"مسيرة العودة"، إنجاز عملاني إلى جانب إخفاق استراتيجي: دراسة حالة الحرب على الوعي
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

– مباط عال

•"مسيرة العودة" هي سلسلة تظاهرات فلسطينية بدأت في "يوم الأرض" ووصلت إلى ذروتها في "يوم النكبة". جرت خلالها تظاهرات شارك فيها كثيرون على طول السياج الأمني حول قطاع غزة، وخصوصاً في أيام الجمعة. وبلغت التظاهرات ذروتها في 14 أيار/مايو، في يوم انتقال السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وشارك فيها أكثر من 40 ألف متظاهر، حاول جزء منهم اختراق السياج. عرضت إسرائيل الانتشار المضاد  لقوات الجيش كـ" حائط حديدي"، ونجحت في منع التسلل إلى أراضيها. وكانت نتيجة الاحتكاكات في يوم انتقال السفارة سقوط 60 قتيلاً فلسطينياً (بينهم نحو 50 عنصراً من "حماس" ومن المقربين منها، بحسب المسؤول صلاح البردويل).

•المعروف أن لهدف السيطرة على الوعي أهمية أساسية في الرسائل التي تبادلها الطرفان. لقد وضعت "حماس" الأحداث ضمن إطار "مسيرة شعبية وغير عنيفة"، وبهذه الطريقة نجحت في تحويل المواجهة مع إسرائيل من الساحة العسكرية إلى الساحة المدنية، مع التشديد على الحق في الاحتجاج الشعبي. وفي المقابل، عرضت إسرائيل أحداث المسيرة كعمل إرهابي يهدف إلى المسّ بالسيادة الإسرائيلية ويستخدم النساء والأولاد كـ"دروع بشرية". 

•واجه الجهد التوعوي الإسرائيلي عدداً من التحديات:

•التفوق في صورة الجانب الضعيف لدى الرأي العام - يعيش الفلسطينيون في قطاع غزة تحت حصار إسرائيلي وظروف أزمة إنسانية تزداد تفاقماً. لذلك هم يحاولون استغلال وضعهم الصعب من أجل العودة إلى جدول الأعمال الدولي، كما جاء في صفحة المسيرة على الفايسبوك في بداية الأحداث. وفي المقابل برزت إسرائيل كعنصر قوي يفضل استخدام القوة في مواجهة مدنيين.

•وضع سكان غزة، وفي طليعتهم نساء وأولاد في جبهة في مواجهة جنود الجيش الإسرائيلي، يشدد على عدم التوازي، ويجعل أي استخدام للقوة مسبقاً "مبالغاً فيه". هكذا نشأت سردية البطولة الفلسطينية. لقد حرفت "حماس" المواجهة عن المستوى العسكري، حيث موازين القوى تميل بوضوح إلى جانب إسرائيل، إلى المستوى المدني والصراع على الوعي. وكما قال أحمد أبو رتيمة من منظمي المسيرة الأساسيين الذين لا ينتمون إلى "حماس": "لقد بدأ الفلسطينيون يؤمنون أكثر بالقوة الناعمة التي لديهم... هذه التظاهرات غير العنيفة ستقوم إلى حد بعيد بتحييد ترسانة السلاح الهائلة التي تملكها دولة الاحتلال...

•صورة واحدة تساوي ألف كلمة - من أجل التأثير في الوعي تكفي صورة جيدة واحدة. وقد قدمت الأحداث صورة انفصامية على شاشات وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي. فمن جهة، صورة الجماهير في قطاع غزة في مواجهة نيران الجنود الإسرائيليين؛ ومن جهة أُخرى افتتاح السفارة الأميركية في القدس بمشاركة مسؤولين كبار من إسرائيل والولايات المتحدة. 

•بين الإرهاب والاحتجاج المدني الشرعي - فشلت إسرائيل في جهودها الرامية إلى إحباط شرعية الاحتجاج وتصويره كعمل إرهابي منظم. وكان الفشل متوقعاً مسبقاً، لأن منظمي المسيرة سعوا منذ البداية، بحسب كلامهم، لأن تكون غير عنيفة. لكن سيطرة "حماس" على الأحداث أدت إلى انزلاقها نحو العنف، وبالتالي، إلى رد إسرائيل وسقوط العديد من المصابين. كان في إمكان إسرائيل استغلال ذلك كرسالة للسكان الفلسطينيين والإشارة إلى مسؤولية "حماس" عن وقوع مصابين، بل إن إسرائيل سعت لتقليص حجم الأحداث بواسطة رسائل رادعة هدفها إبعاد سكان القطاع عن السياج. لكن انخفاض حجم الاحتجاج جاء بصورة أساسية نتيجة قرار "حماس"، على ما يبدو في أعقاب ضغط مصري (ترافق مع فتح معبر رفح فترة ما) وضغط من جانب قطر، وكذلك جرّاء ارتداع شباب غزة عن الاستمرار في المشاركة في التظاهرات في ضوء عدم جدواها وازدياد عدد المصابين.

•تبلور صورة للوضع في نظر المجتمع الدولي - حتى أحداث يوم 14 أيار/مايو، حين قُتل أكثر من 60 فلسطينياً في المواجهات على طول السياج مع غزة، كان الضغط الدولي على إسرائيل معتدلاً نسبياً، سواء بسبب العدد القليل نسبياً  للمصابين في أغلبية التظاهرات، أو، بصورة أساسية، بسبب تطورات أُخرى على الساحة الدولية، وفي طليعتها انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران، والتصعيد بين إيران وإسرائيل في سورية والتحضير للقاء القمة الأميركية –الكورية الشمالية. لكن في يوم انتقال السفارة الأميركية إلى القدس، وصلت التظاهرات إلى الذروة. وزاد مقتل عشرات الفلسطينيين الضغط الدولي على إسرائيل، وتجلى ذلك في خطوات دبلوماسية حادة، كإعادة السفير التركي وسفير أفريقيا الجنوبية، وانتقادات قاسية في وسائل الإعلام الدولية، وإدانات على مواقع التواصل الاجتماعي، وإدانة عنيفة لإسرائيل في المنتديات الدولية، بينها موافقة مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة على تأليف لجنة تحقيق دولية لفحص الأحداث. 

توصيات

•بالنسبة إلى الرأي العام الداخلي نجحت حكومة إسرائيل والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية في إقناعه بأن الجيش يقوم بما هو مطلوب منه بصورة شرعية. ولم يتطلب ذلك جهداً كبيراً، فأغلبية الجمهور الإسرائيلي تؤيد تلقائياً كبح التظاهرات واستخدام القوى الأمنية، وتعتقد أن "حماس" كتنظيم إرهابي هي المسؤولة عن العنف الذي رافق أعمال الشغب على الجانب الآخر من السياج. وقد اعتُبر كلام مسؤول "حماس" عن أن أغلبية القتلى هم من الحركة دليلاً على أن المقصود ليس تحركاً مدنياً بريئاً دافعه الإحباط والضائقة فقط. في مقابل ذلك، فشلت إسرائيل بتمرير رسالة بهذا المعنى إلى الجمهور الفلسطيني وإلى المجتمع الدولي، وخصوصاً مع وجود الحصار المستمر والوضع الإنساني الصعب. صور القناصة الإسرائيليين في مواجهة المتظاهرين مثلاً، وفي مواجهة الطائرات الورقية المشتعلة، عززت الصورة التي أراد الفلسطينيون خلقها.

•بالنسبة إلى الجمهور الفلسطيني، لا فائدة من جهود توعوية تمارس خلال الأزمات فقط، إذا لم يتم بناء توجهات أساسية وسط هذا الجمهور بين جولات المواجهة لها علاقة بدور "حماس" في الأزمة المستمرة في القطاع. المطلوب هو جهد متعدد المجالات ومستمر، يشمل مكونات إنسانية، واقتصادية، ومدنية، ودبلوماسية وإعلامية، للتأثير في الاتجاه المطلوب للتوجهات الأساسية للسكان في غزة، وخصوصاً خلق انفتاح وسط السكان على الرسائل الإسرائيلية (العلنية والسرية) في حال اندلاع مواجهة مستقبلية.

•تشكل مواقع التواصل الاجتماعي ساحة مركزية في المعركة على الوعي. ويعتبر استمرار العملية ومثابرتها وحجمها عوامل مهمة جداً في بلورة التوجهات. المطلوب إرسال مجموعة رسائل تكون لها أصداء في الميديا الاجتماعية وتعمل على توسيع الشروخ الموجودة بين "حماس" وسكان قطاع غزة والتشديد على القضايا التي برزت بشأنها أصوات تنتقد الحركة، بينها مشروع حفر الأنفاق الذي تقوم به "حماس" وثمنه مقارنة بالوضع الإنساني المتدهور في المنطقة. أصداء هذه الرسائل المدسوسة من شأنها أن تزيد ثقة منتقدي سلوك "حماس"  بالتعبير عن آرائهم.

•في مواجهة المجتمع الدولي، ومن أجل تعزيز سردية المؤيدين للمصلحة الإسرائيلية، المطلوب خوض معركة في وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال إغراقها بالرسائل المؤيدة لإسرائيل وبالوقائع والتعليقات المهمة. ويجب أن نفعل ذلك قبل الأحداث وخلالها. وتتطلب هذه المعركة مساهمة عدد كبير من الأشخاص في الصراع ضد أطراف في الشبكة العنكبوتية تعمل على تشويه إسرائيل وأفعالها، والمسّ أيضاً بشرعية الخصم. 

•يجب على الدوام تقوية قدرة المنظمات من نوع ACT.Il (مبادرة مدنية لمتطوعين وعاملين من أجل إسرائيل في شبكة الإنترنت) التي تتيح نشر الرسائل. ويجب التشديد على أن الفلسطينيين ينشرون في شبكات التواصل الاجتماعي وفي الإنترنت مقابلات وصوراً وأشرطة جزء منها ملفق. وفي المقابل، فإن الجزء الأساسي من النشاطات الإسرائيلية العلنية على خلفية أحداث السياج جرى التعبير عنها من خلال بيانات رسمية للناطق بلسان الجيش في وسائل الإعلام التقليدية، وفي الغالب بتأخير واضح عن "حماس".

•بالإضافة إلى هذا كله، المطلوب خفض الهجوم الفتاك على الفلسطينيين. في هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن الحجم الكبير للمصابين وسط الفلسطينيين يمكن أن يحقق تأثيراً رادعاً من جهة، ومن ناحية أُخرى، يمكن أن يكون له تأثير تحريضي. أمّا بالنسبة إلى المجتمع الدولي فهو سينظر إلى إسرائيل نظرة سلبية بعد عدد المصابين، سواء كانوا مدنيين أو أعضاء في "حماس".

 

•المعركة بين إسرائيل و"حماس"، وفعلياً بين إسرائيل وقطاع غزة كما تجلت في الشهرين الأخيرين في "مسيرة العودة"، هي اختبار للاستراتيجية التوعوية الإسرائيلية. وبما أن المقصود سلسلة من الأحداث المتطورة وسباق على التعلم والتغير لدى الطرفين، المطلوب من إسرائيل تطوير نظرية للوعي خاصة بها في مواجهة رأي عام ثلاثي مستهدف: الرأي العام الفلسطيني، والدولي والداخلي، وتحسين التنسيق بين الأطراف العسكرية والمدنية العلنية والسرية، المنخرطة في المعركة.