حسابات اليسار: على المستوى التاريخي، الهوية اليهودية تنتصر
تاريخ المقال
المصدر
- لا شك في أن الإنجاز الانتخابي الأبرز في هذه الانتخابات هو إنجاز "الصهيونية الدينية"، وخصوصاً إنجاز إيتمار بن غفير. لقد فعل نتنياهو كل ما يمكنه من أجل شفط الأصوات المؤيدة لبن غفير لكنه لم يفلح في ذلك.
- ولا يقتصر إنجاز بن غفير على عدد الأصوات التي حصل عليها، بل قام أيضاً بتوسيع حدود السياسة الإسرائيلية؛ فحتى وقت قريب، كانت مواقفه تعتبر خارج الإجماع ولا تستحق طرحها أمام الجمهور، بيد أن الائتلاف بينه وبين بتسلئيل سموتريتش، والذي تم بفضل جهود نتنياهو لأسباب انتخابية، أعطاه شرعية، وسمح لكثيرين في المجتمع الإسرائيلي بأن يشعروا بأن هناك من يعبّر عن صوتهم المكتوم. فقد ازداد في الأعوام الأخيرة شعور الخوف من العرب، وخسارة الكرامة القومية، ولمّا انكسرت المحرمات جرى التعبير عن هذه المشاعر، وربح بن غفير كل الأصوات في الصندوق، واستفاد الشركاء في "الصهيونية الدينية" من هذا أيضاً.
- لكن الإنجاز السياسي لهذه الانتخابات يعود برمته إلى نتنياهو، الذي أثبت أمام كل الساخرين، وبينهم كاتب هذه السطور، أن نجمه لم يتراجع؛ فجهوده من أجل ترتيب الائتلاف بشكل صلب، وحل الخلافات والمشكلات، والتأكد من أن أي صوت لن يذهب سدى، هي التي حققت هذا النصر. ولم يتحقق هذا كله نتيجة العمل بجد فحسب، بل أيضاً بسبب السلطة الممنوحة له من جميع الجهات السياسية والدينية في هذا الائتلاف. وهذا الأمر يبرز بقوة أيضاً لدى النظر إلى ما جرى في معسكر اليسار والعرب؛ فقد استقطب هذا المعسكر أصوات الناخبين، لكن عدم التنظيم وعدم وجود صلاحيات لدى يائير لبيد، أديا إلى تفككه وتشرذمه، وبالتالي خسر كثيراً من الأصوات، كذلك خاض ميرتس وحزب العمل الانتخابات منفصلَين، واستنفد العرب كل إمكانات التقسيم الذاتي، بالإضافة إلى الصراع بين غانتس ولبيد على المرشح لرئاسة الحكومة، كلها أمور أدت في النهاية إلى الفشل السياسي لليسار.
- لكن أسباب فشل اليسار أعمق من ذلك بكثير، فباستثناء "فقط لا بيبي"، ليس هناك أي فكرة أيديولوجية تنظّم معسكر اليسار، وحتى فكرة "حل الدولتين" لم تعد صالحة وجرى تخطيها، كذلك لا شيء مشترك بين لبيد - غانتس والعرب، أو بين ليبرمان و"ميرتس" و"حزب العمل". ففشل معسكر اليسار له أبعاد تاريخية يمكن تلخيصها بالاستنتاج أن اليهود انتصروا على الإسرائيليين مرة أُخرى. وعلى عكس معسكر نتنياهو الذي تشكل فيه الهوية اليهودية العامل المشترك والموحد، لا يوجد لدى اليسار أي فكرة موحدة. وعندما لا يكون هناك أي شيء مشترك على الصعيد الأيديولوجي، فإن الفشل لا يغدو مفاجأة، وهذا على ما يبدو الخلاصة التي يتعين على معسكر اليسار أن يستنتجها من هذه الانتخابات.
- فالهوية اليهودية، بكل ما تتضمنه، من الحريديم مروراً بالقلنسوات المنسوجة وصولاً إلى المحافظين من ناخبي "الليكود"، هي الروح المشتركة التي تمنح ائتلاف نتنياهو هذا العمق التاريخي والأساس الأيديولوجي الصلب. إلاّ إن ثمة مركّبات كثيرة في معسكر اليسار تتناقض مع هذا الجوهر؛ فعلى الصعيد السياسي، يتم التعبير عن عدم وجود الوعي اليهودي المتطور بالاستعداد للتنازل عن أجزاء من "أرض إسرائيل" ورؤيتها كأداة لا كقيمة بحد ذاتها، الأمر الذي كان وراء تبنّي اليسار أفكاراً ما بعد حداثية تقدمية وليبرالية ومتطرفة. ولا يدور الحديث هنا عمَّن صوتوا لـ"ميرتس" و"حزب العمل" فحسب، بل المقصود أيضاً الجيش الإسرائيلي الذي قدم تنازلات لمصلحة أفكار نسوية متطرفة وأجندات حركة المثليين، وتغلغلت هذه الأفكار في معسكر "اليسار - الوسط" برمّته. ناهيك بأن الروح القومية تأثرت جرّاء غياب الوعي اليهودي المتماسك، بالحديث عن "دولة كل مواطنيها" وفقدان الشعور بالكرامة القومية. فالانقطاع عن الهوية اليهودية هو ما يجعل الأغلبية اليهودية بعيدة عن اليسار، وهذا أساس فشله.
- من الطبيعي أن يتحضر معسكر اليسار للعودة إلى "بلفور" والميادين والجسور والأعلام السوداء، وأن يخطط للقيام بما قام به اليمين في الحكومة السابقة، أي جوقة تحريض وانقسام وكراهية. إذ يمكن لبن غفير وسموتريتش من جهة، والحريديم من جهة أُخرى، بالإضافة إلى "المتهم" بنيامين نتنياهو، أن يمنحوه الكثير من الأسباب لنشر السموم، لكن لن ينمّ تصرفهم هذا عن أي فهم أو نضوج، وإنما سيكون مجرد "بكاء" وتعبير عن اليأس والإحباط.
- على المستوى التاريخي، فازت الهوية اليهودية، وليس في استطاعة اليسار الانتصار عليها، حتى بمساعدة المجتمع العربي، لذلك يتعين عليه أن يستخلص العبر وأن يعيد بناء ذاته على أساس جديد. فالهوية اليهودية ليست بالضرورة هوية دينية، ذلك بأن أغلبية المصوتين للائتلاف الفائز في الانتخابات لا يؤدون فرائض دينية، بل هم يهود بهويتهم القومية والثقافية. وإذا أراد اليسار أن يعود ليغدو ذا دلالة بالنسبة إلى أغلبية الجمهور الإسرائيلي، عليه أن يعود إلى الهوية اليهودية. طبعاً، على اليسار أن يقوم بهذا على طريقته، لكن في حال غياب العمق اليهودي والقومي والثقافي والتاريخي، سيغدو اليسار الإسرائيلي أضعف وأقل عدداً ومشرذماً ومفككاً. كما أن الجوهر العلماني الإيجابي والضروري الذي جاء به لشعب إسرائيل خلال الأجيال الأخيرة سيختفي في حال عدم وجود أساس يهودي يبث فيه الروح. وبالتالي، وبهذه الطريقة لا يمكن بناء دولة.