"فتح" وانتخابات المجلس التشريعي - الانقسام وتداعياته
تاريخ المقال
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي
–
مباط عال
معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛ وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.
-
- يتضح أن قرار الرئيس الفلسطيني أبو مازن إجراء انتخابات رهان خطر. هو افترض أن الضربات التي لحقت بالفلسطينيين في السنوات الأخيرة من جانب إدارة ترامب، والتهديد الإسرائيلي بالضم، وتطبيع العلاقات بين إسرائيل ودول عربية، هذا كله سيوحد أجزاء الشعب الفلسطيني ويؤجل الأزمات الداخلية في حركته إلى ما بعد الانتخابات. وحاول زعماء "فتح" و"حماس" التشجيع على الترشح في قوائم مشتركة للانتخابات. لقد تأثر قرار أبو مازن بشأن إجراء انتخابات أيضاً بالضغط الذي مارسه عليه الاتحاد الأوروبي والدول المانحة وتبدُّل الإدارة في الولايات المتحدة- واعتقد أن هذه الانتخابات ستقربه من إدارة بايدن، وستساعده على إعادة العلاقات بها إلى الفترة التي سبقت انتخاب ترامب.
- لكن فكرة الترشح في قوائم مشتركة واجهت انتقادات حادة من الحركتين وأُزيلت عن جدول الأعمال. لكن بينما نجحت "حماس" في توحيد صفوفها والوقوف جسماً واحداً أمام جمهور الناخبين، بعد أزمة قصيرة حدثت في الانتخابات الداخلية لرئيس الحركة في القطاع، ظهرت التصدعات الداخلية في "فتح". أبو مازن، الذي يشكل منذ 7 سنوات هدفاً لانتقادات وسط جمهور الشارع وفي صفوف التنظيم، اتخذ سلسلة خطوات عززت كثيراً سيطرته في السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية. هذه الخطوات ألحقت الضرر الشديد بمكانة شخصيات مركزية في الحركة، بينها مقربون من مروان البرغوثي الذي يُعتبر رمزاً، ومن زوجته فدوى ونبيل عمرو الذي كان مستشاره. وبسبب مخاوف أبو مازن المتزايدة ومحيطه المقرب من عدم الولاء، فإن شؤون السلطة تُدار بواسطة حفنة حصرية ومغلقة من المخلصين بصورة تثير عداء نشطاء داخل الحركة ووسط الجمهور. أبو مازن نفسه يصوَّر كما لو أنه نسي المصلحة الوطنية، ويركز على بقائه، ويتصرف كالحاكم المطلق الذي يحدد جدول الأعمال الفلسطيني.
- سياسة أبو مازن، التي امتازت بالحرص على التنسيق الأمني مع إسرائيل والسعي لمفاوضات سياسية من خلال مواصلة النضال الدبلوماسي والقانوني والدولي، والتي هدفت إلى تجنيد التأييد للموضوع الفلسطيني وزيادة الضغط على إسرائيل، جعلته يختلف عن ياسر عرفات، الأمر الذي منحه تأييداً كبيراً في انتخابات 2005 الرئاسية. وترافقت رئاسته في البداية مع تفاؤل كبير، في ضوء سلوكه البنّاء إزاء إسرائيل والجهد الذي وظفته الحكومات الفلسطينية في هذه السنوات فيما اعتُبر خطوات لبناء الدولة (تشكيل مؤسسات، القيام بإصلاحات في الأجهزة الأمنية والمنظومة القضائية، وإقامة بنى تحتية للرفاه والاقتصاد) وفرت ولا تزال توفر فرص عمل للكثيرين. لكن هذه السياسة فشلت في تحقيق أهدافها.
- بالإضافة إلى ذلك امتاز سلوك السلطة الفلسطينية في السنوات الأخيرة بفساد متزايد. على هذه الخلفية ازدادت الدعوات إلى التغيير واستبدال السلطة بدلاً من المطالبة بتعديلات وإصلاحات كما في الماضي. هذه المطالبات سُمعت من خصوم أبو مازن- ناصر القدوة، ومن مؤيدي محمد دحلان وكثيرين آخرين.
- في الوقت عينه لا يزال منتقدو أبو مازن في صفوف "فتح" يرون في الحركة بيتهم السياسي أيضاً بعد تشكيل قائمة مستقلة، وحتى بعد إبعاد مجموعة دحلان. هذه الظاهرة تعكس السمة الخاصة في "فتح"، بخلاف باقي الفصائل الفلسطينية. في الواقع "فتح" هي حركة وطنية وضعت فلسطين والفلسطينيين في رأس اهتماماتها، بخلاف التنظيمات الفلسطينية الأُخرى التي تبنت أيديولوجيا عالمية. وهكذا تحولت إلى أكبر تنظيم بين التنظيمات الفلسطينية، وضمت شخصيات لها آراء متعددة، وأحياناً متعارضة، ونجحت في المحافظة عليها وأدارتها بواسطة حوار داخلي، ونجت من خلافات وتصدعات كثيرة منذ قيامها في سنة 1958. حتى ظهور "حماس" في سنة 1987 لم يوضع خصم حقيقي في وجه "فتح". فوز "حماس" في انتخابات 2006 في المجلس التشريعي تحقق في الأساس بواسطة نظام الانتخابات المناطقي المستخدَم حينئذ، لا بسبب عدد أكبر من الأصوات.
- مع ذلك، قائمة مستقلة من البرغوثي والقدوة تزعزع الحركة. استقالة البرغوثي تضيف نظرة جديدة مقارنة بالاستعدادات لانتخابات 2006، يومها لم تكن القوائم المستقلة التي برزت تضم شخصيات مركزية، مثل البرغوثي ودحلان والقدوة. البرغوثي، الذي يدرك هذه الإشكالية، يدّعي أنه لن يترك "فتح"، ويعتقد أن إلغاء نظام الانتخابات المناطقي سيساعد "فتح" على الحصول على أصوات المقترعين كلهم، والقوائم المستقلة لن تتسبب بخسارة قوتها. من جهته قال القدوة إن كل الذين ينتمون إلى التيار الوطني لديهم مشكلة مع الإسلام السياسي، ومعنى ذلك أنهم سيمتنعون من اندماجات برلمانية مع ممثلي "حماس" بعد الانتخابات، وسيكون من الممكن توحيد قوائم "فتح" من جديد في كتلة واحدة. لكن محاولات البرغوثي والقدوة التقليل من خطورة تشكيل قائمة مستقلة لا يقلل من عمق الأزمة التاريخية التي تواجهها "فتح" مع إعلان الانتخابات.
- الآن، "فتح" ليست بحاجة فقط إلى زعامة جديدة، بل إلى سياسة جديدة لزيادة قوة جذبها في أوساط خريجي الجامعات الشباب العاطلين من العمل، الذين لا يرون أفقاً شخصياً ووطنياً. لم تعد "فتح" حركة تركز على التحرر من الاحتلال فقط، بل كياناً يتحمل مسؤوليات تشبه دولة، وعليها الحرص على تأمين حاجات جمهور كبير. ينطبق هذا أيضاً على "حماس" التي تدرك اليوم المسؤولية المدنية الملقاة على عاتقها. هذه التطورات هي جزء من النضج السياسي الفلسطيني، والانتخابات المنوي إجراؤها في الأشهر المقبلة هي جزء منها.
- مع ذلك، من الصعب الحديث عن خسارة الهيمنة ونهاية "فتح". فالحركة لا تزال البيت السياسي لكثيرين. ("حماس"، على الرغم من زيادة قوتها، إلا إنها تواجه هي أيضاً انخفاضاً في تأييدها، في الأساس في قطاع غزة، وتجد صعوبة في إقناع الناس بإنجازات المقاومة المسلحة، وتبحث عن وسائل نضال غير مسلح ضد إسرائيل (تعاني جرّاء شكوك حيالها كحركة الإخوان المسلمين في العالم العربي). وفي الواقع ضعفت لهجة النقد في أوساط أبو مازن ضد البرغوثي والقدوة بعد تقديم قائمتهما إلى لجنة الانتخابات. بخلاف القدوة الذي أٌبعد عن الحركة، البرغوثي لم يُبعَد عن صفوفها. إثنان من أصدقائهما المقربين لا يظهران في قائمتهما المستقلة: الأول قدورة فارس الذي يظهر في قائمة "فتح" الرسمية، والثاني حاتم عبد القادر من القدس الشرقية الذي أشار في الأسابيع الأخيرة باسم البرغوثي إلى أنه لا ينوي الترشح في قائمة مستقلة للمجلس التشريعي، بل للرئاسة.
- على هذه الخلفية، يبدو أن فرص إلغاء الانتخابات أو تأجيل إجرائها كما كان مقدّراً قبل تقديم قوائم المرشحين لم يعد وارداً بعدها. هناك شعور بمناخ الانتخابات في الشارع، والجمهور الذي عبّر بصورة كبيرة عن رغبته في المشاركة فيها (وربما تأثر بالانتخابات المتتالية في إسرائيل) يرفع من مستوى توقعاته بحدوث التجديد بعدها. قرار إلغاء الانتخابات أو تأجيلها سيجعل أبو مازن و"فتح" موضوع سخرية في نظر خصومهما السياسيين ووسط جمهور الشارع، وسيظهرهما ضعيفين يخافان من نتائجها.
- إسرائيل التي يأمل بعض الفلسطينيين بأن تمنع إجراء الانتخابات، لا تستطيع أن تأخذ على عاتقها مسؤولية عدم إجرائها. صحيح أنها تقدر على منع مشاركة سكان القدس الشرقية فيها، بحجة أن هذه الانتخابات قُرِّرت بمرسوم رئاسي بخلاف اتفاقيات أوسلو كانتخابات لمؤسسات دولة فلسطين، وليس لمؤسسات السلطة الفلسطينية - كما حُدِّد في الترتيبات الموقتة في سنة 2006. لكن خطوة كهذه يمكن أن تبدو تدخلاً هدفه منع عملية ديمقراطية- ولقد رفض أبو مازن رفضاً قاطعاً اقتراح رؤساء المنظومة الأمنية الإسرائيلية تأجيل الانتخابات بسبب الخطر الذي تنطوي عليه. هو غاضب من الانتهاكات الكثيرة التي رآها في السنوات الأخيرة في سلوك إسرائيل في المنطقة ج، وفي تدفُّق المال القطري إلى القطاع. بالإضافة إلى ذلك لم يعد أبو مازن يثق بقدرة أو بإرادة الإدارات الأميركية، بما فيها إدارة بايدن، على الضغط على حكومات إسرائيل للتوقف عن تسجيل حقائق على الأرض في المنطقة ج، والتي تهدد بإغلاق الباب على حل الدولتين.
- فوز "حماس" في الانتخابات وربما زيادة قوتها، وكذلك زعزعة استقرار السلطة الفلسطينية والمس بقدرتها على العمل، يتعارض مع المصالح الإسرائيلية. سواء كانت الحكومة الحالية تفضل الستاتيكو على المضي قدماً في عملية سياسية مع الفلسطينيين، أو حكومة جديدة تفضل استئناف العملية؛ بالنسبة إلى إسرائيل، هي تفضل سلطة فلسطينية مستقرة، قوية وفاعلة، يقودها المعسكر الوطني الفلسطيني، على ازدياد قوة "حماس". من ناحية أُخرى لا تقدر إسرائيل على التدخل في الانتخابات أو إلغائها.
- لكن من أجل تقليص حدوث مسّ محتمَل بمصالحها تستطيع إسرائيل، بالتنسيق مع الولايات المتحدة ودول أوروبية، والأردن، ومصر، ودول الخليح، التأثير في الاتجاه الذي سيقود أبو مازن السفينة إليه. والراهن أن إمكان توحيد قوائم المستقلين مع قائمة "فتح" لم يعد وارداً، لكن في 29 نيسان/أبريل لا يزال هناك إمكان لانسحاب قائمة البرغوثي من القوائم المتنافسة إذا جرى النظر بإيجابية إلى مطالبه بالمحافظة على مواقع قوته وتأثيره في "فتح". في المقابل، على إسرائيل تعبئة كل الأطراف للدفع قدماً بالعملية السياسية التي تشكل جزءاً من سياستها الخارجية في الولايات المتحدة، وفي الساحتين العربية والدولية، كي توضح لأبو مازن وللجمهور الفلسطيني التداعيات الخطرة لفوز "حماس" في الانتخابات على الحياة اليومية لسكان الضفة الغربية، بما في ذلك وقف التنسيق الأمني بين إسرائيل وأجهزة السلطة الفلسطينية وفرض قيود على حرية التنقل في الضفة، وأيضاً تآكل واسع النطاق للشرعية الدولية والعربية للسلطة الفلسطينية.
الكلمات المفتاحية