•مرت أربع سنوات منذ عملية "الجرف الصامد" العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، وبات صناع القرار يقفون الآن على مفترق الحسم: هل ننتظر تسوية إنسانية أم نقدم على خطوة هجومية قد تعود إسرائيل من خلالها إلى السيطرة على مليوني غزّي؟. الجيش أعد الخطط، لكنه معني بالتسوية. والمستوى السياسي يواصل التعويل على مصر ويُجري مداولات نظرية فقط، وهو ما قد يقود إلى حرب أُخرى في قطاع غزة.
•تقول تقديرات الجيش الإسرائيلي إن المواجهة في حلبة قطاع غزة قد وصلت إلى مفترق طرق. ويعتقد قادة كبار في هيئة الأركان العامة بأن سنوات الهدوء الأربع، التي منحتنا إياها عملية "الجرف الصامد" [العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بين 8 تموز/يوليو و26 آب/أغسطس 2014]، قد بلغت نهايتها الآن، وبأننا نقف الآن عند مفترق طرق يتوجب على دولة إسرائيل أن تقرر ما إذا كانت وجهتها نحو التسوية في غزة أم نحو الحسم.
•إن "التسوية" التي يتحدث عنها قادة الجيش الإسرائيلي ليست إنسانية ـ ترميمية فقط، بل "سلة" فيها، أيضاً، وقف إطلاق نار ثابت وطويل المدى وقيود على التسلح والتعاظم العسكري لدى التنظيمات المسلحة في القطاع. أمّا مصطلح "الحسم" فيعني، في عُرف الأجهزة الأمنية، جولة عسكرية لن تبقى حركة "حماس" والجهاد الإسلامي أيضاً بعدها كما هما عليه الآن. ستحتاجان إلى سنوات طويلة كي تنهضا منها، إن كان هذا ممكناً أصلاً.
•سواء أكان الأمر بواسـطة "تسـوية" سياسية - دبلوماسية أم بواسطة "حسم" عسكري - يبقى الهدف إرغام "حماس" على أن تختار، بصورة واضحة ولفترة طويلة من الزمن، ما إذا كانت تنظيم حكم مدني يعمل من أجل رفاهية سكان قطاع غزة أو "حركة مقاومة" ناشطة، أي ميليشيا إرهابية إسلامية تدير حرب استنزاف بطرق إبداعية ومتنوعة ضد دولة إسرائيل وسكانها بغية طردنا من "أرض الإسلام في فلسطين".
•لا يدور الحديث بعد، في هذه المرحلة، حول إجراء عسكري يؤدي إلى إقصاء حركة "حماس" عن السلطة في قطاع غزة. فطالما لم يظهر بديل سلطوي فاعل للسيطرة على قطاع غزة، ستحاول إسرائيل تلافي نشوء حالة من الفوضى السلطوية الشاملة في القطاع، ومثل هذه الحالة ستتسلل، بالضرورة، إلى داخل حدودنا وستضطر دولة إسرائيل، في نهاية المطاف، إلى العودة والسيطرة على مليوني غزّي وتحمُّل الأعباء الاقتصادية والعسكرية والسياسية الثقيلة المترتبة على ذلك. لكن الجيش بدأ التفكير، أيضاً، في بدائل لسلطة "حماس". وهذا، طبعاً، حين يتضح بصورة نهائية أن هذا التنظيم غير مستعد للموافقة على "التسوية"، قبل جولة عسكرية تؤدي إلى القضاء عليه وعلى التنظيمات الغزية الأُخرى، حليفاته.
•يسود في قيادة المنطقة العسكرية الجنوبية شعور بأن الجيش سيكون قادراً، هذه المرة، على إحداث تغيير جوهري، إذا طُلب منه الخروج إلى معركة كبيرة في قطاع غزة. خلال السنوات التي مرت منذ "الجرف الصامد"، خصّص رئيس هيئة أركان الجيش غادي أيزنكوت ووزيرا الدفاع موشيه يعلون وأفيغدور ليبرمان موارد مادية وتفكيرية كبيرة وعديدة لمواجهة تشكيلة من التحديات الأمنية والإدراكية التي تضعها المشكلة الغزية أمام دولة إسرائيل. لكن الجهة التي خططت وبادرت ونفذت هي قيادة المنطقة العسكرية الجنوبية وقائداها في السنوات الأخيرة: اللواءان سامي تورجمان وإيال زامير.
•أصلح تورجمان، الذي قاد قوات الجيش الإسرائيلي التي حاربت خلال "الجرف الصامد" في قطاع غزة، بسرعة كبيرة وبنجاعة عالية، جميع النواقص والقصورات التي تكشفت في جاهزية المنطقة الجنوبية بصورة خاصة، والجيش بصورة عامة، لتلك العملية، وطبّق الاستنتاجات العسكرية الفورية التي تم استخلاصها خلالها. وكانت مهمة زامير مواجهة التنظيمات المسلحة في غزة وتنظيم "داعش" في سيناء إلى جانب الاستعداد، في الوقت نفسه، استراتيجياً وتكتياً، لمواجهات مستقبلية واسعة النطاق على هاتين الجبهتين. عملياً، ثمة جبهتان ونصف جبهة تحت مسؤولية المنطقة الجنوبية: الجبهتان الناشطتان هما غزة و"ولاية سيناء" التابعة لتنظيم "داعش". أمّا نصف الجبهة فهي الحدود مع الأردن، التي لا يلوح منها أي تهديد فوري الآن، لكن عدم الاستقرار الذي يتعرض له النظام الهاشمي إلى جانب القرب الجغرافي من سيناء يجعلان هذه الحدود قابلة للاشتعال في أي لحظة، وهو ما يجب الاستعداد له أيضاً. ولذا تقيم قيادة المنطقة الجنوبية في منطقة وادي العربة، هذه الأيام، حواجز حدودية شبيهة بتلك القائمة في منطقة الحدود مع سيناء.
•إن المهمـات الأسـاسيـة علــى الجبهـة الغــزيـة، بحسـب أهميــتـها، كـانـت ومــا تــزال: - التفكير والتخطيط وتجهيز الجيش وتدريبه كي يكون قادراً على تحقيق حسم واضح وسريع في المعركة الكبيرة المقبلة، وهو ما يرغم حركة "حماس" والتنظيمات الأُخرى على طلب وقف إطلاق النار؛ - تحييد تهديد الأنفاق الهجومية (التي تخترق الأراضي الإسرائيلية) وتوفير شعور بالأمن وحماية أكثر نجاعة لجميع السكان في منطقة "غلاف غزة"؛ - إحباط عمليات خطف جنود أو مواطنين إسرائيليين، وإحباط محاولات الغزيين اختراق الحدود الإسرائيلية والدخول إلى مناطق إسرائيلية بصورة جماهيرية، وإحباط محاولات عرقلة أعمال إقامة الجدارين العائقين، العلوي وتحت الأرضي، على طول منطقة الحدود مع قطاع غزة؛ - منع التنظيمات الإرهابية في قطاع غزة من التعاظم الجدي فيما تملكه من الأسلحة، سواء الطائرات الصغيرة المسيّرة من دون طيار أو المروحيات الرباعية القاتلة، وإحباط جهود التنظيمات الغزية الرامية إلى تحضير "مفاجآت" عسكرية سيكون لها أثر في الوعي (صورة انتصار) خلال المعركة الغزية المقبلة. (يمكن، مثلاً، اعتبار الطائرات الورقية التفجيرية "مفاجأة على مستوى الوعي"، ناجحة من وجهة النظر الغزية، على الرغم من أنها ليست وسيلة عسكرية).
•من المهم الإشارة هنا إلى أن الجيش الإسرائيلي حقق تقدماً جدياً جداً في جميع المجالات المتصلة بالجبهة الغزية، خلال السنوات الأخيرة. وكذلك في الاستعداد للمعركة الكبيرة المقبلة في قطاع غزة، ثمة تغيير جدي أيضاً، سواء في الجانب الدفاعي أو في الجانب الهجومي. "في الجانب الهجومي"، كما يقول ضابط رفيع في الجيش الإسرائيلي، فإن "المنطقة العسكرية الجنوبية مستعدة للمعركة في غزة كما لم تكن مستعدة في أي يوم مضى، إطلاقاً". سمعت تصريحات كهذه غير مرة في السابق، لكن ـ لخيبة أملنا جميعاً ـ لم تكن لها، أو لجزء كبير منها، أي تغطية على أرض الواقع أو أن التغطية كانت جزئية وغير كافية. وعلى أي حال، أنا أعرف اليوم، بثقة كبيرة، أن لدى الجيش خططاً عملانية تفصيلية أعدتها قيادة المنطقة الجنوبية وتولت تدريب القوات التي ستُناط بها مهمات تنفيذها.
•تقوم هذه الخطط على ثلاثة أرجل: الدفاع القوي عن منطقة النقب الغربي وعن الجبهة الداخلية الإسرائيلية؛ توجيه ضربة نارية شاملة بأعلى درجات القوة منذ اللحظة الأولى؛ الدخول السريع إلى داخل قطاع غزة، على نطاق واسع، سعياً لتقطيع أوصاله واحتلال أجزاء منه.
•الهدف المركزي الذي يسعى الجيش لتحقيقه في هذه الحرب، هو منع "حماس" والتنظيمات الأُخرى من تحقيق أي مكاسب معنوية واضطرارها إلى طلب وقف إطلاق النار في غضون فترة زمنية قصيرة قدر الإمكان منذ بدء القتال. وثمة هدف لا يقل أهمية هو تجنب نشوء وضع تحتاج فيه دولة إسرائيل والجيش الإسرائيلي إلى وسيط / طرف ثالث لصوغ ترتيبات وقف القتال وتحديد موعد انتهاء الحرب.
المصلحة الإسرائيلية في سيناء
•خلافاً لما جرى عند انتهاء عملية "الجرف الصامد"، بسبب الوساطة المصرية الكسولة وغير الفعالة، يريد الجيش الإسرائيلي أن يحقق في الحرب المقبلة حسماً عسكرياً واضحاً وحاداً يتيح إمكان إملاء شروط وقف القتال على حركة "حماس" والتنظيمات الفلسطينية الأًخرى. الوسيط في هذا السيناريو المستقبلي الذي يخطط له الجيش الإسرائيلي سيساعد، فقط، في التفاصيل التقنية المتصلة بتنفيذ الاتفاق وتحديد الجدول الزمني.
•يحقق الجيش أهدافه الأُخرى، المتعلقة بإحباط تعاظم حركة "حماس" العسكري وإحباط العمليات العسكرية التي تخطط لتنفيذها، بنجاح كبير من خلال النشاطات الاستخباراتية الواسعة. وفي الإمكان التقدير، بصورة مؤكدة، أن جهاز الموساد أيضاً شريك في هذا الجهد، وبصورة خاصة في مجال جمع المعلومات. نتيجة هذه الجهود، لا تفلح "حماس" أو غيرها من التنظيمات في الحصول على أسلحة نوعية وقذائف دقيقة من إيران وتضطر، بدلاً من ذلك، إلى الاكتفاء بالإنتاج المحلي الذاتي. وفي هذا السياق، يجب الإشارة إلى دور المصريين الذين نجحوا في هدم 90% من أنفاق التهريب عند الحدود بين القطاع ومصر في منطقة رفح وتعطيل هذه الأنفاق تماماً. ولهذا الغرض، هدم الجيش المصري جميع المباني الواقعة في نطاق كيلومتر واحد داخل رفح المصرية. وقد تم هذا في إطار الحرب الشرسة التي يشنها نظام الجنرال السيسي والجيش المصري ضد "ولاية سيناء" التابعة لتنظيم "داعش"، إذ ثمة مصلحة استراتيجية لمصر في قطع العلاقات بين "حماس" وداعش سيناء، بالإضافة إلى وقف تدفق الغزيين المتطرفين دينياً إلى سيناء للمحاربة في صفوف التنظيم الجهادي.
الثرثرة الإسرائيلية
•لا حاجة إلى شرح المصلحة الإسرائيلية في مساعدة مصر في حربها ضد "داعش" في سيناء. ليس في الإمكان التفصيل الزائد في الموضوع، لكن التعاون بين البلدين قد توثق وتعمق كثيراً جداً خلال السنوات الأخيرة، وبصورة خاصة فيما يتعلق بتنظيم "داعش". وتجدر الإشارة إلى أن الجيش المصري يحقق الآن نجاحات ملفتة في لجم نشاط "داعش" وتقليصه في شمالي سيناء، وهو في طريقه إلى تحقيق نجاحات إضافية أُخرى. وجودة المعلومات الاستخباراتية، التي تحصل عليها القوات المصرية العاملة في الميدان، تحسنت كثيراً جداً وأصبحت قادرة الآن، أكثر من أي وقت مضى، على "إغلاق" دوائر الهجوم الجوي بسرعة فائقة.
•غير أن رجال الجيش المصري والوسطاء المصريين أقل نجاعة ونجاحاً بكثير في المجال السياسي والسياق الغزي ـ الإسرائيلي. يلاحظ الجيش الإسرائيلي أن حركة "حماس" متلهفة الآن لتسوية تنقذها وتنقذ سكان القطاع من الضائقة الرهيبة التي تعصف بها في جميع المجالات والمستويات، وفي مقدمها، طبعاً، الضائقة التي قد تتحول إلى كارثة إنسانية. إن ضائقة "حماس" كبيرة وعميقة جداً إلى درجة أنه على الرغم من كونها مرتدعة وغير معنية بحرب هي ليست جاهزة لها عسكرياً أصلاً، إلاّ إنها قد تضطر إلى المبادرة أو الانجرار إليها، في محاولة منها للخروج من الطريق المسدود.
•لا ترغب إسرائيل، هي الأُخرى، في المبادرة إلى الحرب أو الانجرار إليها ولذا فإن التسوية السياسية، الاقتصادية ـ الإنسانية، هي المخرج المفضل لدى جميع الأطراف حالياً. لكن المصريين، الذين يمثلون الوسيط الوحيد القادر على التأثير الآن، يجرجرون أرجلهم ويتحركون ببطء شديد، تماماً كما في فترة "الجرف الصامد". فقد أوكلت إسرائيل إلى المصريين آنذاك مهمة إدارة المفاوضات بشأن وقف إطلاق النار، لكنها أدارته بطريقة فاشلة أدت إلى استمرار القتال أسابيع طويلة، أكثر مما كان ضرورياً فعلاً.
•تعود الحكومة الإسرائيلية الآن إلى ارتكاب الخطأ ذاته. فبدلاً من البحث وإيجاد وسيط ، أو مجموعة وسطاء ناجعة بين جهات ذات تأثير في المنطقة وفي الحلبة الدولية ـ جهات تتمتع أيضاً بالقدرة والإرادة للمساعدة في ترميم قطاع غزة وتأهيله ـ يجري المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر [الكابينت] مداولات نظرية وفلسفية تتناول مشاريع سيتم تحقيقها ـ إن تم أصلاً ـ بعد سنوات عديدة. لكن هذه الثرثرة لن تمنع الحرب المقبلة في غزة، التي سيسقط فيها جنود من الجيش الإسرائيلي وسيُقتل فيها آلاف الغزيين.