•يمكننا فقط تخيّل أن الصورة التي شاهدها مشغّلو منظومات الدفاعات الجوية الروسية في قاعدة حميميم مأخوذة من فيلم "القيامة الآن" لفرانسيس فورد كوبولا، الذي يطير فيه تشكيل من الطائرات الحربية لتنفيذ غارة جوية خلال حرب فيتنام. ويوم السبت الفائت هاجم سرب مكون من 13 مروحية رباعية (كوادكوبتر) القاعدة الروسية الرئيسية في سورية، غير بعيد عن مدينة الميناء ـ اللاذقية. طبقاً لبيان وزارة الدفاع الروسية في موسكو، تم إسقاط سبع مروحيات رباعية بواسطة صواريخ مضادة للطائرات من طراز بانتسير، بينما تم إسقاط المروحيات الرباعية الست الأُخرى، بعد تمكن نظام الحرب الإلكترونية الروسية من تشويش عمل أنظمة الاتصال والتوجيه الخاصة بالمروحيات الرباعية، ومن السيطرة عليها وإخضاعها.
•وقد أفادت المعلومات بأن الجهة التي نفذت هذه العملية المتطورة هي أحد تنظيمات المتمردين المعتدلين الذين يواصلون القتال ضد نظام الأسد وداعميه الروس والإيرانيين. فقد انطلقت هذه المروحيات الرباعية في مهمة "انتحارية": على كل واحدة منها كانت حمولة من المواد المتفجرة تراوح وزنها بين بضع مئات من الغرامات وأكثر من كيلوغرامين اثنين، وقد تم توجيهها للانفجار تلقائياً في القاعدة التي تجثم فيها طائرات حربية ومروحيات وقاذفات وجنود من القوات الروسية.
•بالمناسبة، خلال زيارته الأخيرة إلى سورية والتي أعلن فيها - سوياً مع مضيفه الأسد - الانتصار في الحرب الأهلية، صرح فلاديمير بوتين بأن الجيش الروسي يستعد لمغادرة الأراضي السورية خلال مدة أقصاها موعد الانتخابات الرئاسية في روسيا، بعد نحو شهرين، لكن لا علامات تدل على هذا حتى الآن.
•وزارة الدفاع الروسية قالت إنه على الرغم من أن المروحيات الرباعية كانت صغيرة و"بدائية" ـ يبدو أنه تم شراؤها من السوق المدنية ـ إلاّ إن مشغليها تلقوا المساعدة والدعم من تركيا، وإن الولايات المتحدة أيضاً كانت ضالعة في هذه العملية، إذ قدمت تعليمات التوجيه للمشغلين (الدولتان المذكورتان نفتا هذه الادعاءات). لكن الأكثر إثارة في الموضوع هو حقيقة أن المتمردين ينتقلون إلى مرحلة أُخرى جديدة من استخدام المروحيات الرباعية الهجومية والانتحارية. فقد كان هؤلاء يستخدمون، حتى وقت قريب، طائرات مسيّرة ـ طائرات من دون طيار أو مروحيات رباعية ـ لأهداف التصوير وجمع المعلومات الاستخباراتية فقط.
•ينطوي هجوم المروحيات الرباعية هذا على دروس مهمة جداً بالنسبة إلى إسرائيل، سواء في مقابل حزب الله في لبنان أو في مقابل "حماس" في قطاع غزة. فإسرائيل الرائدة في تطوير الطائرات المسيّرة تُعدّ دولة عظمى دولياً في هذا المجال. وهي تمتلك طائرات مسيّرة من أنواع متعددة وبأحجام متنوعة قادرة ـ بحسب ما نُشر في وسائل إعلام أجنبية ـ على التحليق والطيران إلى مسافات بعيدة جداً، بما في ذلك ـ طبقاً لوسائل إعلام أجنبية ـ حتى إيران، وقادرة على البقاء في الجو مدة 24 ساعة وأكثر.
•تصر إسرائيل على عدم التعقيب على ما تنشره وسائل الإعلام الأجنبية بأن لطائراتها المسيّرة قدرة على جميع المعلومات الاستخباراتية، وعلى القيام بمهمات هجومية أيضاً، وأنها تستخدمها الآن، طبقاً للتقارير الإعلامية الأجنبية ذاتها، في جبهات متعددة، في قطاع غزة ولبنان وسورية، وأنها استخدمتها في الماضي لقصف أهداف في السودان (شحنات أسلحة كانت في طريقها إلى "حماس"). وخلال السنة الماضية تم الكشف عن هذه القدرات وتوثيقها مرة واحدة على الأقل، في هجوم نفذه الجيش الأذربيجاني ضد الجيش الأرمني، بواسطة طائرات مسيّرة من إنتاج شركات إسرائيلية.
•لا شك في أن قدرات إيران وحزب الله و"حماس" هي أقل كثيراً من قدرات إسرائيل. ومع ذلك لا تستخف أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية مطلقاً بتطور هذا المجال لدى أعدائها.
•يمتلك حزب الله بعض الأسراب التي تضم بضع مئات من الطائرات المسيّرة المتطورة جداً من طراز "مرصاد" و"أبابيل" من صنع إيراني، ويستخدمها التنظيم (حزب الله) في مهمات استخباراتية وهجومية على حد سواء في سورية. وكان حزب الله استخدم الطائرات المسيّرة في حرب لبنان الثانية سنة 2006، حين أرسل إلى داخل الأراضي الإسرائيلية طائرتين من دون طيار قامت منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية بإسقاطهما. خلال السنوات الـ 11 التي انقضت منذ ذلك الوقت، نجح حزب الله في اختراق الحدود الإسرائيلية بضع مرات أُخرى وإرسال طائرات مسيّرة إلى داخل الأراضي الإسرائيلية في مهمات تجسسية، ولفحص مدى قدرة الكشف والرد لدى منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية. بعض تلك الطائرات تم اكتشافه في وقت متأخر ثم إسقاطه في نهاية الأمر، بواسطة طائرات حربية. لكن إحدى تلك الطائرات من دون طيار نجحت في التحليق حتى تم إسقاطها في منطقة لخيش جنوب إسرائيل.
•يستخدم حزب الله طائراته المسيّرة لمهمات تجسسية في سورية ويرسلها نحو الحدود الإسرائيلية هناك أيضاً. وقد أسقطت أنظمة الدفاع الجوي وسلاح الجو عدداً من هذه الطائرات التي دخلت إلى المنطقة المنزوعة السلاح مقتربة من الحدود الإسرائيلية. وكانت الحادثة الأخيرة المعروفة قد وقعت في أيلول/ سبتمبر 2017، حين تم إسقاط طائرة من دون طيار تابعة لحزب الله بواسطة صاروخ باتريوت، من منصة منصوبة في شمال إسرائيل.
•أما حركة "حماس" في قطاع غزة فقد بدأت، بتوجيه من إيران وحزب الله، ببذل جهود مكثفة لتطوير قدرات جوية خاصة بها. فمنذ عملية "الجرف الصامد" العسكرية التي قام الجيش الإسرائيلي بشنها في القطاع في صيف 2014، ثم بعدها أيضاً، نجحت الدفاعات الجوية والطائرات الحربية الإسرائيلية في إسقاط بضع طائرات مسيّرة صغيرة تابعة لـ"حماس". لكن هذه الحركة كثفت جهودها ومحاولاتها في هذا المجال خلال السنتين الأخيرتين بصورة خاصة. إنها خطوة استراتيجية من جانبها، ويبدو أنها تأتي أيضاً على خلفية إدراك قادة الجناح العسكري في الحركة بأن سلاح الأنفاق الهجومية يضيع من بين أيديهم. وهو يحصل لأن إسرائيل تحقق، بفضل المعلومات الاستخباراتية الجيدة جداً والتقنيات الحديثة والمعدات النوعية (معدات الحفر في باطن الأرض)، إنجازات مهمة في كشف الأنفاق وتدميرها. ومنذ أيلول/ سبتمبر الفائت تم كشف وتدمير ثلاثة أنفاق كان آخرها في نهاية الأسبوع الماضي.
•قال وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان هذا الأسبوع إنه لا زال هناك بعض الأنفاق، طبقاً لتقديرات الجهات الأمنية، وإنه سيتم كشفها في نهاية المطاف. أما رئيس هيئة الأركان العامة في الجيش الإسرائيلي غادي أيزنكوت فقد حدد لنفسه هدف تدمير الأنفاق كلها حتى نهاية ولايته في نهاية السنة الحالية 2018. سيكون هذا ممكناً أيضاً بواسطة العائق تحت الأرضي بعمق كبير جداً الذي تعكف إسرائيل على بنائه على طول الحدود مع قطاع غزة وسيلفّ القطاع كله بطول 65 كيلومترا. وهذا العائق الذي تعِد الأجهزة الأمنية بالانتهاء من إقامته حتى منتصف السنة المقبلة 2019، مكون من الإسمنت المقوى، القضبان الحديدية والمجسّات، بالإضافة إلى جدار علوي على ارتفاع 6 أمتار مزود بأجهزة تصوير متطورة وبمعدات إلكترونية واستخباراتية حديثة.
•حيال ما تواجهه "حماس" من تصدي "القبة الحديدية" لمحاولاتها وقدراتها في مجال إطلاق القذائف والصواريخ، تحاول هذه الحركة إيجاد وسائل قتالية أُخرى بديلة وناجعة. وإحداها هي قذائف 80 ملم و120 ملم يجري إطلاقها من غزة إلى إسرائيل من حين إلى آخر، والتي توفر "القبة الحديدية" رداً غير كاف عليها، علماً بأن جميع المحاولات الكثيرة لتطوير نظام خاص لإسقاط هذه القذائف لم تثمر بعد.
•ثمة بديل آخر هو، كما ذكرنا، الطائرات المسيّرة، وهو ما تبذل "حماس" جهوداً كبيرة لا تتوقف من أجل الحصول عليه، إذ تحاول تهريب مروحيات رباعية مفككة يمكن اقتناؤها في السوق المدنية ثم إعادة تركيبها من جديد. لكن مفتشي الجمارك وسلطة المعابر والمعلومات الاستخباراتية تمكنوا معاً من كشف بعض تلك المحاولات وإحباطها.
•قبل نحو ثلاث سنوات، في ذروة عملية "الجرف الصامد"، ألقى جهاز الأمن العام ["الشاباك"] القبض على قائد خلية من القوات الخاصة التابعة لحركة "حماس" كانت تخطط لتنفيذ عملية في إسرائيل بواسطة طائرة شراعية. وكان قد أُوفد إلى ماليزيا حيث تدرب هناك على استخدام الطائرات الشراعية. وفي كانون الأول/ ديسمبر قُتل في تونس المهندس التونسي محمد الزواوي الخبير في مجال الطائرات، بإطلاق النار عليه من مسافة قصيرة جداً. واتضح لاحقاً أنه كان مستشاراً خاصاً لحركة "حماس" في شؤون تطوير الطائرات المسيّرة. وطبقاً لتقارير نشرتها وسائل إعلام أجنبية، نُسبت عملية الاغتيال هذه إلى جهاز الموساد الإسرائيلي.
•هذه الأمور كلها تدل على أن إسرائيل تعرف نيات "حماس" ومحاولاتها، إذ تعكف على تطوير وتحسين قدراتها الجوية كبديل يمكنها بواسطته مفاجأة إسرائيل في الجولة المقبلة من القتال، إذا نشبت ومتى، على الرغم من أن تقديرات أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية تؤكد أن الطرفين، "حماس" وإسرائيل، غير معنيين بها. ويمكن الافتراض بأن آخر الأحداث في سورية توفر لـ "حماس" مادة للتفكير.