•لن نبكي على رمي وثيقة العمل المشترك المسماة "الاتفاق الإيراني" في سلة مهملات التاريخ. ولادة هذا الاتفاق كانت خطيئة. لقد غيّرت الإدارة الأميركية في ظل حكم أوباما رأيها، وبدلاً من أن تحاول التوصل إلى تفكيك القدرة الإيرانية في مجال تخصيب اليورانيوم في إطار الاتفاق، وقّع الأميركيون اتفاقاً يقضي بأن تُخصب إيران كميات أقل وبأن تقبل نظام رقابة مشددة. لقد كان هذا اتفاقاً سيئاً للعالم ولإسرائيل، وسيئاته أكثر من حسناته.
•السؤال الكبير المطروح هو: ماذا بعد؟ وفي الأساس ماذا سيفعل الأوروبيون الذين قرروا البقاء ملتزمين بالاتفاق؟ تعترف دول أوروبا علناً، وبصورة مفصلة أكثر في أحاديث مغلقة بأن الاتفاق مليء بالفجوات، لكنها تفضله على واقع لا يوجد فيه اتفاق. ومن المحتمل أن الأوروبيين يريدون المحافظة على الإطار وإصلاح الفجوات، مثل: وقف التطوير والتجارب الصاروخية، وبالتأكيد فرض رقابة أفضل، بالأساس على المنشآت العسكرية. وبعد الكشف عن الأرشيف النووي الإيراني، ربما سيعيد الأوروبيون الإيرانيين إلى حجمهم، ويطالبونهم بالإجابة على الأسئلة التي تهربوا منها حتى الآن. ومن المحتمل أيضاً أن يعودوا إلى الرئيس ترامب لإقناعه مجدداً بإطار الاتفاق، لكن من الصعب رؤية نجاح مثل هذا المسعى الأوروبي من دون ضغط كبير جداً، لذا من المعقول أكثر أن تبقى الولايات المتحدة وحيدة.
المعضلة الداخلية - الإيرانية
•السؤال الأساسي هو ماذا سيفعل الإيرانيون؟ هل سيحافظون على الاتفاق ويتقيدون به بدقة متناهية، كي لا يعطوا الولايات المتحدة ذريعة لاتخاذ خطوات متشددة ضدهم؟ أم أنهم سيحاولون استغلال خروج الولايات المتحدة للدفع قدماً بخطوات في المجال النووي، لعلمهم بأن ليس لدى الأميركيين حالياً رغبة في توظيف جهود في الشرق الأوسط. القرار الإيراني سيتأثر أيضاً بنتائج المفاوضات مع كوريا الشمالية. وكلما أظهر الرئيس الأميركي تصميمه حيال بوينغ يانع، سيكون من الأسهل على الأوروبيين عرض مطالبهم على الإيرانيين. في الحالتين تعتمد المفاوضات على صدقية الرئيس وإصراره.
•سيثير قرار الرئيس ترامب صراعاً داخلياً في إيران بسبب تأثير العقوبات. وسيدور الصراع بين مؤيدي الخط المتشدد، بزعامة الحرس الثوري، وبين مؤيدي الرئيس روحاني، الذين سيفضلون المحافظة على إطار مشترك للعمل مع أوروبا وعدم مفاقمة التحدي الاقتصادي الذي تجد إيران اليوم صعوبة في مواجهته. وتزداد الأمور تعقيداً في ضوء الضربات التي تعرّض لها الإيرانيون في سورية، والخجل الذي يشعرون به بعد الكشف عن نجاح الموساد في التسلل إلى قلب مكان مغلق وحساس جداً. يدرك الرئيس الإيراني الذي يقود الاقتصاد في بلاده حجم الأضرار التي يمكن أن تتسبب بها العقوبات الأميركية، وهو بالتأكيد سيحاول أن يلقي التهمة على الحرس الثوري، بحجة أن مفاقمة الصراع ضد إسرائيل في سورية والتدخل في اليمن والعراق هما اللذان أدّيا بين أمور أُخرى إلى قرار ترامب.
•في نهاية الأمر من السابق لأوانه معرفة إلى أين سيؤدي الخروج من الاتفاق. بالتأكيد سيكون هذا صعباً على إيران، لكن نظراً إلى أنه ليس في هذا القرار أي توجّه نحو تقليص التدخل الأميركي في الشرق الأوسط، فإن ما يبدو هو أنه لن يغيّر شيئاً جوهرياً، إلاّ إذا قدم الإيرانيون للرئيس ترامب ذريعة كي يعمل ضدهم بصورة أكثر عنفاً.
•هنا يدخل إلى الصورة الواسعة جهد طهران لبناء "آلة حرب إيرانية" في سورية، نسخة عن قدرة حزب الله في لبنان، لكن بقيادة الحرس الثوري وسيطرته. لقد قررت إسرائيل عدم ارتكاب الأخطاء التي أتاحت بناء حزب الله كما هو عليه اليوم، تنظيم لا دولتي يملك 120 ألف صاروخ وقذيفة، وهذه كميات لا مثيل لها في أغلبية دول العالم.
•لقد تفاقم هذا الصراع على أرض سورية بعد سلسلة خطوات قام بها الطرفان، بدأت قبل وقت طويل من قرار ترامب: في شباط/فبراير من هذه السنة أطلقت إيران طائرة من دون طيار محملة بمواد ناسفة في اتجاه إسرائيل. وقد جرى اعتراض الطائرة، لكن الإيرانيين أوضحوا بعملهم هذا استعدادهم للمجازفة بالدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل. وهاجم سلاح الجو الإسرائيلي مقر قيادة الطائرة من دون طيار في زمن وقوع الحادثة. وقبل بضعة أسابيع، وبحسب مصادر أجنبية، عمل سلاح الجو في المنطقة عينها في قلب سورية (T4)، وقتل عدداً من الإيرانيين بينهم شخص برتبة عالية. توعدت إيران بالرد، لكن منذ ذلك الحين ضرب سلاح الجو عدة أهداف إيرانية، ويبدو أن الرد المخطط له تعرقل.
•الهجوم الذي وقع في الليلة التي تلت خطاب ترامب (من دون أن يكون له علاقة به) له علاقة بالاستعدادات الإيرانية الأخيرة للهجوم على إسرائيل. وقد أدى ضرب مخازن الصواريخ الإيرانية (كما يبدو، معظم) إلى ضعف الرد الذي جاء ليل الأربعاء الخميس إلى حدّ أن أغلبية الصواريخ التي أُطلقت على خط المواقع في هضبة الجولان اعترضها الجيش. وفي تقديري أن الإيرانيين لم يخططوا لرد ضعيف، لكنه كان كافياً ليزود الجيش الإسرائيلي بذريعة للتحرك بصورة واسعة ضد أغلبية البنية التحتية الإيرانية في سورية.
•في إطار هذا الصراع الطويل يجب أن نفهم أيضاً زيارة رئيس الحكومة إلى روسيا، في توقيت هو الأفضل، على الرغم من أن أحداً لم يخطط ذلك. وجود نتنياهو كضيف كبير في الساحة الحمراء هو بمثابة تلميح إلى إيران أنه على الرغم من علاقة موسكو الوثيقة بإيران، فإنها لن توقف إسرائيل عن العمل ضد التمدد الإيراني، ولو أنها لن تفعل العكس وتعمل على تهدئة إيران. إسرائيل تملك حرية العمل في سورية، وبعد تصريح الرئيس ترامب أصبحت تملك حرية أكبر من الماضي.
•هل من الممكن أن تتدهور هذه الأحداث إلى حرب مع إيران؟ الجواب هو نعم، على الرغم من عدم رغبة الطرفين في ذلك. من وجهة نظر إسرائيل، بناء آلة حرب إيرانية في سورية يمكن أن يصبح مسألة حساسة في المستقبل، لذا يجب منع بنائها الآن. وبالنسبة إلى الإيرانيين ما تفعله هو مرحلة مهمة في استراتيجيا هدفها تحقيق هيمنة إقليمية لإيران، وفي المستقبل البعيد وضع مظلة نووية فوقها.
•إن تخلي الإيرانيين عن بناء قدرة عسكرية ضد إسرائيل هو تخل عن مكوّن مهم في استراتيجيتهم. وإذا لم يتراجع أحد الطرفين، فإن النتيحة ستُحسم في الحرب. هل ستقتصر ساحة المعركة العسكرية على سورية أم ستنزلق إلى لبنان وإلى مواجهة مع حزب الله، وربما أيضاً إلى تبادل ضربات بين إسرائيل وإيران نفسها؟ من الصعب التنبؤ لكن يجب أخذ ذلك في الحسبان.