"جرف الصخر الصامد": أهداف العملية واستراتيجية تحقيقها
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

– مباط عال

•مساء السابع من تموز/يوليو 2014 اتضح بصورة نهائية أن "حماس" لم تتعاون مع سياسة ضبط النفس التي تمارسها الحكومة ولا مع محاولات الوساطة المصرية للعودة إلى وقف النار والتفاهمات التي تحققت في أعقاب عملية "عمود سحاب". وقد أدى مطالبة الحركة باتفاق مختلف يقيد عمليات إسرائيل، ومطالبتها بفتح معبر رفح وإطلاق أسرى صفقة شاليط الذين أعيدوا إلى السجن، وصليات الصواريخ التي لم تتوقف برغم ضبط النفس الإسرائيلي، إلى دفع إسرائيل لدخول معركة لا ترغب فيها. نعرض في ما يلي فهمنا لأهداف المعركة الحالية- "جرف الصخر الصامد"، وما الذي يجعلها تختلف عن عمليتي "الرصاص المسبوك" و"عمود سحاب".

1.الهدف الاستراتيجي لأي عملية يفرضه واجب الدولة الأساسي في الدفاع عن مواطنيها وتمكينهم من العيش بصورة طبيعية. لقد شكل هدف ترميم الردع وتعزيزه- وتحقيق فترة تهدئة جديدة- إنجازاً استراتيجياً أساسياً  للعمليات السابقة، فالردع يكبح الدوافع والرغبة في إطلاق النار على إسرائيل. ومن الجيد أن تتصدى هذه العملية لقدرات "حماس" والتنظيمات الإرهابية الأصغر- مثل الجهاد الإسلامي ولجان المقاومة. لكن يجب توجيه العملية في الأساس نحو الذراع العسكرية لـ"حماس" وسائر التنظيمات الإرهابية، وتسديد ضربة قوية إلى قياداتها وأعضائها وقدراتها على إطلاق الصواريخ. 

ثمة هدف آخر مهم للعملية لم يجر التطرق إليه هنا ولم يتحقق في الماضي هو الحؤول دون بناء "حماس" قوتها العسكرية بعد العملية. ونظراً إلى إغلاق المصريين الأنفاق التي استخدمتها "حماس" لبناء قوتها العسكرية بعد عمليتي "الرصاص المسبوك" و"عمود سحاب"، فإن إمكانية استعادة "حماس" قوتها العسكرية ستكون محدودة وبطيئة، ولا سيما بعد توجيه ضربة قوية إلى مصانع إنتاج الصواريخ في غزة نفسها.

2.مثل العمليات السابقة لا يجب أن يكون الهدف العسكري احتلال غزة من أجل "إسقاط حماس". لقد انفصلت دولة إسرائيل عن غزة، ولم تعد تتحمل مسؤولية هذا القطاع مع المليون ونصف المليون من سكانه. و"حماس" اليوم ضعيفة سياسياً واقتصادياً ويجب إضعافها عسكرياً أيضاً. من هنا فتوجيه ضربة قاسية إليها وتحقيق الردع ومنعها من بناء قدرتها العسكرية مستقبلاً، هو الهدف الصحيح. أما تحويل غزة إلى منطقة ليس فيها سلطة حاكمة فهو خطأ استراتيجي.

3.إن أحد المكونات الأساسية لقوة "حماس" الذي يمكن أن يشكل مقابلاً للتفوق الاسرائيلي الاستخباراتي النوعي والقدرة النارية، هو منظومتها تحت الأرض. لقد بنت "حماس" تحت الأرض قدرات دفاعية وهجومية واسعة النطاق. فغزة تحتوي على شبكة من الأنفاق والملاجئ تحت الأرض يختبئ فيها ليس فقط قادة الحركة، بل العديد من أعضاء الذراع العسكري. إن العملية التي قام بها الجيش الإسرائيلي الأسبوع الماضي ضد نفق هجومي بنته "حماس" جنوبي القطاع وكان يفترض أن يكون مفاجأتها الاستراتيجية، إنجاز مهم بالنسبة للجيش، وكذلك القضاء على الخلية التي حاولت تحت غطاء ناري واسع القيام بهجوم على شاطئ زيكيم. إن خروج سرية مخربين من نفق هجومي في أراضي إسرائيل، مع احتمال وجود أنفاق أخرى مشابهة، سيمكنها من القيام بهجوم واسع. لذا من المهم أن يسارع الجيش إلى كشف الأنفاق الهجومية وتحويلها بطرق مبتكرة إلى كمائن حفرتها "حماس" لنفسها.

4.من المهم الانتباه إلى خسارة "عنصر المفاجأة"- في العمليتين السابقتين نجح الجيش في تحقيق مفاجأة تكتيكية وفي ضرب مراكز قيادية مأهولة (خلال عملية "الرصاص المسبوك") وكذلك في قتل قائد الذراع العسكري لـ"حماس" وضرب منصات إطلاق الصواريخ البعيدة المدى (في عملية "عمود سحاب"). في مساء 7 تموز/يوليو الحالي، أثبتت "حماس" أنها تنظيم يتعلم من التجربة ونجحت في إملاء توقيت المعركة- في الوقت الذي أصحبت فيه أكثر تخندقاً وأقل انكشافاً من الماضي. لقد حاولت "حماس" وستحاول مفاجأتنا بقدرات جديدة- مثل صواريخ بعيدة المدى تصل إلى ما بعد تل أبيب، أو توغل بري، وطائرات من دون طيار. حتى الآن لم تنجح الحركة في مفاجأة الجيش الإسرائيلي الذي استطاع إحباط قدراتها "الجديدة". لكن على الرغم من ذلك، يجب افتراض أنها ستحاول المفاجأة.

5.صمود الجبهة الإسرائيلية الداخلية- إن قدرة الجبهة الإسرائيلية في الداخل على الصمود في معركة تستمر أكثر من أسبوع، هي العنصر الأساسي في تحديد نتائج المعركة. وفي الواقع، فإن نمط سلوك الجمهور خلال المعارك العسكرية التي خاضها الجيش في العقد الأخير ضد تنظيمات إرهابية نصف دولتية (حزب الله وحماس) لم يتغير، ومن المنتظر أن يكون كذلك هذه المرة. ويمر الجمهور بعدد من التحولات: في البداية يكون هناك إجماع على خوض المعركة؛ في ما بعد وخلال الأيام الأولى يظهر تأييد جارف، خاصة في حال تحقيق إنجازات بارزة؛ لكن مع تزايد عدد الإصابات في الجبهة الداخلية وبين الجنود ومع إدراك عدم وجود نصر مطلق، يفقد الجمهور صبره ويصبح انتقادياً جداً. لذا يجب أن يستند نجاح العملية العسكرية إلى التالي: أ. شرعية كبيرة (لقد سمحت سياسة ضبط النفس للحكومة ببدء العملية وهي تحظى بقدر كبير من الشرعية) ب. الدفاع الجيد عن الجبهة الداخلية (إن "القبة الحديدية" عنصر أساسي في الدفاع، لكن قدرات سلاح الجو والقوات المدربة على مهاجمة مطلقي الصورايخ والقضاء عليهم، أكثر أهمية)، ج. تحقيق إنجازات حقيقية وقاطعة في مواجهة العدو. فالجمهور الإسرائيلي مستعد لتلقي الضربات عندما يرى إنجازات استراتيجية مهمة.

6.عنصر الوقت- إن النفس القصير للجمهور الإسرائيلي، والضغط الدولي، وخطر التصعيد والخوف من الأضرار الجانبية التي تلحق بالمدنيين العزل، كل ذلك من شأنه أن يفرض وقف العملية قبل تحقيق الأهداف الاستراتيجية. لذا يجب الامتناع قدر الإمكان عن استخدام الطريقة التدريجية واستعمال القوة الكاملة خلال الأيام المقبلة، فثمة أهمية كبيرة لنتائج الهجمات ونوعية الأهداف التي دمرت، في تحقيق أهداف العملية.

7.تحرك جوي وبري مشترك مدعوم استخباراتياً. لقد اعتاد الجمهور رؤية نوعين من العمليات: إما جوية أو جوية مع تحرك بري واسع من أجل احتلال القطاع. وحتى لو كنا لا ننوي احتلال غزة، فإن العملية البرية تبدو مطلوبة، لا بل ضرورية. هناك نوع من التكامل العالي المستوى بين التحرك الجوي والبري. ومن دون عملية برية ستظل "حماس" تحت الأرض. إن التوغل البري نحو نقاط مهمة سيولد الاحتكاك مع أعضاء الذراع العسكري للتنظيمات الإرهابية وسيسمح أيضاً للقوة الجوية والبرية بضربهم وضرب البنية التحتية التي يستخدمونها. وفي جميع الأحوال، فإن التحرك البري وحتى الجوي مرهون باستخبارات نوعية، وكلما كانت الاستخبارات نوعية تنخفض الحاجة إلى المناورة البرية. 

8.المسؤولية السياسية- في العمليتين السابقتين كان يمكن التعامل مع غزة كدولة واقعة تحت سيطرة "حماس" وضرب مباني السلطة والقيادة السياسية وحتى البنية التحتية- والبقاء ضمن القانون الدولي. لقد بدأت عملية "جرف الصخر الصامد" بعد وقت قصير من تخلي "حماس" عن مسؤوليتها عن غزة وإعادة "المفاتيح" بصورة رسمية إلى أبو مازن. وبات من السهل على "حماس" أن تنتهج نموذج حزب الله الذي يملك "جيشاً خاصاً" في دولة ليس هو المسؤول فيها. لذا يتعين على إسرائيل أن توضح مجدداً أنها تعتبر "حماس" مسؤولة عن كل ما يجري في غزة. لقد ظهرت اقتراحات بتوجيه ضربة عسكرية للمؤسسات السياسية في غزة. في رأيي، ليس هناك مسّوغ سياسي أو عسكري للقيام بذلك. فإذا أردنا ممارسة الضغط على "حماس" التي تسيطر على غزة، تستطيع إسرائيل وقف تزويدها بالكهرباء والوقود والمواد الغذائية من دون طلقة واحدة- فالمعابر والتزود بالكهرباء بين أيدينا. وكلما توسعت المواجهة وطالت يجب أن نحرص على عدم نشوء أزمة إنسانية في غزة. إذ سيحاول الفلسطينيون إشاعة هذا الانطباع الذي يخدمهم. لذا يجب علينا أن نقرأ الخريطة جيداً ولا نسمح بالمس غير المجدي بالمدنيين الذين لا علاقة لهم بالقتال.

9.مراقبة التصعيد الإقليمي- أثناء توسع المواجهة في غزة، المطلوب من الجهات التي تقوم بتقدير الوضع عرض رؤيتها بشأن حجم حرية التحرك على جبهة غزة في مقابل خطر التصعيد على جبهات أخرى. من بين الأسباب التي دفعت الحكومة إلى ضبط النفس في الأسبوع الماضي التخوف من نشوب اضطرابات في مناطق السلطة الفلسطينية ووسط العرب في القدس وفي إسرائيل. ومثل هذا الخطر لم يختف وقد يعود بحجم كبير في حال وقوع أخطاء عسكرية ضد مدنيين لا علاقة لهم. ثمة خطر آخر أكثر أهمية لكن ضئيل الاحتمال، هو اشتعال الجبهة الشمالية في مواجهة حزب الله وحتى في مواجهة سورية. بيد ان احتمال حدوث ذلك ضئيل للغاية نظراً لانشغال حزب الله وسورية في الحرب الأهلية. لكن على الرغم من ذلك، فاحتمال اشتعال الجبهة الشمالية حتى لو كان ضئيلاً، يتطلب دراسة ومعالجة دائمة لفرضيات العمل وصورة الوضع.

10.مصر- لعبت مصر في الماضي دور الوسيط وقدمت آلية لإنهاء العمليات العسكرية الإسرائيلية في مواجهة "حماس". وتشكل مصر هدفاً غير مباشر لإطلاق النار من جانب "حماس" من خلال المطالبة بتخفيف الحصار المفروض على غزة أي فتح معبر رفح والأنفاق. لكن مصر 2014 تختلف عن مصر مبارك ("الرصاص المسبوك") التي كانت حساسة جداً حيال ردة فعل الشارع المصري على العملية، كما تختلف عن مصر أيام مرسي ("عمود سحاب") التي كانت تعتبر "حماس" حليفة لها. فمصر في ظل حكم السيسي لم تنجح في منع المواجهات وفي استئناف تفاهمات "عمود سحاب". ويعود فشل مصر إلى عدائها لـ "حماس" ورغبتها في أن توجه إسرائيل ضربة إليها بسبب ضعف سيطرة القيادة السياسية في الحركة على الذراع العسكري الذي يعمل بصورة مستقلة. 

11.إيران. من أسباب ضبط النفس المستمر للحكومة الإسرائيلية جدول الأولويات الاستراتيجية الذي يوجهها. وليس من الضروري أن نكون داخل الحكومة كي ندرك أن رئيسها يعتبر الخطر النووي الإيراني أهم بكثير من خطر الإرهاب من غزة. وفي انتظار انتهاء المفاوضات بين الدول العظمى وإيران في 20 تموز/يوليو 2014، لم يكن رئيس الحكومة يريد تحويل الاهتمام السياسي والاستراتيجي والإعلامي عن هذا الموضوع الذي يعتبره فائق الأهمية. وعلى الرغم من ذلك، فالتقدير الشائع أن المفاوضات مع إيران لن تنتهي في وقت قريب، مما يمنحنا وقتاً للرد على خطر الإرهاب من غزة.

 

12- آلية إنهاء المواجهة. في كل مواجهة عسكرية من واجب القيادة العسكرية التأكد من أنها مستعدة وقادرة على استخدام آلية إنهاء المواجهة. والمقصود هنا استخدام أطراف دولية مثل مجلس الأمن أو الأمم المتحدة وآليات وساطة وتفاوض غير مباشرة عبر دولة ثالثة (مصر، تركيا، قطر)، أو آليات عسكرية للتصعيد أو الخروج من طرف واحد. لقد أوقفت عملية "رصاص مسبوك" بصورة أحادية الجانب- قبلت "حماس" وقف النار بعد أن ضُربت بشدة؛ أما عملية "عمود سحاب" فتوقفت بمساعدة وساطة مصرية. من المهم جداً أن يكون واضحاً لدى متخذي القرارات ما هي الآلية التي يستطيعون من خلالها الخروج من المعركة، وأن يترافق هذا الخروج مع تحقيق الهدف الاستراتيجي الذي من أجله خاض الجيش تلك المعركة.

 

 

المزيد ضمن العدد 1931