت بتسمية "انتفاضة الجياع". ويتوجه الإحباط في جيوب الضائقة هذه بصورة خاصة ضد السلطة الفلسطينية وأيضاً ضد "حماس" والفصائل الأخرى.
•وحتى الفلسطينيون الذين هم ليسوا في ضائقة صعبة يلمّحون إلى أن تطلعهم الأساسي هو نحو تأمين وضعهم الاقتصادي. والعديد من هؤلاء هم من الشباب الذين يطلق عليهم في اللغة الفلسطينية الحالية "الجيل المصلحجي"، تمييزاً لهم عن التسميات التي أطلقت على الأجيال السابقة مثل "جيل النكبة" و"جيل الثورة". وبعكس التسميات التي أعطيت للأجيال السابقة، فإن التسمية الحالية تكشف الكثير من الاستهزاء والإحباط من الأيديولوجيات، وعدم استعداد هذا الجيل للاستجابة لمصلحة الأمة.
•يمكن تفسير التركيز على الأمن الاقتصادي بأنه ميل طبيعي لدى الشباب الذين يتطلعون إلى الاستقرار والحياة الطبيعية. لكن برغم ذلك يدل سلم الأولويات الجديد على تغيير في طبيعة المجتمع الفلسطيني الذي كان يوصف في الماضي بأنه مجتمع معبأ. علاوة على ذلك، فإن الامتناع عن التدخل في الحياة السياسية من قبل هؤلاء الشباب، وأكثرهم من أبناء الطبقة الوسطى ومن جهات سياسية مختلفة، يمس بصورة خاصة بفرص حدوث تغييرات سياسية، لأن الشباب هم الذين يقودون عادة عمليات التغيير في المجتمع الفلسطيني كما في كل المجتمعات الأخرى. ويظهر بحث حديث أصدره معهد Burson-Marsteller أن الرغبة في الاستقرار الاقتصادي والابتعاد عن الحياة السياسية يطبعان اليوم ملايين الشباب في الشرق الأوسط، وهما نتيجة مباشرة لليأس وخيبة الأمل إزاء ثورات الربيع العربي التي علقت عليها آمال كبيرة قبل أن تؤدي إلى إحباطات قاسية ولا سيما لدى جيل الشباب الذي قادها.
•إن الخوف من تطورات كارثية مثل تلك التي أدى إليها الربيع العربي يؤثر أيضاً على الشباب الفلسطيني الذي يدرك تراجع أهمية القضية الفلسطينية في العالم العربي في ضوء الكوارث التي يمر بها العرب منذ بداية الاضطرابات الإقليمية. ولا يجري الحديث هنا عن مخاوف لا أساس لها، فبالاستناد إلى استطلاعات، فإن الاهتمام بالقضية الفلسطينية فقد أهميته، وتأتي القضية الفلسطينية في المركز الرابع بعد داعش والارهاب والبطالة، في قائمة الموضوعات التي تشغل أبناء المنطقة. ويضاف إلى هذه المخاوف الحذر من احتمالات عودة أحداث مؤلمة من تجربة الماضي الفلسطيني، وفي طليعتها ذكريات الانتفاضة الثانية التي على ما يبدو تركت طابعها على الأجيال الشابة حتى تلك التي لم تشارك فيها، مما يخفف الدوافع نحو ثورة جديدة.
•أما السبب الأخير في عدم وجود حافز لدى الجمهور الفلسطيني كي يقوم بنفسه بتغيير سياسي فهو أن السلطة الفلسطينية غير معنية بالثورة. فمصطلح "الانتفاضة" لم يعد له هذه الهالة، على الأقل في نظر كثيرين من أتباع السلطة الفلسطينية الذين ينظرون إلى الانتفاضة اليوم على أنها محاولات من جانب "حماس" لزعزعة حكم السلطة في الضفة، ولأنهم يتخوفون من أن أي انتفاضة جديدة سوف يستغلها منتقدو السلطة في الداخل. وفي ظل هذا الوضع تقوم أجهزة الأمن في السلطة بدور أساسي في لجم التدهور بعكس دورها الأساسي في الماضي في إشعال الانتفاضة الثانية.
•ونظراً لعدم ظهور تغيير في الأفق، فإن حصيلة التطورات المعروضة سابقاً هي حيرة تتغلغل لدى أقسام كبيرة من الجمهور الفلسطيني الذي يقبل بحل الدولة الواحدة، ليس بوصفه خياراً منطقياً بل لعدم وجود خيار آخر. وفي الواقع يعكس بروز رؤيا الدولة الواحدة في جدول الاعمال اليومي، عن ضعف رؤيا الدولتين وعدم قدرة الأوساط القومية على اخراج هذه الرؤيا من القوة إلى الفعل.
•من جهة أخرى، فإن أسلوب "المقاومة" الكفاحي لحركة "حماس" لم يتمكن من إثبات نفسه كاستراتيجية قادرة على تحرير فلسطين. إن الفراغ الفكري الذي تركته القيادتان الفلسطينيتان بدأت تملأه أفكار بديلة من بينها رؤيا إسلامية غير كفاحية مطروحة منذ بضع سنوات من جانب قياديين لهم تأثير في المنطقة الجنوبية من الضفة مثل أبو أكرم أبو سنينه، والشيخ فريد جعبري وعبد الوهاب غيث (وهم زعماء عشائر كبيرة)، وإلى جانبهم زعماء سلفيون مثل المشايخ أبو خليل التميمي، ووليد أبو نجمة وموسى رشيد. يقول هؤلاء القادة إنه نظراً لصعوبة تقسيم البلد لأسباب دينية وغير دينية فيجب العيش فيها بسلام والتعايش مع اليهود وانتظار الخلاص الآتي مع مجيء المهدي (المسيح المنتظر عند المسلمين). وهذه الأفكار لا تدور في فضاء فارغ كما يظهر على سبيل المثال في كلام طالب من الخليل قال إلى موقع "والا" الإلكتروني في 30 نيسان/أبريل 2015: "لقد عاش اليهود والمسلمون معاً مئات السنوات... فما الحاجة إلى دولة إسرائيل؟ إن الإسلام يفرض علينا الدفاع عن النصارى واليهود مثلما دافع النبي محمد عن جاره اليهودي..."