1-بدأ الردع الفلسطيني يضعف، فهل سيطرأ نتيجة ذلك تغيّر على السياسة الفلسطينية؟
إن تطورات النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، في الأسابيع الأخيرة، وتلك المتوقعة في الفترة المقبلة، تثير مزيداً من الإحباط لدى الطرف الفلسطيني، ذلك في أعقاب تآكل الردع الفلسطيني، الذي حال حتى الآن دون انهيار نظرية ضرورة التعامل مع الفلسطينيين بقفازات من حرير، وبسبب الإدراك العميق للمجتمع الإسرائيلي بعدم وجود شريك فلسطيني للسلام، بعد خطابات أبو مازن الأخيرة.
أولاً، كشف الاعتراف الأميركي بالقدس كعاصمة لإسرائيل والردود عليه، تغيّراً حقيقياً في الموقف الدولي حيال النزاع وضعف المعسكر الفلسطيني. إن الولايات المتحدة لم تعترف فقط بالقدس عاصمة لإسرائيل، بل زعزعت بصورة كاملة الإجماع بشأن عدم تحدي السردية الفلسطينية الإشكالية، التي ترفض وجود شعب يهودي والعلاقة المستقلة التاريخية بين هذا الشعب وبين أرض إسرائيل. كما وضعت موضع الاختبار أسطورة رد فعل الشارعين الفلسطيني والإسلامي، وأثبتت أن لا أساس لهذا التهديد. إن الرد الضعيف على الأرض على خطوة مهمة جداً، وعدم وجود دعم عربي، وتصويت 128 دولة فقط مع الاقتراح الفلسطيني في الأمم المتحدة (فقد اعترف أردوغان الذي خاب أمله بأنه كان يتوقع تأييد 160 دولة على الأقل للاقتراح)، كل هذا أثبت أن الردع الفلسطيني يزداد ضعفاً. والتهديد الأميركي بوقف مساعدة الدول التي ستؤيد القرار كان أكثر فعالية كثيراً.
2-هناك محنتان إضافيتان يمكن أن تصيبا الفلسطينيين في وقت قريب. الأولى انخفاض كبير في وصول الأموال المخصصة لتمويل ميزانية السلطة الفلسطينية، مع الانتهاء من عملية التشريع في الكنيست وفي الكونغرس لقانونين، "قانون شتيرن" وقانون "تايلور فورس"(على إسم الطالب الأميركي الذي قُتل في يافا قبل عامين تقريباً). يشترط هذا القانون تحويل أموال بحجم لا يقل عن مليار شيكل (نحو 6% من ميزانية السلطة) توقف السلطة عن دفع رواتب للمخربين وعائلاتهم، والغاء القانون الذي تُدفع على أساسه هذه الأموال، والذي يعتبر هؤلاء المخربين بمثابة القطاع المقاتل من المجتمع الفلسطيني.
هذا القانون والتهديد بتقليص المساعدة المخصصة للفلسطينيين بسبب رفضهم استئناف المفاوضات السياسية، يمكن أن يهددا عنصراً مهماً آخر في الردع الفلسطيني، هو خطر الانهيار. وفق هذا المنطق لا يمكن مطالبة السلطة الفلسطينية بالتصرف وفق التزاماتها في اتفاقات أوسلو ووقف تشجيع الإرهاب، كما لا يمكن اتخاذ خطوات اقتصادية ضدها لأنها يمكن أن تنهار، أو تتوقف عن التعاون الأمني مع إسرائيل. ومع افتراض أن وجود السلطة الفلسطينية وتعاونها الأمني يشكلان مصلحة مهمة جداً بالنسبة إلى إسرائيل، فإن أحداً لا يجرؤ على أن يضعهما موضع اختبار. لكن عمليات التشريع في الكونغرس تتقدم، ومن شبه المؤكد أنها لن تؤدي إلى انهيار السلطة، لأن وجود هذه السلطة، قبل أي شيء آخر، هو من أجل مصلحة الفلسطينيين. ورأينا نموذجاً لمسألة التعاون الأمني بعد أحداث البوابات الإلكترونية في جبل الهيكل [الحرم القدسي الشريف]، فقد أوقف الفلسطينيون هذا التعاون لكنهم استأنفوه بعد وقت قصير من ذلك، لأنه يشكل مصلحة فلسطينية لا تقل من حيث الأهمية عن المصلحة الإسرائيلية.
3-المحنة الثانية التي يشعر بها الفلسطينيون، هي التقدم المستمر في الإعداد للمقترح الأميركي للتسوية. فقط حفنة صغيرة من الأشخاص تعرف تفاصيل الاقتراح، لكن يمكن الافتراض أنه يعطي وزناً أكبر من الماضي لاحتياجات إسرائيل الأمنية، بما فيها المطالبة باعتراف فلسطيني بإسرائيل كدولة قومية ديمقراطية للشعب اليهودي، واستمرار وجودها في غور الأردن. إن التحذير الفلسطيني، الذي كان عاملاً مهماً في الردع، من أن أي اتفاق يجب أن يأخذ بالدرجة الأولى في حسابه المشاعر الفلسطينية، وأن يضع في المرتبة الثانية حاجات إسرائيل الأمنية (ولقد شكّل هذا جوهر المقاربة التي اعتمدت عليها الخطة الأمنية الأميركية خلال فترة أوباما وكيري، والمعروفة بـ"خطة الجنرال آلن")، هذا التحذير لم يعد يردع طاقم السلام التابع لترامب، لأنه لم يعد يحظى بدعم عربي.
في هذه الأثناء انهارت المحاولة الفلسطينية لتعزيز الردع المتهاوي بواسطة التلويح بعملية المصالحة الوهمية، بسبب إصرار "فتح" و"حماس" على رفض التخلي عن أي رصيد حقيقي.
4-الشعور بالإحباط والغضب خلق حتى الآن ردود فعل عاطفية تلقائية: أيام غضب، نزاع دبلوماسي، ومواجهة مع الولايات المتحدة على أساس الدعم المضمون من أوروبا الغربية، وإطلاق ضغوط من القطاع بواسطة "تساقط محدود" للصواريخ. في المقابل يواصل الفلسطينيون التهرب من الخطة الأميركية الوشيكة. لكن هذا الرد لن ينقذهم، وهم يقتربون من نقطة الحسم، فهل سيتمسكون بسياسة الرفض والصراع، من خلال زيادة قوة العمليات ضد إسرائيل، وفي المقابل زيادة حدة المواجهة مع إدارة ترامب، حتى يزول الغضب (وتحمّل تقليص المساعدة من أجل الاستمرار في دفع رواتب للمخربين)، أو سيخضعون للواقع الجديد ولانعكاسات قيوده؟
من المعقول جداً في مرحلة أولى أن يفضّل الفلسطينيون اتجاه المواجهة ("حماس" تعمل في هذا السياق على توثيق علاقاتها مع إيران وحزب الله)، لكن إذا ازداد عليهم الضغط الأميركي والإسرائيلي والعربي، من المحتمل أن تضطر "فتح" لأول مرة أن تعيد النظر في قدرتها على الاستمرار بالتمسك بسردية النضال ضد الصهيونية، التي تشكل العائق الأساسي في المسار نحو التسوية.
•تزداد في أوساط اليمين الإسرائيلي الرغبة في استغلال ضعف الردع الفلسطيني من أجل الدفع قُدُماً بخطوات ضمن إطار البناء في القدس وفي المناطق [المحتلة]، وتشجيع تطبيق القانون الإسرائيلي في يهودا والسامرة [الضفة الغربية]، الذي كان من الصعب تطبيقه تحت ردع فلسطيني فعلي من دون دفع ثمن كبير. إن هذه مقاربة خطرة لأنها قد تؤدي إلى نتائج مخالفة لتلك التي ترغب فيها إسرائيل، وأن تنفخ من جديد الروح في الردع الفلسطيني.