•كانت قمة بوتين - ترامب بعد ظهر يوم أمس في هلسنكي إحدى الحوادث الأكثر غرابة في الدبلوماسية الدولية منذ نهاية الحرب الباردة. بدلاً من المطالبة بتوضيحات بشأن تدخل الاستخبارات الروسية، المؤكد على ما يبدو، في الانتخابات في الولايات المتحدة، هاجم الرئيس الأميركي موظفي إدارته، ووكالة الاستخبارات الأميركية، والحزب الديمقراطي، وجميع الأميركيين الذين ادّعوا أن الروس ساعدوا في انتخابه. في الوقت عينه، أعلن ترامب أنه يكفيه تماماً تكذيب الرئيس بوتين وأعضاء إدارته بأنهم لم يتدخلوا في الانتخابات الرئاسية الأميركية.
•بالتأكيد، سيشكل هذا معلماً مخجلاً في تاريخ الإدارات الأميركية، ليس بسبب مضمون كلام ترامب، بل بسبب الظرف الذي قيل فيه في أثناء لقاء قمة مع رئيس روسيا، الذي على ما يبدو، هو المسؤول عن محاولة التدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي. لقد كان من المخجل رؤية الرئيس الأميركي يهاجم الأشخاص الذي يعملون معه، أو مواطنين مخلصين لبلده، لكنهم ليسوا من حزبه. لقد كان هذا تصرف رئيس لا يحترم نفسه ولا الإدارة التي يترأسها.
•لكن ما يهم مواطني إسرائيل هو بصورة أساسية تأثير هذه القمة في الأحداث في سورية، وخصوصاً في التمركز الإيراني في سورية وإبعاد خطر الحرب في الشمال.
•في هذا السياق، يبدو أن القمة لم تؤد إلى أي جديد. الوضع حالياً هو تماماً بحسب ما جرى الاتفاق عليه بين بوتين وبنيامين نتنياهو في اللقاء الأخير الذي جرى بينهما في الأسبوع الماضي: سيسمح لبشار الأسد ببسط سلطته في جنوب سورية وفي الجولان السوري، لكن محاولته إلغاء اتفاقات وقف النار العائدة إلى سنة 1974، واتفاقات نزع السلاح وتخفيف عدد القوات التي وُقِّعت بعدها فشلت. لقد قال بوتين بوضوح أيضاً في مؤتمر صحافي إن روسيا تطلب من الأسد الانصياع لكل بنود اتفاق فصل القوات المبرم بعد حرب يوم الغفران [حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973] والذي لا يزال ساري المفعول حتى هذا اليوم.
•لقد امتنع بوتين من الحديث بوضوح عن منع التمركز الإيراني في هضبة الجولان وأيضاً عن إخراج الإيرانيين من سورية، وصرح في المؤتمر الصحافي بعد القمة أن "ترامب تحدث طوال الوقت عن أمن إسرائيل"، لكنه لم يقل كلمة واحدة بشأن ما يفكر فيه هو نفسه بشأن مطالب إسرائيل في موضوع الإيرانيين في سورية وهضبة الجولان. وهذا يعني أنه لم يتحقق أي تقدم في الموضوع باستثناء ما اتفق عليه نتنياهو مع بوتين.
•أيضاً في حديث في الكرملين خلال المونديال قال بوتين إنه يؤيد مطالبة إسرائيل بأن تحترم سورية اتفاقات فصل القوات في الجولان. وقال أيضاً إنه سيقنع الأسد والإيرانيين بالامتناع من نشر ميليشيات إيرانية وميليشيات تابعة لحزب الله بالقرب من حدود إسرائيل في الجولان. واقترح بوتين إبعاد الإيرانيين والتنظيمات الدائرة في فلكهم بضعة عشرات الكيلومترات شرقي خط الحدود لكن لم يجرِ التوصل إلى اتفاق بينه وبين نتنياهو في هذا الموضوع أيضاً، إذ إن نتنياهو لم يوافق حتى على إبعاد الإيرانيين 80 كيلومتراً عن الحدود، والسبب بسيط: تطالب إسرائيل بخروج الإيرانيين والتنظيمات الدائرة في فلكها، الميليشيات الشيعية العراقية والأفغانية والباكستانية وأيضاً حزب الله من سورية بصورة كاملة، وقد أوضح بوتين لنتنياهو أن هذا أمر مستحيل ولا يستطيع فرضه على إيران وسورية.
•يبدو أن هذا هو الرد الذي حصل عليه ترامب: ومما قاله خلال فترة الأسئلة في المؤتمر الصحافي، يبدو أنه أثار نقطة إضافية في اجتماع القمة مع بوتين: ذكّر الرئيس الأميركي نظيره الروسي بأن الميليشيات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة، والتي تعمل على الأرض مع قوات خاصة أميركية هي التي قضت عملياً على سيطرة داعش على الحدود مع العراق في منطقة نهر الفرات.
•قال ترامب لبوتين: يستغل الإيرانيون واقع أننا طردنا داعش من المعابر الاستراتيجية بين سورية والعراق من أجل فتح معبر برّي من طهران مروراً بالعراق إلى دمشق وسهل البقاع في لبنان. وعلى ما يبدو قال ترامب: نحن لن نسمح بذلك، وقد لمّح إلى ذلك في المؤتمر الصحافي.
•لدى الرئيس الأميركي القدرة على تنفيذ تهديداته لأن القوات الكردية الموالية للولايات المتحدة والمدعومة منها مباشرة تسيطر على نحو ربع أراضي سورية، وعلى كل المنطقة الواقعة شرقي نهر الفرات. بالإضافة إلى ذلك يوجد للأميركيين قاعدة جوية وبرّية كبيرة بالقرب من معبر التنف، ويستطيعون انطلاقاً منها استخدام قوات جوية وقوات خاصة ومساعدة الأكراد في سورية.
•يريد بوتين ومن يحيا في حمايته بشار الأسد أن يغلق الأميركيون هذه القاعدة التي تزعجهم كثيراً. لم يظهر أي مؤشر في المؤتمر الصحافي إلى أن ترامب وافق على هذا الطلب. صحيح أنه غرّد في الماضي أنه يريد إخراج القوات الأميركية من سورية، لكن في هذه الأثناء، يبدو أنه تنازل عن ذلك بتأثير من البنتاغون ومستشار الأمن القومي جون بولتون. وهذا يعطيه أداة للضغط على الروس أيضاً في قطاعات أُخرى، مثل أوكرانيا واتفاقات نزع السلاح النووي بين القوتين العظميين التي يجري تجديدها حالياً.
•ثمة موضوع آخر طُرح في المحادثات يتعلق بإسرائيل هو الاتفاق النووي بين الدول العظمى وبين إيران. هنا أيضاً ظلت الولايات المتحدة وروسيا متمسكتين بمواقفهما الأساسية. لقد خرج ترامب من الاتفاق وقريباً سيفرض عقوبات على الإيرانيين، بينما تؤيد روسيا الاستمرار في تطبيق الاتفاق.
•باختصار، في كل ما له علاقة بإسرائيل ترامب تحدث كثيراً وبوتين تحدث قليلاً، وباستثناء الموافقة على مواصلة التنسيق العسكري بين الجنود الأميركيين والروس الموجودين حالياً في سورية لمنع وقوع احتكاك غير مرغوب فيه بينهما، لم يوافق الزعيمان على أي شيء جديد. ليس هناك بشرى لإسرائيل من اجتماع ترامب- بوتين وأيضاً ليس هناك بشرى للاجئين السوريين الذين يزداد وضعهم الانساني تفاقماً بعد مرور سبع سنوات على الحرب.
•إذن ماذا حققت هذه القمة؟ الإنجاز الأساسي أن الزعيمين قررا تحسين الأجواء بينهما، وهذا على الأقل، يخفف من التوترات في الساحة الدولية، وقد يسمح مستقبلاً بالتعاون بينهما هنا وهناك. أن يتحدثا عن مصالحة أفضل من شحذ سيوف نووية.
•نصل هنا إلى الاتفاق الثاني الذي جرى التوصل إليه في هذه القمة: الاتفاق مبدئياً على تجديد اتفاقات نزع السلاح النووي التي ستنتهي صلاحيتها في وقت قريب وتوقيعها من جديد. في خطابه إلى الأمة في بداية السنة عرض بوتين أسلحة جديدة معظمها قادر على حمل رؤوس حربية نووية، وبحسب كلامه ليس لدى الغرب وسائل للدفاع عن نفسه إزاءها. لهذا يجري الحديث كثيراً في العالم الغربي وفي الولايات المتحدة عن سباق على التسلح النووي وأيضاً التقليدي الذي تجدد مؤخراً مثلما كان خلال فترة الحرب الباردة.
•يبدو أن محاولة جدية بُذلت في القمة بين ترامب وبوتين للتوصل إلى تفاهمات مبدئية أيضاً في هذا الموضوع المهم، لكن سنحتاج إلى الانتظار كي تتضح التفاصيل، هل جرى التوصل إلى مثل هذه التفاهمات فعلاً؟
•في الخلاصة يمكن القول إنه باستثناء تبديد التوترات والموقف غير المنضبط للرئيس الأميركي وعدم احترامه لنفسه، لم تحمل هذه القمة الأولى بين زعيمي دولتين عظميين تملكان معاً 90% من الترسانة النووية العالمية بشائر كثيرة.