•ادّعى عدد كبير من المعلقين في الأشهر الأخيرة، بينهم إسرائيليون، أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا يرغب في حدوث تدهور في الشرق الأوسط يؤدي إلى حرب، وبصورة أكثر تحديداً هو لا يرغب في جولة قتال واسعة فيما يُسمى في إسرائيل "الجبهة الشمالية". وقالوا إن بوتين يفضل الخطوات التي تهدف إلى تعزيز نظام الأسد من جديد، وخصوصاً الجهد المبذول للقضاء نهائياً على الأوكار الأخيرة للمعارضة والتنظيمات الإسلامية في منطقة دمشق وفي شمال سورية.
•وأضاف المعلقون أيضاً أن موسكو معنية بخلق هدوء مصطنع من أجل تعزيز قبضتها في سورية في المدى البعيد، من خلال بناء قدرة بحرية وبرية، في ضوء تطلُّعها إلى وجود عسكري - استراتيجي دائم في الشرق الأوسط. وهناك من ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى حد القول إن بوتين لا يريد المسّ بقوة إسرائيل في ضوء العلاقات الجيدة مع نتنياهو، ومحاولته التموضع كزعيم عالمي وحيد يحظى اليوم بثقة طهران ودمشق والقدس. وزعموا أن الأدلة على ذلك أنه ينسّق عسكرياً مع إسرائيل ويسعى لتقييد هامش التحرك الإيراني في سورية.
•إزاء وجهة النظر هذه، يجب على القدس أن تتفحص توجّهاً مخالفاً تماماً، في أساسه التقدير أنه في إطار السباق التي تديره روسيا من أجل التموضع من جديد كقوة عسكرية عالمية موازية لقوة الولايات المتحدة والصين، فإن نشوب مواجهة مسلحة بين إسرائيل وشركاء موسكو في دمشق وطهران لا يتعارض بالضرورة مع مصالح بوتين، لا بل ربما ينسجم معها. قد لا يكون بوتين يشجع بصورة فعلية على حدوث مواجهة كهذه، لكن إذا نشبت نتيجة تصرف من إسرائيل أو نتيجة تصرف من إيران وسورية من جهة أُخرى، من المحتمل ألاّ يتحرك لكبح المواجهة، لا بل على العكس سيحاول استغلالها من أجل تثبيت روسيا كدولة تقود المعسكر المنتصر في الشرق الأوسط، ولتجسيد قدرته على المسّ بالولايات المتحدة وبشركائها.
•يستند هذا التقدير إلى أمرين: الأول، استخدام بوتين المتكرر لوسائل قوة من دون ردة فعل مهمة من الطرف الآخر. والثاني، ازدياد التوتر بين روسيا والولايات المتحدة بشأن عدة مسائل، في طليعتها سباق التسلح وصيغته المحدثة عن الحرب الباردة.
•في سياق الميل نحو استخدام القوة العسكرية يجب التذكير بالخطوات التي قامت بها روسيا منذ صيف 2008، عندما غزت أوسيتيا وأبخازيا وضمتهما إليها، على حساب جورجيا الضعيفة. بعدها بدأت روسيا بالتدخل في شؤون أوكرانيا الداخلية، وهو ما أدى في نهاية الأمر إلى نشوب حرب هناك وتحقيق السيطرة الروسية على شرقي الدولة. وتقريباً بعد ذلك مباشرة أرسلت روسيا قواتها إلى سورية، الأمر الذي أوقف في مرحلة أولى انهيار نظام الأسد، وأدى بعدها إلى انتصاره في الحرب الأهلية.
•معنى هذا الأمر أنه بدءاً من سنة 2008 يستخدم بوتين القوة العسكرية بصورة تضمن الدفع قدماً بمصالحه في الدائرة القريبة من حدود روسيا وأيضاً في الساحات الأبعد التي يعتبرها جوهرية بالنسبة إلى وضعه الدولي. ويقتصرالثمن الذي تضطر روسيا إلى دفعه بسبب عدوانيتها على المجال الاقتصادي - السياسي، ولا يبدو أن العقوبات الاقتصادية - السياسية قادرة على ردعها.
•فيما يتعلق بعودة الحرب الباردة واستراتيجيا الاحتكاكات التي يقودها بوتين في مواجهة رئيس أميركي لا يملك سياسة خارجية حقيقية، الأمر الذي تسبب بتراجع كبير لتأثير الولايات المتحدة بصورة عامة وفي الشرق الأوسط خصوصاً، لا ضرورة لتفاصيل كثيرة. ويكفي أن نذكر ظاهرتين رئيسيتين: الاستخدام الروسي للقدرات الهجومية في المجال السيبراني، واستعداد موسكو لاستخدامها عملانياً. وفي هذا المجال من المفيد أن نستمع إلى كلام رئيس مجلس الأمن القومي الأميركي National Security Council الذي اشتكى في الأسبوع الماضي من أنه لم يحصل على موافقة البيت الأبيض كي يتبنى سياسة انتقامية شاملة في مواجهة الهجمات السيبرانية الروسية المتكررة.
•المسألة الثانية في توجّه بوتين نحو الاحتكاكات هي عودة روسيا إلى سباق التسلح الصاروخي النووي. ففي الأسبوع الماضي، وخلال خطاب انتخابي هجومي، كشف بوتين لأول مرة عن أن روسيا توشك على الانتهاء من تطوير سلاح صاروخي نووي جديد يملك قدرة ذاتية على التحرك والتوجه، وتستطيع بواسطته إصابة أي هدف في الكرة الأرضية، بما في ذلك الولايات المتحدة.
•في الخلاصة، إسرائيل في ظل حكم نتنياهو هي في نظر بوتين، شريكة للولايات المتحدة وترامب، أي المعسكر الخصم، وفي المقابل الأسد هو شريك استراتيجي يستحق دعماً روسياً، حتى عندما يتجاوز الخط ويستخدم سلاحاً كيميائياً في قصفه لمواطنيه. وحتى طهران وحزب الله الذي يدور في فلكها فإنهما يُعتبران من "الجيدين" في نظر موسكو بسبب عدائهما للولايات المتحدة قبل أي شيء آخر، على الرغم من عدد من التعارضات المفهومة في المصالح.
•بناء على ذلك، فإن كل سيناريو ستقوم به إسرائيل ضد سورية وربما حتى ضد حزب الله، ينطوي على إمكان أن يشجع بوتين شركاءه على الرد، وربما أيضاً استغلال المناسبة لتمرير رسالة مفادها بأن شركاء روسيا في ساحة القتال العالمي هم المنتصرون، أو بأنهم لن يخرجوا خاسرين. وإسقاط طائرة إف-16 وكمين الصواريخ الذي واجهه سلاح الجو الإسرائيلي بالإضافة إلى تسلل الطائرة الإيرانية من دون طيار هي بمثابة تلميح إلى هذا التوجه.