"عدم استقرار مستقر" في الشرق الأوسط
•تبدو درجة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط اليوم، بسبب تعقيدها وقابليتها للانفجار، أكبر منها في أية بقعة أخرى في العالم. فالشرق الأوسط "الجديد" يمتاز بخليط كبير من اللاعبين، بدءاً بدول كبيرة وصغيرة، مروراً بمنظمات وشبكات غير دولتية، وانتهاء بتدخل نشط، لكن متغير، من جانب دول عظمى ومراكز قوة دولية. الانتقال من النزاعات الحدودية، التي ميزت الشرق الأوسط في السابق، إلى نزاعات تحركها الأديان، بين السنة والشيعة، بين الإسلام الراديكالي والغرب الليبرالي، لا يزيد البيئة الإقليمية إلاّ تعقيداً. كما أن تحوّل الشرق الأوسط إلى واحد من بؤر الصراع بين الدول العظمى لا يساعد على الاستقرار الإقليمي.
•تتعمق، في المقابل، الفجوات بين إسرائيل وجاراتها تقريباً في مختلف مجالات التطوير الاقتصادي، الاجتماعي والبشري. ولئن كان بإمكان إسرائيل أن تزهو بهذه الفجوات في الماضي، فيجب أن تثير قلقها في الوقت الراهن. ذلك أن تخلف التنمية الإقليمية، الذي يخلق شرق أوسط فقيراً، يشكل أرضاً خصبة لاستمرار التطرف الديني ولنشاط التنظيمات الإرهابية.
•يزداد الصدام بين الكتل الداخلية في الشرق الأوسط، [وخاصة] بين إيران والعربية السعودية، احتداماً في السنوات الأخيرة. صحيح أن جذوره تعود إلى التاريخ البعيد، إلى الصراع العميق بين التيارين المركزيين في الإسلام، غير أن ما يجري هو، أيضاً، صراع مرير على القوة والتأثير، على الهيمنة الإقليمية. وقد أدى الاتفاق النووي بين إيران والدول العظمى والتغيرات الداخلية التي حصلت في العربية السعودية إلى تعميق الخصومة وانعدام الثقة بين الدولتين العظميين إقليمياً. فللمرة الأولى منذ زمن طويل تجد إيران نفسها في مواجهة خصم عنيد - السعودية بقيادة الملك سلمان - يعتمد توجهاً فاعلاً وهائجاً تجاه الداخل والخارج، على حد سواء. تحاول السعودية، من خلال سلسلة من الإصلاحات الجدية العميقة، تقليص حجم اتكالها الاقتصادي على النفط وتطوير مصادر بديلة للنمو الاقتصادي. ومع ذلك، ثمة شكوك حول قدرة المملكة على تطبيق الإصلاحات. لكن، في المقابل، تقود السعودية خطاً حازماً وتحالفاً قوياً مقابل إيران، حتى وإن كانت خطواتها هذه لا تؤتي ثمارها المرجوة دائماً، كما هي الحال في حرب اليمن مثلاً.
•في إيران حصلت خلال السنة الأخيرة جملة من التغيرات المهمة. الاتفاق النووي الإيراني محدود بفترة زمنية لا تتعدى السنوات القليلة المقبلة، غير أن تطلع إيران لامتلاك القدرة النووية لا يزال قائماً على حاله، مثلما بقيت أيضاً غالبية البنى التحتية اللازمة لتحقيق هذه القدرة. والذي حصل، عملياً، هو أن إيران نالت الشرعية الدولية للإبقاء على مشروعها النووي وتخصيب اليورانيوم على أراضيها، وإن كان ذلك بصورة محدودة. وهذا إنجاز لم يكن أحد يتوقع، عند بدء التحركات الدبلوماسية، أن تستطيع إيران تحقيقه. ولذلك، من المتوقع، في أفضل الأحوال، أن تلتزم إيران بالاتفاق النووي وأن تحترم أحكامه خلال السنوات الأولى وأن تكون إنجازاته قصيرة الأمد.
•يدور، في الأثناء، جدل في أوساط الأجهزة الأمنية الإسرائيلية حول وجهات إيران المستقبلية وآفاق الصراع بين معسكريّ البراغماتيين والمحافظين فيها. ومن المهم التوضيح بأن المعسكر البراغماتي، أيضاً، يولي أهمية كبيرة لتعزيز مكانة إيران الإقليمية ويدعم مشروعها النووي. غير أن هذا المعسكر يدفع نحو سلم أولويات يختلف عن ذاك الذي يتبناه المحافظون ويضع مهمة إعادة تنظيم الاقتصاد الإيراني في مرتبة متقدمة من سلم أولوياته، ويشمل ذلك تقليص سيطرة الحرس الثوري على الاقتصاد وتدخله فيه. وما من شك في أن تفضيل جدول الأعمال البراغماتي سيسهم في تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة، إلا إنه من غير الممكن الآن توقع نتائج هذا الصراع. ومع ذلك، يشير تعيين أحمد جنتي، الشخصية المحافظة المتطرفة، رئيساً لمجلس الخبراء المسؤول عن انتخاب القائد الأعلى (أو عزله)، إلى عزم المحافظين على منع إحداث تغيير جوهري داخلي في إيران.
•بمعزل عن الصراع الداخلي، تواصل إيران تطوير وتعزيز قدراتها العسكرية وتخوض سباقاً تكنولوجياً مع إسرائيل أيضاً في مجال تطوير الرؤوس الحربية طويلة المدى وفي مجال القدرات السبرانية، الدفاعية والهجومية على حد سواء. ويدل هذا الجهد على أن سعي إيران نحو الهيمنة الإقليمية لم يضعف ولم يتبدل، مع أنه جرى تقييدها على المدى القصير بفعل التدخل الاستراتيجي الروسي. وفوق هذا، لم تتغير سياستها السلبية حيال إسرائيل في أعقاب الاتفاق النووي، بل تواصل بذل جهود كبيرة ضد إسرائيل. وبالإضافة إلى حزب الله، تموّل إيران أيضا أكثر من نصف ميزانيتيّ "حماس" و"الجهاد الإسلامي" لكي تمكّنهما من العمل ضد إسرائيل. وهكذا، تبقى إيران هي الخطر الأمني المركزي على إسرائيل، سواء بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة عبر وكلائها وشركائها.
•يتمثل الخطر الفوري الناجم عن إيران في ذراعها المركزي في المنطقة، أي "حزب الله". فرغم تورطه في المعارك الدائرة في سورية، يواصل "حزب الله" العمل على تعزيز قدراته مقابل إسرائيل. وطبقاً للتقديرات الإسرائيلية، تكبد "حزب االله" نحو 1,500 قتيل في سورية يشكلون 5% من إجمالي قواته المقاتلة. وتثير هذه الخسائر التي تلحق بحزب الله حالة من الاضطراب بين الجمهور الشيعي وتؤثر سلباً، إلى حد ما، في التأييد اللبناني الداخلي لحزب الله، الذي يجد نفسه مضطراً إلى مواجهة مصاعب اقتصادية أيضاً. وتعود العقوبات التي فرضتها الجامعة العربية والسعودية بالضرر على حزب الله، لا سيما وأن تدفق الأموال من إيران ليس دون حدود، طالما أن اقتصادها لم ينتعش بعد. أما العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة ضد حزب الله وتمنعه من التوجه إلى البنوك الدولية، فقد راكمت صعوبات كثيرة أمام أدائه اليومي.
•في المقابل، اكتسب حزب الله تجربة قتالية خلال المعارك في سورية، وخاصة في إدارة المعارك العسكرية إلى جانب جيوش نظامية. فقد انكشف حزب الله في سورية على أسلحة متطورة واستولى على بعضها. من جانبها، تراقب إسرائيل عمليات بناء القوة في "حزب الله" وخططه القتالية لنقل المعارك إلى داخل حدود دولة إسرائيل. يمتلك "حزب الله" اليوم أكثر من 100 ألف صاروخ، القسم الأكبر منها صواريخ بعيدة المدى. وفي هذه الأيام، عادت الصناعات الحربية السورية إلى إنتاج قذائف مُعدّة لحزب الله، وذلك في خرق فظ لقرارات مجلس الأمن الدولي، وخصوصاً القرار رقم 1701 الذي صدر قبل عقد من الزمن، مع انتهاء حرب لبنان الثانية. وإلى جانب ذلك، تواصل إيران تزويد "حزب الله" بوسائل قتالية متطورة، ظاهرياً مُعدّة للاستخدام في المعارك الجارية في سورية، غير أن جزءاً كبيراً منها معدّ، في الحقيقة، للقتال ضد إسرائيل. إن الهدوء المخيّم على حدود إسرائيل الشمالية، قبالة "حزب الله"، مصدره الردع الإسرائيلي، لكن لا يجوز الافتراض بأن هذا الردع سيبقى قائماً لوقت طويل.
•يسود التقدير في إسرائيل بأن سورية لم تعد موجودة كوحدة سياسية واحدة وبأن احتمال إعادة توحيدها من جديد ضئيل جداً. تمثل سورية كارثة إنسانية واستراتيجية واحتمال التوصل إلى تسوية فيها ليس كبيراً. ومن الصعب رؤية كيف سيكون بالإمكان التوصل إلى اتفاق دولي بشأن مستقبل سورية وإخراجه إلى حيز التنفيذ، بينما لا يزال مجرد التوصل إليه موضع شك. الصمت الدولي عن جرائم الحرب التي يقترفها النظام هو أمر مروّع ويلقي بظلال معيارية ثقيلة على المجتمع الدولي.
•التهديد الذي يشكله "داعش" على إسرائيل كان حتى اليوم محدوداً. لكن، على الرغم من تراجع قوة هذا التنظيم، فإنه لا يزال قادراً، هو وأذرعه المختلفة، على تشكيل تهديد أكثر جدية في المستقبل. في السنة الأخيرة، فقد تنظيم "الدولة الإسلامية" أرصدة كثيرة، سواء من حيث المناطق التي كان يسيطر عليها أو من حيث مدخولاته من عائدات النفط. والتجند الدولي والإقليمي أدى إلى دحر "داعش" في سورية وفي العراق، على السواء. كما تلقّت امتداداته في شمال أفريقيا وشبه جزيرة سيناء خصوصاً ضربات قاسية ومنيت بخسائر فادحة. لكن إضعاف "داعش" قد يزيد من دوافعه لتنفيذ عمليات تفجيرية في أوروبا والشرق الأوسط، وقد تكون إسرائيل هدفاً لإرهاب "داعش"، في الجبهة الجنوبية بشكل خاص. ومع ذلك، فإن صورة نهاية يبدو فيها "داعش" مجرداً من أرصدته كلياً، والدول العظمى مغادرة المنطقة، مع بقاء المحور الراديكالي بقيادة إيران على حاله ولديه قدرات ووسائل قتالية متطورة ـ هذه الصورة ليست في صالح إسرائيل.
•إن تعامل إسرائيل مع سيناريو التهديد الإرهابي من جانب "داعش" أو مع سيناريو نهاية تعزز مكانة إيران ومحورها الراديكالي، يستلزم رداً عسكرياً أمنياً إلى جانب خطوات سياسية واستراتيجية تبتغي ممارسة التأثير في تصميم ورسم صورة النهاية للحرب السورية وفرصة اجتثاث "داعش"، نهائياً.
•ليس من الواضح أيضاً مستقبل الساحة الأقرب إلى إسرائيل - الساحة الفلسطينية. فموجة "إرهاب الأفراد" تشهد تراجعاً ولم تنجح في حشد الشارع الفلسطيني خلفها، وهذا يعكس محدودية تأثير "حماس" خارج قطاع غزة، من جهة، والحنكة التي تعاملت بها إسرائيل مع هذه الموجة، من جهة أخرى، حين امتنعت عن فرض عقوبات جماعية، بالرغم من الضغط الجماهيري عليها. وفي المقابل، تحقق محاولات رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، الرامية إلى تدويل الصراع وخوض معركة سياسية ضد إسرائيل نجاحات وإنجازات محدودة جداً فقط. ويثير رفض عباس المستمر الدعوات لتنظيم عملية انتخاب وريث له علامات استفهام حادة في ما يتعلق بمستقبل السلطة الفلسطينية. وتزداد الشكوك حيال المستقبل على خلفية القطيعة التي تبدو في الأفق بين القيادة القديمة والجيل الشاب، الذي هو بمثابة لغز. وإجمالاً، يُحجم الجيل الشاب عن الانضمام إلى التنظيمات وينخرط بعض منه في "إرهاب الأفراد". وهذا ما قد يؤدي إلى استئناف "إرهاب الأفراد".
•ثمة تشابه غير قليل بين سلوك "حماس" وسلوك "حزب الله" حيال إسرائيل. ويبدو أن "حماس" أيضاً مردوعة عن القيام بخطوات تجرّ إلى التصعيد، لكنها في المقابل توظف موارد كثيرة وكبيرة في تصنيع وإنتاج وسائل قتالية وفي حفر الأنفاق الإرهابية. ومع ذلك، يبقى احتمال حصول تغيير سريع وغير متوقع في الجبهة مقابل "حماس" أعلى منه في الجبهة اللبنانية، وذلك على خلفية استمرار الأزمة الإنسانية في قطاع غزة، والتي تتجسد في انعدام البنى التحتية الكافية في مجالي المياه والكهرباء، إلى جانب معدلات مرتفعة جداً من البطالة. ويكمن التحدي المركزي على هذه الجبهة في محاولة كسر دائرة العنف والهدم الدورية وتحسين مستوى حياة السكان، من دون تعزيز قوة "حماس" وقدراتها. وتستلزم مواجهة هذا التحدي بفاعلية المزج ما بين إظهار القوة العسكرية، من جهة، والتعاون والتنسيق الاستراتيجيين مع لاعبين إقليميين آخرين، من جهة ثانية.
•ثمة حاجة، في هذه البيئة الإقليمية والعالمية التي تمتاز بهذه الدرجة العالية من عدم الاستقرار والغموض، إلى الإبقاء على حالة التأهب والاستعداد الاستراتيجي والأمني للتمكن من مواجهة التطورات المتسارعة وغير المتوقعة. ويقدم صعود "داعش" وانتشارها مثل النار في الهشيم نموذجاً واضحاً على تطور من هذا القبيل. وهو الحال أيضاً بالنسبة لمجريات الثورة في مصر بما أفرزته من إيصال "الإخوان المسلمين" إلى سدة الحكم لفترة وجيزة. مثل هذه الأحداث قد تحصل في منطقة قريبة جدا من الحدود الإسرائيلية وقد يكون لها، بالتالي، تأثير أكثر جدية وفورية على وضع إسرائيل الأمني وعلى احتمالات التصعيد والتورط في مواجهة مسلحة.
استعداد إسرائيل للحروب وللمواجهات المسلحة
•وضع إسرائيل، على خلفية التحولات الإقليمية، تحسَّن من الناحيتين الأمنية والاستراتيجية وأصبحت تمتلك قوة ردع تردع بواسطتها أعداءها وخصومها المجاورين لحدودها، لكنها تعيش في عين العواصف، في قلب بيئة معقدة وقابلة للانفجار.
•إسرائيل هي الطرف العسكري الأقوى في المنطقة وتمتلك قدرة على التأثير الإقليمي أكثر من ذي قبل. ويُنظر إليها في المنطقة كدولة قوية ذات قدرات وإمكانيات كبيرة وغير متوقعة. وتشكل هذه الصورة رصيداً مركزياً وهاماً ينبغي المحافظة عليه، لأنه يكرّس الصورة الردعية واستقرار إسرائيل الاستراتيجي المتين في المنطقة، رغم أن هذه الصورة وهذه المفاهيم تشكل أحياناً مصدراً لانتقادات دولية تحدّ من مشروعية استخدام القوة العسكرية، حتى في حالات الدفاع عن النفس. ومع ذلك، يبدو أن إسرائيل تحجم عن استخدام صورتها الإقليمية وتمتنع عن التصرف كدولة عظمى إقليميا.
•من ناحية، يبدو احتمال اندلاع حرب تقليدية متدنياً جداً، بل هو قريب من الصفر. إلاّ إن احتمال تطور دينامية التصعيد مقابل عدويّ إسرائيل المركزيين، "حماس" و"حزب الله"، سوية أو كل منهما على حدة، هو احتمال كبير جداً، حتى وإن كانت جميع الأطراف ذات الصلة غير معنية بذلك.
•صحيح أن التنظيمات الإرهابية لا تمتلك قدرات عسكرية كالتي توفرت للجيوش العربية، التي شكلت في الماضي الأعداء الأكثر جدية لإسرائيل، وفي الحالة السورية حتى بضع سنوات قليلة فقط. لكن، ينبغي أن نتذكر أنه في الوقت الحالي قد تنطوي العمليات الإرهابية التكتيكية على انعكاسات استراتيجية هامة بالنسبة لإسرائيل. وفوق ذلك، أدت المواجهات العسكرية غير المتوازية مع التنظيمات الإرهابية، والتي ميزت المواجهات المسلحة خلال العقود الأخيرة، إلى نشوء نمط قتالي جديد ينطوي على إسقاطات استراتيجية وعملانية تشكل تحدياً لإسرائيل في مواجهة اللاعب الدولتي، الذي يمتلك القوة العسكرية التقليدية. وفي أعقاب سلسلة المواجهات المسلحة التي شاركت إسرائيل فيها خلال العقد الأخير، جرى تضمين هذه الاسقاطات في استراتيجية الجيش الإسرائيلي، في مفهوم تفعيل القوات وفي سيرورات بناء القوة.
•أولاً، في هذه المواجهات، يجد اللاعب الدولتي صعوبة في تعريف الإنجاز المطلوب تحقيقه على المستوى العملاني التنفيذي. وعلاوة على ذلك، يتحول احتلال منطقة ما والسيطرة عليها من حل للمشكلة إلى مشكلة، كما تغيرت مسألة الوقت. وإذا كانت القيادة السياسية في الماضي بحاجة إلى "شراء" الوقت كي يستطيع الجيش إتمام مهمته، فإن استمرار المعركة اليوم هو في غير صالح اللاعب الدولتي. وعليه، لا تنجح هذه المواجهات في إنجاز يتّسم بحسم واضح و"صورة انتصار".
•ثانياً، صحيح أن هذه المواجهات لا تشكل تهديداً وجودياً للدول، لكن التهديدات في الحالة الإسرائيلية تصدر عن لاعبين غير دولتيين موجودين بالقرب من حدودها. ولذا تغيرت التهديدات المتصلة بالحرب التقليدية التي تجري مباشرة بين دولتين. وأكثر من ذلك، ثمة تعاظم في قوة اللاعبين غير الدولتيين، من حيث امتلاكهم قدرات نيران شديدة متمثلة في القذائف ذات المسار المنحني، وإمكانية اختراق فعلي للأراضي الإسرائيلية، وفي هذا ما يغيّر وجه المعركة وصورتها تماماً.
•يحتل خطر النيران وخطر الاختراق مكانة مركزية في سياق التهديدات الراهنة. وينعكس هذا، بصورة جلية، في التغيير الذي طرأ على العلاقة بين الجبهة الداخلية والجبهة الخارجية. ففي المواجهة المسلحة المستقبلية مع "حزب الله"، ستكون تجربة الحرب القادمة في الجبهة الداخلية أقسى بكثير مما كانت عليه في أية حرب من حروب إسرائيل السابقة. صحيح أن إسرائيل الآن أقوى مما كانت عليه في أي وقت مضى وهي قادرة على إصلاح وترميم ما تتكبده من أضرار وخسائر جراء الحرب القادمة، إلاّ إن الطريق إلى تحقيق إنجاز عسكري لن تكون سهلة، وستجبي الحرب ثمناً باهظاً. فحزب الله سوف يوظف في الحرب المقبلة، على الأرجح، جهودا كبيرة جدا من أجل تحقيق إنجاز برّي في داخل الأراضي الإسرائيلية، ولو لوقت قصير ومحدود. ومثل هذا الاحتمال يحتّم على إسرائيل ليس الاستعداد العسكري المناسب فحسب، وإنما أيضاً إدخال تحسينات جدية جداً على إدارة الجبهة الداخلية. بعد مرور عقد من الزمن، ثمة مكان للأمل بأن إسرائيل قد أحسنت استخلاص العبر من حرب لبنان الثانية في كل ما يرتبط بالاهتمام بالجبهة الداخلية وأنها تستعد لمواجهة نمط العمل المحتمل من جانب "حزب الله" المتمثل في محاولة اختراق الحدود والسيطرة لوقت قصير على منطقة ما في داخل إسرائيل. ومع ذلك، من المهم التذكير بأن الثمن الذي سيجبى من الطرف المقابل سيكون أقسى بكثير جداً وأن قدرته على الإصلاح وإعادة التأهيل في المدى القصير ستكون موضع شك كبير. من جهتها، تؤكد مصادر عسكرية أن إسرائيل على أتم الجاهزية والاستعداد لمواجهة "حزب الله" في أي وقت. وفي تقديرها، أنه لم يحصل من قبل أن عرف جيش ما عن عدو له مثلما يعرف الجيش الإسرائيلي عن "حزب الله" الآن. وتقول هذه المصادر أيضاً إنه يمكن الافتراض بأنه إذا كان قادة "حزب لله" الكبار يعرفون قدرات إسرائيل وماهية المعلومات الاستخبارية التي في حوزتها عنهم، فلن يفكروا بالمخاطرة وخوض المواجهة.
•تكتسب "المعركة بين الحربين" في هذه الظروف أهمية مضاعفة. الفترة الزمنية بين المواجهات العسكرية تصبح حاسمة من ناحية محاولة منع دينامية تصعيد يبدو أن الطرفين غير معنيين بها، ومن ناحية تعزيز الجاهزية العسكرية لأي تصعيد محتمل. وخلال هذه الفترة، ثمة حاجة إلى جهد كبير للمحافظة على الصورة الردعية وصيانتها، وللجم وإحباط محاولات الأعداء الحصول على أسلحة متطورة ومتقدمة قدر الإمكان.
•تعكس عملية بناء القوة في الجيش الإسرائيلي خلال هذه السنوات التغيرات المحتملة في ساحة الحرب المتوقعة. علنية هذه العملية ـ وإن كانت محدودة، لأسباب ودواع مفهومة - تكتسب أهمية قصوى أيضاً في مجال المحافظة على صورة إسرائيل الرادعة. في المواجهات المستقبلية، من المتوقع أن يعتمد الجيش الإسرائيلي أكثر فأكثر على العمليات المتعددة الأذرع الموجهة نحو الهدف، والتي تدمج، بواسطة اتصالات شبكية، تشكيلة واسعة من القوات، بما فيها الوسائل المُستخدَمة والموجَّهة عن بُعد. ويتيح هذا النمط من العمل توظيف القوة العسكرية الإسرائيلية على أفضل وجه، ومن المفترض أنه يخلق تفوقاً استراتيجياً واضحاً حتى في المواجهة المسلحة مع لاعب غير دولتي أيضاً. وفي الوقت نفسه، ستكون المحافظة على حصانة وسلامة سلاح الجو مهمة حاسمة. فـ"حزب الله"، بدعم إيراني، سيبذل كل ما في وسعه للمس بقدرات هذه الذراع الاستراتيجية، سواء المسّ بالطائرات نفسها أو بقواعد سلاح الجو أو بشبكات الاتصال بين سلاح الجو والأذرع الأُخرى من القوات المحاربة، وبواسطة الحرب السبرانية أيضاً.
•مع ذلك، فإن الرد العسكري، المتمثل بمنع التصعيد، سواء "في المعركة بين الحربين" أو أثناء القتال، ليس كافياً وحده. فقد أكدت المواجهات العسكرية خلال العقد الأخير مركزية المركّب السياسي الاستراتيجي في العمل فيما يتعلق بالدول العظمى. فالتنسيق الاستراتيجي الحالي مع روسيا يتيح اليوم حماية مصالح إسرائيلية حيوية في الساحة السورية. كما شكل التنسيق الاستراتيجي مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية عنصراً مركزياً إبان حرب لبنان الثانية، وإبان العمليات العسكرية مقابل "حماس" في قطاع غزة أيضاً. لكن المعركة الأخيرة في غزة - عملية "الجرف الصامد" - أبرزت أهمية توافق المصالح بين إسرائيل والكتلة البراغماتية بين الدول العربية السنيّة. ففي تلك المعركة، لعب التنسيق الاستراتيجي مع مصر، ومع السعودية أيضاً بصورة غير مباشرة، دوراً مركزياً في منع "حماس" من تحقيق أية مكاسب أو إنجازات.
•يصف مسؤولون أمنيون إسرائيليون العلاقات المتنامية مع الدول العربية البراغماتية بمصطلحات "العصر الذهبي" التي تعكس مردوداً أمنياً مميزاً. هذه العلاقات تتكئ على سيرورة من توافق المصالح عمرها سنوات، بدأت في العقد الماضي وتتعمق اليوم. كانت البداية في إدراك أن التهديد الإقليمي المتمثل في إيران يشكل قاسماً مشتركاً بين دول الخليج السنّي وإسرائيل، واستمر التوافق مع تصاعد الخطر من جانب عناصر جهادية راديكالية، مثل "القاعدة" و"داعش". وهكذا، فإن تصدّي مصر لتنظيم "داعش" في سيناء يخدم مصالح إسرائيل الأمنية. ومن المنطقي الافتراض بأنه على الرغم من غياب التوقيع الواضح، فإن إسرائيل تبذل كل ما في وسعها من أجل مساعدة مصر في هذه المعركة. أما التنسيق والتعاون الأمنيان مع الأردن، فقد أديا إلى إحباط عدد من محاولات التسلل إلى داخل الأراضي الإسرائيلية.
•وهكذا، تشير السياسة الإسرائيلية الساعية إلى توسيع مدى تأثير الدبلوماسية الإسرائيلية وتوسيع العلاقات الاستراتيجية مع الدول المجاورة القريبة إلى الأهمية المتزايدة للعملية السياسية، إلى جانب الإجراءات العسكرية "في المعركة بين حربين"، في مواجهة التحديات الأمنية في البيئة غير المستقرة المحيطة بإسرائيل.