•النقاش العام الدائر بشأن مسألة ما إذا كانت إسرائيل انتصرت أو خسرت في معركة غزة يكشف عن ميل إنساني للنظر إلى الوقائع بصورة ثنائية الجانب: إما أبيض أو أسود. كما يكشف عن صعوبة مواجهة أوضاع ملتبسة. لقد كان من المهم جداً للإسرائيليين معرفة ما إذا كانت إسرائيل انتصرت على "حماس" أم خسرت فور انتهاء المعركة، مع أن أغلبيتهم، كما يبدو، قررت فوراً أن إسرائيل خسرت المعركة. وليس من الصعب العثور على مؤشرات تثبت ذلك. ففي المواجهات غير المتكافئة التي تواجه فيها دولة تنظيماً لا ينتمي إلى دولة، يبدو الطرف الأضعف هو المنتصر طالما أنه لم ينهزم، كما أشار إلى ذلك هنري كيسنجر ذات مرة، أما الطرف الأقوى فهو الخاسر ما لم ينتصر بصورة واضحة.
•من بين أسباب الشعور الحالي لدى الإسرائيليين بأن إسرائيل "انهزمت" في المعركة ضد "حماس"، الخلط بين أمرين مختلفين، الحرب من جهة ونتائجها البعيدة المدى من جهة أخرى. ومن أجل فهم الفارق بين الاثنين من المفيد العودة قليلاً إلى آب/أغسطس 2006، وهي فترة ما بعد حرب لبنان الثانية. لا ضرورة للرجوع إلى استطلاعات الرأي العام من أجل أن نتذكر الأجواء العامة التي سادت في إسرائيل، والإجماع العام أن إسرائيل منيت بفشل ذريع في الحرب. ولكن اليوم، وبعد ثماني سنوات من الهدوء المطلق تقريباً على الحدود الشمالية تبدو الأمور بصورة مختلفة.
•ومن أجل فهم هذه الفجوة من المفيد التوقف أمام التمييز الأكاديمي المعروف بين مفهومي "الإخضاع" و"الردع". مفهوم "الإخضاع" هو مدى نجاح طرف في إخضاع الطرف الآخر. وعلى الرغم من أن إخفاقات إسرائيل على هذا الصعيد بعيدة عن أن تكون غير قابلة للنقاش، لكن ثمة ما يبرر الشعور السائد بأن إسرائيل فشلت في فرض وقف اطلاق النار على "حماس"، ولا سيما في ضوء مواصلة الحركة اطلاق صواريخها حتى اللحظة الأخيرة. لكن التوقعات بشأن حدوث مثل هذا الإخضاع كانت منذ البداية غير واقعية. فبالنسبة لـ"حماس"، إن قدرتها على الصمود مصدر أساسي لشرعيتها الشعبية، وكان متوقعاً منذ البداية أن تبذل كل ما في وسعها كي لا تظهر أنها خضعت تحت النار، ومن الصعب أن نتخيل كيف كان يمكن أن نحقق ذلك من دون القضاء المبرم على قدراتها العسكرية بثمن من الصعب أن تكون إسرائيل مستعدة لدفعه.
•وعلى عكس الإخضاع، فإن التأثير الردعي لمعركة غير متكافئة يمكن رؤيته على المدى البعيد، كما يثبت نموذج حرب لبنان الثانية بصورة جيدة. والردع في النزاعات غير المتكافئة جزئي دائماً، سواء فيما يتعلق بفترة استمراره أو نوع العنف الذي نجح في منع حدوثه.
•لقد تسببت الانتفاضة الثانية بأضرار كبيرة لـحركة فتح، وكانت النتيجة امتناعها بصورة مطلقة عن استخدام العنف ضد إسرائيل خلال سنوات عديدة. أما تأثير الردع على "حماس"، التي تلقت ضربة أقل قوة خلال تلك الانتفاضة، فكان أضعف واقتصر على وقف الهجمات الانتحارية فقط. وأما بالنسبة للعمليات المحدودة ضد "حماس" مثل "مطر الصيف" و"غيوم الخريف" سنة 2006، و"عمود سحاب" في 2012، فكان لها تأثير ردعي محدود من حيث الزمن استمر من عام إلى نصف عام. وفي المقابل، فإن التأثير الردعي لعملية "الرصاص المصهور" في نهاية 2008، والتي تسببت بدمار كبير في غزة وألحقت الأذى بصورة كبيرة بـ"حماس"، فقد استمر لمدة عامين ونصف العام. ولدى العودة إلى نموذج حزب الله، فإن الرد الإسرائيلي المكثف سنة 2006 أثمر تأثيراً ردعياً لا يزال مستمراً حتى الآن.
•إن نتائج المعركة الأخيرة على غزة على صعيد تحقيق هدفها الأساسي وهو الردع، ستتضح على المدى البعيد فقط. وإذا حاولنا استشراف المستقبل من خلال الاعتماد على الماضي، فثمة احتمال كبير بأن تثمر المعركة الأخيرة تأثيراً ردعياً قوياً ومستمراً في ضوء الثمن الباهظ الذي جبته من "حماس" ومن سكان غزة.