حان الوقت للتخلي عن سياسة الغموض النووي
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

المؤلف

•كان مواطنو إسرائيل على الدوام يجهلون الطريقة التي تدير فيها إسرائيل شؤونها النووية. وكان كل جانب من جوانب المسألة النووية تقريباً يُصنَّف سرياً، فما بالك بالسلوك الرسمي على المستوى العالي. لذا، حسناً فعل الصحافي الأميركي آدم أنطوس في "النيويوركر" مع الشعب الإسرائيلي، عندما كشف هذا الأسبوع علناً عيوب السلوك الإسرائيلي- الأميركي إزاء سلاح يعلم العالم كله أنه موجود لدى إسرائيل لكنها لا تعترف به قط.

•لقد كشف أنطوس لأول مرة طريقة تصرّف أربع إدارات أميركية، من كلينتون إلى ترامب، فيما يتعلق بالمسألة النووية الإسرائيلية. وبحسب الكاتب، في كل مرة يصل فيها رئيس جديد إلى البيت الأبيض، هناك نوع من طقس ثابت بعد اللقاء الشخصي الأول الذي يجري بينه وبين رئيس الحكومة الإسرائيلي. يطلب الأخير رسالة موقعة من الرئيس الأميركي تمنح من جديد الموافقة على التفاهمات النووية بين الدولتين. لا تسمي الرسالة الرئاسية الأمور بأسمائها قط، وتستخدم صيغة رمزية وتعابير مشفرة. كل رئيس أميركي مطلوب منه المصادقة على التزامه بهذه التفاهمات التي توجّه العلاقات النووية بين إسرائيل والولايات المتحدة. من أجل فهم هذا الطقس والرسائل الرئاسية يجب العودة إلى نقطة البداية. في سنة 1991، ألوف بن كان الصحافي الذي كشف لأول مرة في "هآرتس" حقيقة وجود تفاهمات نووية سرية منذ سنوات عديدة جرى التوصل إليها بين ريتشارد نيكسون وغولدا مئير.

•في أول زيارة قامت بها غولدا مئير كرئيسة حكومة إلى الولايات المتحدة في أيلول/سبتمبر 1969، أنشأت منظومة تفاهمات مع الرئيس نيكسون أزالت الخلافات إزاء الموضوع النووي ونظّمت الأمور بين الدولتين. وقد أنهت هذه التفاهمات عقداً من لعبة القط والفأر بينهما في الموضوع النووي. وبحسب التفاهمات تقبل الولايات المتحدة الوضع النووي الخاص لإسرائيل، وهي لن تضغط عليها للانضمام إلى الاتفاقية النوويـة، وحتى ستدافع عنها في المنتديات الدولية. في المقابل، تواصل إسرائيل تعاملها السري مع المسألة، أي تواصل التصريح بأنها لن تكون أول دولة تعرض سلاحاً نووياً في المنطقة.

•شكّل تفاهم نيكسون- مئير حلاً عملياً  لتسوية مشكلات ملموسة ألقت بظلالها على العلاقات بين الدولتين حينها. كانت الولايات المتحدة تعرف أن إسرائيل ستجتاز أو اجتازت العتبة النووية، وفهمت أن سياسة الاحتواء التي مارستها قد فشلت، واعترفت بأن عليها أن تغيّر سلوكها في ظل الواقع الجديد.

•كانت الولايات المتحدة بحاجة إلى تفاهمات كي تستطيع تزويد إسرائيل بطائرات الفانتوم، الذي بدأ في أيلول/سبتمبر في ذلك العام، بعد أن رافقت مفاوضات البيع التي جرت في السنة السابقة لذلك مواجهة قاسية بشأن الموضوع النووي. بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك حاجة إلى وقف الزيارات السنوية للمراقبين الأميركيين إلى ديمونا، بعد أن اتضح في سنة 1969 أنها مهزلة محرجة. لقد فهم الأميركيون أنهم غير قادرين على إعادة الواقع النووي الجديد الناشىء إلى الوراء، وأن الطريقة الوحيدة لتقليص الضرر هي إبقاء الموضوع سرياً.

•ولدت سياسة الغموض كحلّ مرتجل لمشكلة ضاغطة، ولم يتوقع أحد حينذاك أن هذه التسوية ستكون أساساً لسياسة الدولتين طوال سنوات. والحقيقة هي أن أحداً لم يفكر بمصطلحات بعيدة المدى. وبخلاف اتفاقات سياسية أُخرى، لم تُرفق التفاهمات الأصلية بأي وثيقة موقّعة. وكل طرف سجّل فهمه هو لما جرى الاتفاق بشأنه.

•ثم طرح السؤال، كيف تُمنح هذه التفاهمات الحساسة بُعداً استمرارياً. في البداية انتقلت شفهياً من إدارة إلى أُخرى، وفقط في سنة 1991، بعد حرب الخليج الأولى، وفي ضوء الكلام عن نزع سلاح المنطقة، طالبت إسرائيل برسالة من الرئيس، كما روى أنطوس. ومنذ سنوات يتساءل المحاورون الأميركيون إذا كانت الرسائل الرئاسية هي الوسيلة الصحيحة لمعالجة هذا الموضوع الحساس، وهل دولة إسرائيل بحاجة فعلاً إلى موافقة رئاسية متجددة، كغطاء لقوتها النووية. بحسب أنطوس وصلت المهزلة إلى ذروتها في الأيام الأولى لإدارة ترامب، عندما لم يكن لدى الأميركيين أي فكرة عمّا يريده الإسرائيليون منهم، وعن حق.

•حالياً، بعد مرور 50 عاماً على التفاهمات الأصلية، فإن كل تقنية الرسائل الرئاسية تبدو مخجلة وعفا عليها الزمن، وبقية غير مهمة من زمن لم يعد موجوداً. إن قوة إسرائيل النووية ، سواء أكانت معلنة أم لا، هي حقيقة مؤكدة الكل يعترف بها. ومن المفارقات أن زعماء قوة نووية ما يزالون بحاجة إلى ورقة رئاسية تقر لهم ذلك؟

•يؤكد ما كشفه أنطوس مرة أُخرى إلى أي حد أصبحت سياسة الغموض النووي خارج الزمن، بما في ذلك الاستشهاد الإسرائيلي الذي يمكن بواسطته الكتابة عن كل شيء فقط عندما يكون نقلاً عن "مصادر أجنبية". إن مثل هذا السلوك السري هو سلوك معيب وفضيحة، سواء من الزاوية المحلية أو من الزاوية السياسية. حان الوقت للتوصل إلى تسوية هذا الموضوع الإسرائيلي حيال الداخل والخارج بطريقة مختلفة. حان الوقت لعالم تجاوز سياسة الغموض النووي.