•إن مؤتمر معهد دراسات الأمن القومي الذي عُقد الأسبوع الماضي كان مهماً بالمقاييس الدولية. لقد طُرحت مسألة النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني في نقاشات كثيرة. ولم يقدّم المتحدثون فكرة خارجة عن مألوف نموذج تقسيم البلد. بيْد أن السؤال المهم في هذا الموضوع طرحه توماس فريدمان الذي قال: "لماذا لم تنجح دولة إسرائيل المبدعة في طرح فكرة مبتكرة لحل النزاع غير السعي نحو الانفصال؟"
•لقد علمني أستاذي من معهد التخنيون أنه لكي نفكر خارج الصندوق، يجب معرفة الصندوق، وخصوصاً الغطاء الذي يغلقه. هناك أربعة افتراضات أساسية تغلق هذا الصندوق وضعتها الإدارات الأميركية منذ أيام الرئيس كلينتون:
•(1) حل النزاع يجب أن تكون حدوده الجغرافية من نهر الأردن حتى البحر المتوسط؛ (2) الحل يفرض قيام دولة فلسطينية ذات سيادة كاملة؛ (3) الحدود بين إسرائيل وفلسطين يجب أن تستند إلى حدود 67، مع تعديلات طفيفة؛ (4) الضفة الغربية وغزة يجب أن يشكلا كياناً سياسياً واحداً.
•هذه الافتراضات الأربعة تجعل مجال المفاوضات مستحيلاً، وتبني حائطاً يسد الطريق مرة تلو المرة. على سبيل المثال، كان يمكن حل ضائقة قطاع غزة لو اقترحت مصر، بمساعدة دولية واسعة، توسيع القطاع نحو المنطقة المفتوحة عند مدخل سيناء في العريش.
•الحديث الإسرائيلي والدولي السائدان، واللذان تحوّلا إلى إجماع مفروغ منه، وضعا دولة إسرائيل على مفترق بين إمكانين فقط: إمّا المحافظة على دولة يهودية - ديمقراطية، مع إدخال الكتل الاستيطانية إلى أراضي حزيران /يونيو 67؛ أو أن تجد إسرائيل نفسها في دولة ثنائية القومية خطرة، لا يمكنها أن تتجنب الأبرتهايد. إن المطلوب هو تفكير مبدع قادر على إنقاذنا من فخ الاختيار بين سبيلين قطبيين مستحيلين.
•في الإمكان استخدام إبداع أينشتاين في نظرية النسبية العامة، كمصدر إلهام للخروج من الجمود. لم يكتشف أينشتاين في المختبر شيئاً جديداً، هو اقترح ببساطة نظرية شاملة مختلفة، في مركزها الشذوذ في سرعة الضوء تحول إلى قانون من قوانين الطبيعة. وبصورة مشابهة فإن تفكيراً مبدعاً يفرض الاعتراف بعدم القدرة على تقسيم هذه الأرض الضيقة الواقعة بين البحر المتوسط ونهر الأردن بين دولتين، بالمعنى الكامل لمصطلح دولة.
•من الصعب تقسيم البلد، ليس فقط بسبب مشروع المستوطنات في يهودا والسامرة [الضفة الغربية]. تكمن الصعوبة في مجموعة الأوضاع الجيو – فيزيائية: المجتمعية، والبيئية، والثقافية، والاقتصادية، والبنى التحتية للمياه والصرف الصحي والكهرباء. كما تكمن الصعوبة أيضاً في البعد الأمني لتقسيم البلد.
•ما حدث في المنطقة منذ بداية اتفاقات أوسلو يقدّم على الأرض نموذجين للدرس: النموذج الأول، في منطقة يهودا والسامرة التي تمتاز بتقسيمها إلى مناطق أ وب، وج. منطقة انتظمت في نوع من التعايش بين الفلسطينيين والإسرائيليين، منطقة مختلطة فيها تقاسم للسلطة. النموذج الثاني، في قطاع غزة، يقدم تقسيماً ثنائياً "هم هناك ونحن هنا"، وبيننا جدار في حدود وحشية وقاسية.
•يبدأ الطريق نحو تفكير مبدع في درس الفارق الناشىء في أسلوب العمليات الأمنية بين قطاع غزة وبين يهودا والسامرة. في نموذج غزة الذي يمثل الانفصال المطلق، ويتطلب استخدام القوة العسكرية وموارد كثيرة: دبابات، طائرات حربية، وعمليات عسكرية بقوة كبيرة من وقت إلى آخر، وأيضاً أموال كبيرة لمحاربة الأنفاق. في النموذج الآخر، في منطقة يهودا والسامرة يجري تنظيم الأمن من خلال توازن مناطقي هجين، ومع نقاط التقاء يومية بين إسرائيليين وفلسطينيين، ومن خلال دينامية تعاون اقتصادي مع وجود إسرائيلي مدني، الأمر الذي يسمح باستخدام مكثف للقوة العسكرية. من ناحية نوعية الحياة، يبدو نموذج يهودا والسامرة مفيداً أكثر للطرفين.
•إن مفتاح الحل المبدع الذي يطالب به توماس فريدمان يكمن في دراسة وتطوير الميزات التي ينطوي عليها النموذج المناطقي الهجين المتمثل في يهودا والسامرة، مع صلاحيات حكم أُعطيت سابقاً في كانون الثاني/يناير 1996، للسلطة الفلسطينية في مناطق أ وب. إن الخروج من الصندوق يبدأ من خلال الاستعداد للتخلي عن نموذج الانفصال المناطقي الكامل في يهودا والسامرة، والذي تبين أنه انفصال فاشل.