موجة الهجمات الحالية: تحدٍّ لـ"نموذج دبي"
تاريخ المقال
المصدر
- "الإرهاب" المستعر في مدن مركزية في إسرائيل يهدد بتصديع النظام الاستراتيجي السياسي الذي وُضع بشق النفس في العقد ونصف العقد الأخيرين. تبلور هذا النظام إلى حدّ كبير، في ظل الاضطرابات الكبيرة التي عصفت بالشرق الأوسط في بداية العقد الأول من القرن الحالي، والذي أساسه تحقيق الاستقرار من خلال الازدهار الاقتصادي. بهذه الطريقة، جعل النظام الجديد الاقتصاد هو الفكرة الناظمة البديلة من الأفكار السياسية والأيديولوجية المختلفة، والتي صاغت الشرق الأوسط منذ بداية القرن العشرين ودخوله أبواب الحداثة الأوروبية.
- اقتصاد مقابل أيديولوجيا؛ رفاه مقابل نشاط سياسي؛ "صفقة القرن" في سنة 2019 مقابل "سايكس بيكو" في سنة 1916. حجر الأساس في هذه العملية الاستراتيجية كان، طبعاً، الدول الغنية في المنطقة، أي دول الخليج؛ وإسرائيل التي بعد مرور 100 عام على هرتسل ومفكرين صهيونيين آخرين تنبؤوا كيف ستحمل الدولة اليهودية المستقبلية الحداثة إلى الشرق الأوسط المتخلف وإلى سكانه، حققت حلم شمعون بيرس بـ"شرق أوسط جديد"، لكن هذه المرة انطلاقاً من قوة اقتصادية وتكنولوجية، وليس من تسويات سياسية، أو قوة عسكرية.
- لقد كان من المفترض أن يلجم السلام الاقتصادي موجة الانهيار السياسي الذي مرّ به الشرق الأوسط، ومساعدة الأنظمة الفقيرة، مثل مصر أو السودان، على تخطّي مصاعبها الداخلية، وأن يطرح بديلاً فكرياً في مواجهة التحديات الآتية من الشرق، المتمثلة في القوة الفارسية. هذا النظام الذي يعتمد على الفعالية والبراغماتية وإعطاء الأفضلية لموضوعات الحاضر على رؤى المستقبل، كانت تقوده إسرائيل أيضاً من أجل تخفيف التحركات الثورية العربية - الفلسطينية. بهذه الطريقة، تحول "نموذج دبي" من محرك لدمج العرب في إسرائيل إلى التعاون مع النخبة في السلطة الفلسطينية، وحتى محاولات "التسوية" مع "حماس" في القطاع.
- لكن الآن ظهرت مقاومة شديدة لهذا النظام، تنمو من داخل الساحة العربية- الفلسطينية المحلية، سواء لدى العرب في إسرائيل، أو لدى السلطة. برزت التحذيرات الأولى للتحدي الذي ظهر ضد النظام الجديد في أيار/مايو 2021، على صورة تضافُر بين الهجمات التي بادرت إليها "حماس"، وأدت إلى عملية "حارس الأسوار" والاضطرابات التي اندلعت في المدن المختلطة في إسرائيل. العنف والجريمة في المجتمع العربي والفوضى وسط البدو كانت علامات تدل على تآكل وضع النظام الجديد، فُسّرت في الخطاب الإسرائيلي بصورة خاطئة.
- المقصود هو تحدٍّ للنظام الإقليمي والاقتصادي الجديد، جاء من الأطراف العميقة في المنظومة العربية – الفلسطينية. والمقصود أشخاص مهمّشون، اجتماعياً واقتصادياً، وشباب غير مندمج ومضطرب، وأشخاص أيديولوجيون تقليديون. أراد هؤلاء تخريب الاحتفال الكبير للقرن الواحد والعشرين وإعادة المنطقة إلى مبادئها الأولية، من خلال تجديد خطوط الصراع الأيديولوجية التي تتعلق بالهوية، وضمن هذا الإطار، إعادة النزاع بين اليهود وبين العرب إلى ما كان عليه.
- على هذه الخلفية، يمكن أن نرى رمزية المواجهة المشحونة بين "قمة النقب"، التي جرت قبل أيام معدودة في سديه بوكر بين وزراء خارجية إسرائيل ودول الخليج، كحجر أساس لشرق أوسط جديد قديم، وبين الأعمال "الإرهابية" الدموية التي نُفّذت بالتزامن مع انعقاد "قمة النقب" التي جرت بصورة رئيسية رداً على الاتفاق النووي بين الدول الكبرى وبين إيران، وليتضح بعدها أن التهديد الكبير للشرق الأوسط الجديد لا يأتي من طهران فقط، بل من الأطراف العربية الفلسطينية. "الجدار الحديدي" الحقيقي يجب بناؤه، ليس في مواجهة الدولة الفارسية الكبرى، بل أيضاً في مواجهة جهات في المنظومة العربية - الفلسطينية، التي تهدد بإطاحة الاستقرار الإقليمي.
- إقامة "جدار حديدي" يفرض على المستوى الداخلي تقاطعاً امتنعت إسرائيل من القيام به في الأعوام الأخيرة: دفع المنظومة العربية - الفلسطينية إلى أبواب شرق أوسط "اتفاقات أبراهام" من أجل خلق حوافز إيجابية، وفي المقابل، الاستعداد لاستخدام قوة أمنية قاسية ضد مَن يخرب النظام الجديد. في العقد الأخير، عززت إسرائيل فقط الحوافز الإيجابية وتخلّت بالكامل تقريباً عن العقوبات. وبعملها هذا، لم تساهم في تآكل صورة الردع فحسب، بل أظهرت ضعفاً، وسمحت أيضاً بنمو عناصر معارِضة للنظام نفسه، الذي يعتمد مستقبل الدولة اليهودية وازدهارها على استمرار وجوده.