إنقاذ اليهود والفلسطينيين من البلقنة
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

المؤلف
  • المشكلة العميقة والمدمرة، الكامنة في قلب الصراع اليهودي - الفلسطيني، والتي باتت مفاعيلها أكثر وضوحاً في هذه الفترة الدموية، لا تتعلق بالنزاع على الحدود، أو قضايا الدين وأنماط الحياة. صحيح أن الخلافات الدراماتيكية بين الطرفين الآن، على غرار عُمق مساحة الانسحاب من مناطق القتال، أو الوضع الآيل إلى الانفجار في المسجد الأقصى، لا تساهم في تحسُّن الأوضاع، لكن من الواضح أن التوصل إلى تهدئة، أو تسوية، في هذين الشأنين لن ينهي النزاع، ولن يحول دون مواصلة "الذبح المتبادل" بين الشعبين.
  • المشكلة الأساسية الكامنة في قلب الصراع، هي عدم الاعتراف بالصدمات المتبادلة التي تسبب بها الطرفان، كلٌّ للآخر، وغياب تحمُّل مسؤوليتها، والاستهانة بمعاناة الضحية، وعدم الاهتمام الواضح بجروحها. هذا كله بمثابة علامات للتجرّد من الإنسانية الشاملة، إلى حد باتت فيه لا تفسح أي مجال لأي عواطف أُخرى. إن التجرّد من الإنسانية هذا لا يحول دون التوصل إلى حل فحسب، أو حتى تهدئة للصراع، بل إنه يسرّعه ويكثفه على الطريق المؤدية إلى الجحيم. في هذا الصراع، ارتُكبت حتى الآن الممارسات الأخطر والأعنف في الثقافة الإنسانية: المجازر، والاغتصاب، والتهجير، والقتل الجماعي. ولا تزال الأيام حبلى بالمزيد. إن منسوب العنف الكامن في الصراع اليهودي - الفلسطيني أصبح شديد الارتفاع، ولا يمكن غفرانه، إلى حد بات في الإمكان التفكير في عدم وجود مخرج من هذه الحلقة المفرغة. إن منظومة "التجرّد المتبادل" من الإنسانية، يشبه مستنقعاً آسناً وخطِراً يمتص، ويبتلع، ويخفي في داخله كل ما يمشي، وكل مَن يمشي على ضفته.
  • حدثتني زميلة فلسطينية، من حمَلة الجنسية الإسرائيلية، عن أساها وصدمتها بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وقالت لي إنها شعرت برغبة حادة وعاجلة في ترجمة مشاعرها إلى نشاط من أجل عائلات المخطوفين والمهجرين. لكن المواقف الشعبية [الإسرائيلية] والحكومية تجاه المجتمع العربي، فضلاً عن ردات الفعل الإسرائيلية المنتشرة على المأساة الإنسانية في غزة (سواء أكان ذلك التصلب المعلن، أو الفرح السادي)، دفعتها إلى أماكن أُخرى تماماً، لم ترغب في أن تكون فيها منذ البداية.
  • قالت لي تلك الصديقة: "لقد أدركت، بمرور الأيام، وبصورة أفضل، ما الذي يطلبه مني معارفي اليهود. لقد أدركت أنهم لا يريدون مني أن أدين ما قامت به ’حماس’، وأنهم أيضاً لا يرغبون في إخضاعي لاختبارات الولاء. أدركت أنهم يريدون مني الاعتراف بالأذى اللاحق بهم، وأن أدرك إلى أي حد، في نظرهم، قام الشعب الفلسطيني بـ'إيذاء' الشعب اليهودي في السابع من تشرين الأول/أكتوبر".
  • كثيرون من الفلسطينيين القاطنين في إسرائيل وخارجها، ممن عبّروا عن صدمتهم جرّاء المجزرة، وتحفظوا بصورة قطعية عن "حماس"، يشعرون اليوم بشعور اليتم الاضطهادي نفسه الذي تشعر به الضحية التي يرفض مَن أذاها تحمُّل مسؤولية إيذائها. والآن، "يدّعون" أن الشعب اليهودي يُلحق أضراراً بالغة بالشعب الفلسطيني. ويسألوننا ما إذا كنا سنعترف بالأمر، وإن كنا سنتحمل مسؤولية هذا الضرر.
  • لكن من الطبيعي أن يتألم كلّ طرف مما يجري لضحاياه أكثر. هذا ليس مرفوضاً، بل يعبّر عن البنية النفسية الصحية، وهي السبب الأساسي الدافع إلى الانتظامات البشرية المهمة، على هيئة عائلة، وتجمُّع سكاني، ومجتمع. تملك الشعوب المختلفة سرديات مختلفة ومصالح مختلفة أيضاً، وهي في بعض الأحيان، تتصادم بصورة خطِرة ومؤلمة. ومع ذلك، فإن الصدام بين "حركتين وطنيتين متضادتين" تعملان في مساحة محدودة، لا يجب أن يؤدي إلى كارثة يسير الطرفان نحوها بعيون مفتوحة.
  • عندما نتحدث عن تغيير المناهج والتعليم، "وهو طلب آتٍ من الطرفين"، ويظهر كشرط أساسي في المحاولات اليائسة للخروج من الحلقة الدموية، فإننا نتحدث، عملياً، عن كل ما ذكرته أعلاه، من دون أن نعطيه اسماً. إن الرأفة تجاه الآخر، والاعتراف بمعاناته، والأهم: تحمُّل المسؤولية عن الظروف التي دفعته إلى أكبر الخسائر وأفظع الآلام التي يمكن للمرء أن يشعر بها على مقياس الألم البشري، كل تلك ليست مكونات لتوصيف الذات بصورة ليبرالية، بل هي الخطوات الوحيدة التي يمكنها أن تنقذ اليهود والفلسطينيين معاً من البلقنة، أو من مصير رواندا.