•استمعتُ قبل أيام إلى شخصية غير سياسية تتحدث عن خطة الانفصال [عن قطاع غزة، 2005] بازدراء عميق. وأشارت هذه الشخصية الرفيعة والمطلعة جداً على القضايا الأمنية، إلى أن دولة إسرائيل مرتبطة بقطاع غزة اليوم ارتباطاً وثيقاً جداً مثلما كانت مرتبطة به قبل فرارها من "غوش قطيف" في مثل هذا الشهر قبل 12 عاماً. واتضح أن الشعور بالارتياح الذي أعقب خروج الجندي الأخير ورمي المفاتيح في البحر كان شعوراً مخاتلاً، فقطاع غزة 2005 – 2017 هو أكثر بكثير من مجرد وجع وهمي يبثه عضو غير موجود. إنه ورم عنيد يهزأ بالعلاجات الكيميائية وبالعمليات الجراحية لإزالة الورم.
•لكل تطور جدي هناك تقريباً انعكاس عميق علينا: الوضع الاقتصادي، السياسة الداخلية، العلاقات مع إيران، العلاقات مع مصر، قطاع البناء، وحتى معالجة المياه العادمة. لا يمكن لقطاع غزة العيش من دوننا، ونحن لا نستطيع رفع أعيننا عنه. إن أقل درجة من عدم الانتباه قد تكلفنا سقوط صواريخ على تل أبيب وحفر أنفاق الأسلحة تحت "نتيف هعَسَراه" [إحدى المستوطنات الزراعية اليهودية في شمال غربي النقب في جنوب إسرائيل بمحاذاة الحدود مع قطاع غزة].
•طرأ خلال السنوات الثلاث الأخيرة هبوط حاد في عدد القطع المتطايرة التي يتم إطلاقها من هناك إلى هنا، لكنها لم تتوقف تماماً فتساقطها يستمر لكن "رذاذاً". الحدود مع قطاع غزة كانت وما تزال عرضة للانفجار بدرجة عالية جداً. في ساعات ما بعد الظهر من كل يوم جمعة هناك مناوشات بين قوات الجيش الإسرائيلي ومشاغبين بجوار الأسلاك الشائكة. وتسود لدى الأجهزة الأمنية قناعة بأن المسألة مسألة وقت فقط قبل أن تفرض علينا سلطة "حماس" في قطاع غزة جولة أخرى من المعارك. ونجحت "حماس" خلال الجولة الأخيرة في تعطيل مطار بن غوريون الدولي ثلاثة أيام وإلحاق أضرار جسيمة بقطاع السياحة الوافدة إلى البلد. مَن يعلم ما قد تسببه خلال جولة جديدة؟ لقد وضعت خطة لإخلاء عشرات المستوطنات في المنطقة رداً على أي مصيبة قد تقع، وهي خطوة دراماتيكية لم تتخذ في السابق في أي مجال مدني آخر.
•لقد واصل سكان غور الأردن حياتهم هناك حين استهدفتهم سورية بالقصف من هضبة الجولان، وحين أطلق الأردن النيران عليهم من "جلعد" [قرية أردنية في محافظة البلقاء]. كذلك واصل سكان البلدات الحدودية في الشمال البقاء في بيوتهم طوال سنوات "الكاتيوشا". وبقي سكان مستوطنات "غوش قطيف" في بيوتهم برغم آلاف القذائف التي أطلقت عليهم من مسافة الصفر. أما في بلدات الشريط حول قطاع غزة ما بعد الانفصال فليس ثمة خيار آخر كما يبدو؛ في أي اشتعال مستقبلي واسع سيضطر السكان هناك إلى هجر بيوتهم وبلداتهم حتى تضع الحرب أوزارها. وهذا بسبب الانفصال وأوسلو. خروج الجيش الإسرائيلي من مدن قطاع غزة سنة 1994 والانسحاب من "غوش قطيف" سنة 2005 وضعا النقب الغربي وساحل الشاطئ الجنوبي في وضع أمني خطر، وكشفا على نحو قاس جداً زيف ادعاء أنه ليست ثمة أهمية للأراضي في عصر الصواريخ وأن الاستيطان يشكل عبئاً على الأمن.
•في خطابه أمام مؤتمر هرتسليا سنة 2003، أعلن [رئيس الحكومة السابق] أريئيل شارون أن "خطة الانفصال ترمي إلى توفير الحد الأقصى من الأمن وخفض الاحتكاك بين الإسرائيليين والفلسطينيين إلى الحد الأدنى". وهو وعد أيضاً بتحسين مكانة إسرائيل في الساحة الدولية. لكن جميع هذه الأهداف تبددت في امتحان الواقع، فلم يوفر الانفصال الحد الأقصى من الأمن لإسرائيل، ولكنه خفف قليلاً جداً من الاحتكاك من دون أن تتحسن مكانتنا السياسية. وبقيت الكراهية في الجانب الفلسطيني في قطاع غزة على حالها برغم انتهاء "الاحتلال". وبدلاً من أن يتحول قطاع غزة إلى "سنغافورة الشرق الأوسط"، تحول إلى مخزن كبير جداً للأسلحة، إلى عش دبابير متطور، واضطررنا إلى الإفراج عن 1000 من المخربين في مقابل إعادة جندي واحد تم اختطافه إلى قطاع غزة. وبعد ثلاث سنوات من عملية "الجرف الصامد" نقف عاجزين عن إحضار جثتي جنديين سقطا هناك لدفنهما هنا.
•يدعي آخر محامي الدفاع عن الانفصال أن الوضع كان يمكن أن يكون أسوأ بكثير لو أننا بقينا في "غوش قطيف"، لكن الغالبية الساحقة من الجمهور ترفض الاقتناع بهذا الادعاء المهترئ. لقد فقدت هذه الأغلبية ثقتها بجدوى الانسحابات الإضافية، وهي ترى أن الانفصال شكل حالة اختبار لمفهوم "الأرض في مقابل السلام" وأن هذا المفهوم انهار. فقد أثبت اقتلاع مستوطنات "غوش قطيف" لشعب إسرائيل أن لا جدوى من أي اقتلاعات أخرى. ويشير استطلاع رأي أكاديمي شامل نشر هذا الأسبوع، إلى تآكل حاد إضافي في التأييد الشعبي للدولة الفلسطينية وإلى وجود أغلبية مطلقة معارضة لإخلاء المستوطنات. قد يجد المُقتَلَعون من "غوش قطيف" قليلاً من العزاء في ذلك، لكن نتائج الانفصال جعلته بأثر رجعي ثروة إعلامية ضد الانسحابات. نعم، فحتى من غزة تخرج بشائر.