الغرب في مواجهة روسيا: أي سياسة ستنتصر وما التداعيات على إسرائيل؟
تاريخ المقال
الغزو الروسي لأوكرانيا والعقوبات الغربية يعبران عن وجهتي نظر متعارضتين: الأولى تؤيد استخدام القوة العسكرية لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، والثانية تفضل استخدام رافعات سياسية واقتصادية لتغيير منطق عمل الخصم.
منطق العمل الروسي: السحق والاستيلاء
- أثبت الرئيس الروسي طوال سنوات حكمه استعداده استخدام القوة من أجل تحصين سلطته في الداخل، والدفع قدماً برؤيته بشأن تعزيز قوة روسيا في الساحة الدولية وفي المنطقة التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي سابقاً. وفي رأيه، فإن أسلوب العمل هذا أثبت نفسه أكثر من مرة، إذ نجح داخلياً في سحق الأوساط المعارضة له وإزاحة أي تهديد لسلطته مهما يكن صغيراً (مثال لذلك تسميم ألكسي نافالني واعتقاله)، ونجح خارجياً في السيطرة على أقاليم في جورجيا وفي جزيرة القرم، وأنقذ نظام بشار الأسد، ورسّخ مكانته في كازاخستان.
- في الواقع بعد أن خابت آمال بوتين بتنفيذ عملية عسكرية سريعة تؤدي إلى تغيير الحكم في أوكرانيا خلال أيام معدودة، انتقل إلى أسلوب عمل مغاير تماماً يستند إلى إدارة عملية عسكرية واسعة النطاق ودموية للسيطرة على مدن وأقاليم استراتيجية في الدولة، لإجبار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على الخضوع لمطالبه ومغادرة البلاد، الأمر الذي يسمح له بتعيين حكومة تناسبه. ولهذا يعمل الجيش الروسي على سحق الجيش الأوكراني والسكان المدنيين المحليين، بالتدريج، من خلال تكثيف قوة النار المستخدمة ضد أهداف مدنية، فضلاً عن التقدم البطيء والحذر نحو العاصمة كييف، واستكمال احتلال مدن أساسية في جنوب أوكرانيا.
أسلوب عمل الغرب: عقوبات واستنزاف والامتناع
من الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة
- في المقابل هناك وجهة النظر الغربية التي تفضل الامتناع، بأي ثمن، من الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة، وتعتقد أن في الإمكان إخضاع بوتين بواسطة العقوبات، وتعزيز قدرة الجيش الأوكراني على المقاومة لاستنزاف الجيش الروسي الذي يعاني جراء صعوبات لوجستية كثيرة. وكان أهم قرار اتخذه الرئيس بايدن عشية الغزو الروسي هو الامتناع من إرسال قوات عسكرية أميركية إلى أوكرانيا. واليوم أيضاً، وبعد ثلاثة أسابيع على نشوب الحرب، وبعد وضوح حجم الكارثة الإنسانية (أكثر من ثلاثة ملايين لاجىء)، ما زال بايدن متمسكاً بموقفه ويرفض طلبات زيلينسكي المتكررة بإعلان مناطق حظر للطيران في أوكرانيا.
- عملياً، انتهج بايدن عقيدة عزل المعركة العسكرية الدائرة بين الجيشين الروسي والأوكراني ضمن حدود الدولة الأوكرانية ومنع انزلاقها إلى أماكن أُخرى، لأن هذا التطور ينطوي في نظره على احتمال إشعال مواجهة عسكرية مباشرة بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية قد تتدهور إلى معركة واسعة النطاق وحرب عالمية ثالثة.
- في هذا الإطار ركّز بايدن وزعماء الغرب جهدهم على الدفع قدماً بعقوبات غير مسبوقة في حجمها ضد روسيا، تقوم في أساسها على عزل روسيا دولياً واقتصادياً وثقافياً إلى جانب ضرب عناصر القوة في الدولة. والمقصود فرض عقوبات اقتصادية قاسية من جانب دول ومؤسسات دولية، بالإضافة إلى مغادرة العديد من الشركات الاقتصاد الروسي، بهدف إرجاع هذا الاقتصاد سنوات إلى الوراء، إلى فترة التقشف في المرحلة السوفياتية. في الوقت عينه، فُرضت عقوبات على شخصيات في القيادة الحاكمة، بينهم بوتين شخصياً، مع التركيز على قائمة طويلة من الأوليغارشيا بهدف المس بأموالهم وحرية تنقلهم. كذلك أعلنت دول كثيرة إغلاق مجالها الجوي في وجه الطائرات الروسية، الأمر الذي يقلص بصورة كبيرة قدرة انتقال البضائع والأشخاص من روسيا وإليها. وفي الواقع تحولت روسيا إلى دولة فُرض عليها أكبر قدر من العقوبات (أكثر من 5000 عقوبة، أي أكثر من العقوبات المفروضة على إيران وسورية وكوريا الشمالية وفنزويلا).
- كذلك تجندت دول في غرب أوروبا وشرقها في عملية واسعة النطاق لتزويد أوكرانيا بالسلاح. وفي هذا السياق، نقلت الولايات المتحدة وعشرون دولة أوروبية أسلحة صاروخية إلى أوكرانيا تقدر بمئات ملايين الدولارات، بينها صواريخ مضادة للدبابات، وقذائف، وسلاح خفيف، وغيره. كما وافق الكونغرس الأميركي على تقديم مساعدة طارئة لأوكرانيا تقدر بـ13.6 مليار دولار، نحو 6.5 مليار منها مخصصة لتمويل النفقات الأمنية للولايات المتحدة في المعركة. ولم يكن من قبيل العبث اعتبار روسيا قوافل نقل السلاح الصاروخي هدفاً مشروعاً لها بسبب تأثير هذا السلاح في ساحة القتال، وقدرته على إلحاق الأذى بالجيش الروسي.
- ويقدّر زعماء الغرب أن صعوبة حسم المعركة، وغرق الجيش الروسي في الوحل الأوكراني، بالإضافة إلى تحول روسيا إلى دولة معزولة ومنبوذة، كلها أمور ستجعل بوتين يدرك عدم جدوى استمرار القتال وثمنه الباهظ، أو قد تؤدي إلى سيناريو ضئيل الحدوث، وهو نشوب ثورة داخلية تطيح به، ومن هنا التعامل الخاص مع الأوليغارشيا.
تداعيات وتوصيات لإسرائيل
- مع تواصل القتال يبدي الطرفان إصراراً أكبر على تصعيد خطواتهما في محاولة للوصول إلى حسم. لكن ما يجري في الواقع هو حلقة مفرغة، ذلك بأن كل طرف يصعّد خطواته رداً على عمليات الطرف الثاني. والخطر الذي ينطوي عليه هذا السلوك هو سوء تقدير الرد المتوقع من جانب أحد الطرفين عندما يشعر أنه محشور في الزاوية، وأن عليه أن يقوم بخطوات قصوى لإنقاذ نفسه. كما أن حقيقة طرح أطراف أميركية احتمال استخدام بوتين السلاح الكيميائي تؤكد مدى حساسية الوضع.
- حتى الآن لا يظهر تغيير جوهري في الأهداف الاستراتيجية لبوتين، لذا قد يواصل في الأيام المقبلة عملية السحق والاستنزاف من خلال إظهار استعداده لتكثيف قوة النار الموجهة نحو المراكز السكانية، فضلاً عن توسيع منهجي لأهداف الهجمات أيضاً نحو غرب أوكرانيا في محاولة لتحقيق إنجازات ملموسة على الأرض (سيطرة واسعة على الجنوب ومحاصرة كييف بصورة كاملة) بهدف زيادة مخاوف الغرب من توسع المعركة، وتجسيد الثمن الاقتصادي والبشري بصورة تخدم في نظره الوصول إلى المفاوضات مستقبلاً مع أوراق قوية في يده.
- إن من شأن استمرار القتال وتعاظم حجم الكارثة الإنسانية تعميق الضغوط من جانب المجتمع الدولي على إسرائيل لانتهاج سياسة أكثر وضوحاً، والانخراط في الجهود المبذولة ضد روسيا. حتى الآن نجحت إسرائيل في التصرف بحذر ووازنت بين الحلف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة والاعتبارات الأخلاقية، وبين المصالح الأمنية المهمة إزاء روسيا والمحافظة على التنسيق الأمني معها. وتعبّر المحادثات التي يجريها رئيس الحكومة بينت مع بوتين وزيلينسكي عملياً عن نجاح وجهة النظر الإسرائيلية، وعلى إسرائيل أن تبذل كل ما في وسعها للاستمرار في هذه السياسة.
- إن القدرة الإسرائيلية على الاستمرار في المناورة بين روسيا والغرب من دون دفع أثمان كبيرة تتأثر أيضاً بسلوك إسرائيل فيما يتعلق بمسألة اللاجئين. فحتى الآن أثارت السياسة الإسرائيلية إزاء هذه المسألة ضجة كبيرة، وتسببت بضرر على صعيد الوعي على الساحة الدولية، وأيضاً إزاء الحكومة الأوكرانية. فإلى جانب الواجب الأخلاقي الذي يحتم على إسرائيل، باعتبارها دولة قومية للشعب اليهودي، تقديم كل المساعدة الإنسانية للاجئين، فإن عليها أيضاً، ولاعتبارات استراتيجية لها علافة بالوعي، أن تنتهج فوراً سياسة أرحب بشأن كل ما له علاقة بدخول اللاجئين الأوكرانيين، والاهتمام بهم بصورة لائقة ضمن الأراضي الإسرائيلية من دون فرض قيود على دخولهم ما دامت الحرب مستمرة في أوكرانيا.
- تتيح عودة الحرب الباردة وانعكاساتها على سلوك الدول الكبرى في الشرق الأوسط فرصاً لإسرائيل كي تؤكد أهميتها للولايات المتحدة وبصورة تساعد على تحسين التعاون الأمني، وتساهم في ضمان تفوقها العسكري النوعي (في الأساس في مواجهة سيناريو سباق إقليمي على التسلح). في المقابل، يتعين على إسرائيل أن تدرك أنه في الواقع الحالي ستكون الولايات المتحدة أقل تسامحاً مع العمليات الإسرائيلية التي يمكن أن تنتهك الاستقرار الإقليمي، وتفرض عليها تحويل الانتباه والموارد الموجهة نحو أوكرانيا.