•بينما تنشغل إسرائيل بموضوعات مهمة قريبة منها مثل غزة وقلقيلية، دخل الشرق الأوسط مرحلة أخرى أكثر تعقيداً فيما يتعلق بالصراع على مستقبله. والسبب هو تغير توجه الإدارة الأميركية الجديدة حيال المنطقة. ويبدو أن إدارة ترامب مستعدة لأن تكون منخرطة أكثر من التي سبقتها، والتي قررت عملياً الانسحاب من الشرق الأوسط.
•هذا التغير وضع روسيا موضع الاختبار، إذ هي ليست راضية بالطبع عن أن حرية نشاطها غير المحدودة في الشرق الأوسط قد تقلصت. في المقابل، استغلت إيران الوضع الفوضوي في المنطقة وتقدمت نحو إيجاد وضع يتيح لها فتح ممر شيعي يربط بغداد بدمشق، في مكان قريب جداً من الأردن. وتنشط في منطقة الممر المستقبلي (منطقة التنف) قوات خاصة أميركية وبريطانية، في الأساس في إطار تقديم المساعدة وتدريب قوات كردية وقوات أخرى، حليفة لهما في الجزء البري من المعركة التي يخوضها التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
•إن نجاح القوات الكردية في القتال في الجزء الشمالي من سورية يخلّ بالخطة الإيرانية الرامية إلى إقامة ممر بري في الشمال في مقابل ذلك الموجود في الجنوب. ويسبب أيضاً قلقاً شديداً لتركيا، التي أكثر ما تتخوف منه هو تعاظم قوة الأكراد، أو حكم ذاتي كردي في سورية. في المقابل تدور في الشرق الأوسط أربعة أو خمسة صراعات مختلفة.
•في الأيام الأخيرة ازدادت سخونة الوضع على الأرض. فقد نشطت قوات النظام السوري في المنطقة الواقعة في مقابل مثلت الحدود مع العراق والأردن - بهدف الارتباط مع حلفائها في العراق، وتعرضت إلى هجوم جوي من جانب الأميركيين. كما أسقط الأميركيون طائرة حربية سورية وطائرة إيرانية من دون طيار، لأنهما وفقاً لادعاء الأميركيين عرّضتا للخطر جنوداً أميركيين يعملون هناك مع قوات محلية. ورداً على إسقاط الطائرة السورية أعلنت روسيا أنها ستسقط كل طائرة تحلق غربيّ نهر الفرات، وبذلك نقلت الكرة إلى المرمى الأميركي.
•وإذا قرروا في واشنطن مواصلة التحليق في المنطقة "المحظورة" - سيكون على روسيا اتخاذ قرار صعب جداً. هل تسقط طائرة أميركية أم تتراجع عن تصريحات متسرعة لا يمكنها تحمل كلفة تنفيذها. وإذا لم يكونوا في موسكو وواشنطن وحتى في سورية نفسها حذرين، فإن هذا يمكن أن يورط العالم في مواجهة روسية - أميركية. ولذلك يجب توقع بذل جهود من الأطراف المعنية لتخفيف التوتر، على الأقل في التصريحات إن لم يكن فعلياً.
•إن المواجهة الحالية هي نتيجة رغبة أميركية في المشاركة في بلورة سورية بعد القضاء على تنظيم داعش. ولهذا السبب أُقيم معسكر للتدريب بالقرب من التنف، ولهذا تنشط في هذه المنطقة قوات خاصة (ولهذا أطلقت صواريخ أميركية بحرية على قاعدة سورية انطلق منها هجوم بسلاح كيميائي). لكن الصراع على الأرض هو جزء فقط من صورة أوسع بكثير، تتعلق بمسألة هل بالامكان كبح إيران، الآخذة في التحول إلى القوة المهيمنة في المنطقة.
•إذا لم يتم ايقاف إيران في التنف، فإنها ستقيم كما قلنا ممراً برياً من بغداد إلى دمشق، وللمرة الأولى في التاريخ الحديث سيكون للإيرانيين منفذ مباشر إلى البحر المتوسط. وسيتحقق الكابوس الذي وصفه ملك الأردن بـ"الهلال الشيعي". وستصبح الجيو - استراتيجيا في الشرق الأوسط مختلفة، سيئة بالنسبة إلى السنّة، وبالطبع بالنسبة إلى إسرائيل. إن زعامة الإيرانيين التي تقود بحزم الشيعة في كل مكان بحسب خطة كبرى تبرز بوضوح في الصمود أمام الانقسام السّني. فالسّنة، على الرغم من كونهم الأغلبية المطلقة بين المسلمين في الشرق الأوسط، لم ينجحوا في الصمود أمام المد الشيعي، وباستثناء اخراج السودان من دائرة النفوذ الإيراني، فهم يجدون صعوبة في مواجهة الحرس الثوري الإيراني والميليشيات الشيعية التي تنفذ أوامر إيران. ويشير تعيين ولي العهد الشاب الحازم في السعودية (أيضاً) إلى إرادة سعودية لتغيير هذا الوضع من أساسه. لكن الطريق ما تزال طويلة.
•حالياً، مع تحقق الممر الإيراني، حانت لحظة اختبار إدارة ترامب في الولايات المتحدة. فإذا تراجعت، مثلما تراجعت الإدارة التي سبقتها بعد استخدام الأسد سلاحاً كيمائياً، فإن ذلك سيحسم مصير الولايات المتحدة كطرف مؤثر في الشرق الأوسط. وإذا اتضح أيضاً أن الرئيس الحالي هو نمر من ورق، وهذا الأمر سيبرز كثيراً على خلفية التغطية الإعلامية لزيارة ترامب إلى السعودية، فسيخسر الأميركيون مصداقيتهم. ودولة عظمى لا تتمتع بالمصداقية ليست دولة عظمى.
•هذا الوضع تفهمه روسيا وإيران أيضاً، وهما تحاولان إثبات مصداقيتيهما على حساب الولايات المتحدة (هذا هو أحد الأسباب لإطلاق الصواريخ الإيرانية على قواعد داعش في سورية). ومن هنا فإن الأزمة الحالية هي جزء من "اللعبة الكبرى"، التي تحاول من خلالها روسيا العودة إلى المكانة التي كان يحتلها الاتحاد السوفياتي في ذروة قوته في الشرق الأوسط.
•إن التحالف بين روسيا وإيران هو تحالف قوي، ليس لأن رؤيتهما العامة مشتركة، بل لأنهما يكملان بعضهما البعض. تقدم روسيا الغطاء الدولي، والاستخبارات، والمساعدة الجوية، بينما تقدم إيران الجنود لتنفيذ العمليات على الأرض - مهمة ملقاة على الحرس الثوري، وحزب الله، والميليشيات الشيعية. وتحاول روسيا التي تقف إلى جانب الطرف الشيعي في هذا الصراع، المحافظة في الوقت نفسه على علاقات جيدة مع السنة، وتبيع سلاحاً إلى السعودية ومصر اللتين تقفان في الجهة الأخرى من المتراس. في الشرق الأوسط "المجنون"، صديق عدوي ليس دائماً عدوي، كما أن عدو عدوي ليس دائماً صديقي.
•إلى الشمال من التنف، بالقرب من الحدود التركية، يواصل الأكراد هجومهم بمساعدة أميركية على الرقة، الموقع الكبير والأخير لداعش في سورية. وبعد تحريرها ستتحول الرقة، بحسب وجهة نظر للأميركيين، إلى المكان الذي سيجري فيه كبح الجهد الإيراني في الممر الشمالي الذي يمر عبر الموصل.
•إن تزايد قوة الأكراد في سورية يقلق جداً الأتراك الذين يدعون، كما يبدو عن حق، أن للأكراد في سورية علاقات وثيقة مع التنظيم الكردي التركي الـPKK، الذي يصنّف تنظيماً إرهابياً، وليس في تركيا فقط. علاوة على ذلك، فإن كل تعاظم للقوة الكردية وخطوات تتخذ نحو حكم ذاتي او استقلال - يثير خوف الأتراك وقلقهم من أن ترى أغلبية الشعب الكردي التي تعيش في تركيا (حوالي 15 مليون كردي بحسب الأتراك!) في ذلك سابقة، وتجد تركيا نفسها في مواجهة مطالبة كردية بالحكم الذاتي أو استقلال يعرّض سلامة أراضيها إلى الخطر. هذا هو الكابوس التركي المخيف، ويعيش تحت وطأته حتى أعداء أردوغان في تركيا. وسوف تبذل تركيا كل ما في وسعها لمنع حدوث مثل هذا السيناريو.
•الترابط بين الجهد الإيراني لإنشاء منفذ بري إلى البحر المتوسط، مع الصراع بين القوى العظمى، وبين محاربة داعش، والصراع بين الشيعة والسّنة في الشرق الأوسط، وبين تركيا والأكراد بالقرب من الحدود التركية، وبين نظام الأسد والمتمردين، ينزح على ما يبدو إلى منطقة مثلث الحدود بين سورية والعراق والأردن وإلى الشمال من هناك. وستؤثر القرارات المختلفة لمواجهة الأزمة على المدى البعيد جداً في مستقبل الشرق الأوسط كله، وخاصة في مكانة الإيرانيين، وفي آمال الأكراد، وبطبيعة الحال في دولة إسرائيل.