في ظل غياب هدف للحرب، الجيش يقوم بإحصاء جثامين "الإرهابيين"
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

المؤلف
  • بدأ الجيش بإدخال أعداد "المخربين" الذين يتمكن من قتلهم، في سياق تقاريره. يرى عاموس هرئيل، وبحقّ، أنها ظاهرة إشكالية اتّسم بها الجيش الأميركي خلال حرب فيتنام. هنالك تفسيرات مختلفة لهذه الظاهرة، وسأركز على اثنين منها:
  • تُعتبر مسألة إحصاء الجثث ظاهرة غير عادية في الثقافة السياسية - العسكرية في إسرائيل. لم يعتَد الجيش في الماضي النشر بشأن هذا الموضوع علناً. لقد بدأ التغيير خلال الانتفاضة الثانية، لكن يمكن الإشارة إلى "تظهير" هذه العادة، بوضوح، في المرحلة التي أعقبت قضية "إليئور أزاريا" [الجندي الإسرائيلي الذي قتل الشهيد عبد الفتاح الشريف في مدينة الخليل، خلال انتفاضة الأفراد، في سنة 2016]. في ذلك الحين، كان الجيش يواجه ادّعاءات اليمينيين أن هذه الحادثة أنتجت تردداً لدى مقاتلي الجيش في استخدام القوة، ولتفنيد هذا الادعاء، بدأ الجيش يتفاخر بأعداد القتلى الفلسطينيين. كان رئيس الأركان السابق غادي أيزنكوت هو الذي رعى هذا التوجّه. وعلى سبيل المثال، قال أيزنكوت قبل نحو عام من تقاعُده: "على مدار العامين الماضيين، قُتل في ’يهودا والسامرة‘ وحدها 171 ’مخربا‘. هذا العدد مرتفع بما لا يقاس، مقارنةً بالسنوات الماضية. هناك جهات تريد إظهار الجيش الإسرائيلي بصفته جيشاً من النباتيين، أو حمَلة الأجندات المدمرة لإسرائيل.. العكس هنا هو الصحيح". أما رئيس الأركان اللاحق أفيف كوخافي، فقام بترقية هذا النهج من خلال التزامه خلق "جيش فتّاك". إن عبارة فتّاك، طبعاً، تعني مسبباً للموت، ولذا، فإن واحداً من معايير النجاح، بالنسبة إلى رئيس الأركان كوخافي، يتمثل في عدد مَن يقتلهم الجيش الإسرائيلي.

 

  • لكن القصة لا تتلخص فقط في محاولة الاحتماء من انتقادات اليمينيين والرد عليها. فالظروف التي يواجه فيها الجيش مصاعب في صوغ معايير راسخة لتقييم نتائج الأعمال القتالية، كما كانت عليه الحال في فيتنام، فإن تعداد الجثامين يتحول، بحد ذاته، إلى معيار نجاح، بدلاً من الأهداف التي جرى هذا القتل في سياق تحقيقها. وهذه هي الحال أيضاً في الأعمال القتالية المتمثلة في النظام البوليسي الذي تفرضه القوات العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية، وهي أعمال لا يمكن أن تحقق سوى الحفاظ على الوضع القائم، وهذه هي الحال أيضاً في الحرب الدائرة حالياً في قطاع غزة، والتي لا يمكن الإشارة إلى إنجازات لها تضمن مستقبلاً أمنياً جديداً في هذه المرحلة. علاوةً على ما تقدم، فإن لغة القتل تحولت إلى جزء من الذخيرة الكلامية لقادة الجيش، كما هي حال اللفتنانت كولونيل رومان جوفمان، قائد مركز التدريبات البرية، الذي صرّح، قائلاً "الآن، سنتقدم ونقتلهم جميعاً"، إلى جانب اللفتنانت كولونيل دادو بار خليفة، قائد الفرقة رقم 36، الذي أطلق وعده، قائلاً "سنقوم بالقضاء عليه [على العدو]، وعلى ما يتبقى من ذكره".
  • يصبح استخدام العنف هدفاً بحد ذاته، حين لا يعود في الإمكان تبرير هذا العنف، من ناحية تحقيق الأهداف. وبذا، يُحتمل أن خطاب الجيش الإسرائيلي لا يعدو كونه شكلاً من أشكال التمهيد لحالة محتملة، يؤدي فيها الضغط الأميركي إلى وقف الأعمال القتالية قبل ضمان انهيار سلطة "حماس". بهذه الصورة، سيتمكن الجيش من الظهور بمظهر مَن حقق إنجازات، في حين سيُتهم الساسة بأنهم حالوا بينه وبين تحقيق النصر.
  • لكن إحصاء الجثامين له دور آخر. وقد كان ذلك ظاهراً في حالة الجيش الأميركي في العراق هذه المرة، لا في فيتنام. إن ارتفاع أعداد القتلى الأميركيين شجّع الجيش على نشر الأثمان التي كبّدها لعدوّه، إذ إنها كانت أعلى كثيراً من القتلى الأميركيين. وبذا، تم بث صورة للمجتمع الحساس تجاه قتلاه، مفادها التالي: صحيح أننا نعاني، لكن عدونا يعاني أكثر، ولذا، عليكم إبداء الصبر. وليس من المستحيل أن يتبلور خطاب على هذه الشاكلة لدينا أيضاً؛ إن العدد المنخفض، نسبياً، منذ الآن، لـقتلى الجيش الإسرائيلي في العمليات البرية يحفّز أصوات الألم، ومن شأن هذه الأصوات أن تتحول إلى معارضة لمواصلة تقديم التضحيات.
  • الأمر يمثّل كابوساً لكل جيش. وبما أن مشهدية الدمار المتحققة في قطاع غزة لم تعد مقنعة أو كافية، فضلاً عن أنه لا يمكن التفاخر بعدد القتلى الغزّيين العام، وأغلبيتهم من المدنيين، وفي ظل غياب مؤشرات تفيد بتحقّق الأهداف الغامضة للحرب، كما أسلفنا، أو حتى في ظل غياب أي مؤشرات تفيد بأن أهداف هذه الحرب قابلة للتحقق، فإن الرسالة التي تقول "صحيح أننا نتعرض للقتل، لكننا نقتُل أكثر"، يمكن أن تحمل أثراً مهدئاً، بصورة موقتة على الأقل. لكن من المتوقع من جمهور معروف بانتقاده، أن يزيد في حدة رقابته على طريقة خوض الحرب، وألّا يسمح للأرقام بأن تضلله، وأن يطالب الحكومة بإجابة واضحة عن سؤال، من هم القتلى، ومَن هم المقتولون.